وليد علاء الدين يكتب: تجليات الذات الساردة

وليد علاء الدين
وليد علاء الدين

 لم يعد ثمة وجود فعلى لمفاهيم الغربة والبعد -بالمعنى الجغرافي- إلا فى حدود ضيقة ذات صلة بطبائع الأفراد واستعداداتهم النفسية.

ما السرد؟ وما الوطن؟ ومتى نكون خارجه؟ وفى أى شيء قد يختلف السرد خارج الوطن عن السرد داخله؟ هذه هى الأسئلة الأربعة التى استقبلتها بينما أستقبل الدعوة للمشاركة فى ملف بعنوان «السرد خارج الوطن». 
صرت مع العادة، أستقبل الخطاب على هيئة أسئلة. وأظنه استعداداً طبيعياً تعزز بحكم الانخراط طوال حياتى المهنية فى مجالات ذات صلة بتجييش الحواس فى محاولة لفهم وتلخيص ما أستقبله، حرصًا على النجاح فى نقله والتعبير عنه، كما تقتضى مهمتى سواء الصحفية أو الأدبية. 


أحد أفضل آليات التلقى والتواصل التى عززتها التجربة، تمثلت فى إعادة صياغة ما أتلقاه فى أسئلة قصيرة أعلقها على شاشة العقل، ولا أسمح لسؤال بالنزول إلا حين ينتهى دوره ليحل محله سؤال آخر. فصرت تلقائيًا أستقبل العبارات والجمل على هيئة أسئلة قصيرة أجتهد أن تمثل خلاصات ومحاور وأفكاراً للنقاش لأسمح لعقلى بالتفكير فيها.


ولعل أحدًا لم يفرح قدر فرحتى بكلمات، كما فرحت بهذه العبارة الدالة التى صدَّر بها المفكر المصرى القدير زكى نجيب محمود محاضرته المعنونة «دورنا فى ثقافة العصر» التى قدمها فى صالون الجسرة الثقافى الاجتماعى بدولة قطر، يقول: «كعادتى فى التفكير، كائنًا ما كان الموضوع الذى أتناوله لأفكر فيه، أبدأ بألفاظ العنوان نفسه، وأتأملها.

وفى كل الحالات وبغير استثناء وجدت أننى إذا حلّلت كلمات العنوان تحليلًا وافيًا، وجدت أن الجواب الذى أبحث عنه قد تدفق من تلقاء نفسه، دون أن أسعى إليه».  فاطمأننت إلى أن عقلى بخير. 


ما السرد إذن؟ 
السرد - وفق أقرب تعريف لغوي- هو صنع منتج من مجموعة أجزاء، كل منها - منفصلًا عن البقية - هامشى وبلا قيمة تُذكر. تتحقق قيمته من دوره، وظيفته، ومكانه، ومدى ترابطه ببقية الأجزاء، لتتحقق وظيفة المنتَج الأكبر. 


وهذا المعنى هو ما يمكن استقراؤه من السياق الذى وردت فيه كلمة سرد فى تراث اللغة، فى التنزيل الحكيم والشعر العربى القديم. ويعزز هذا المعنى أن «السَّرْد» أى الدرع، هى ثوب من زرد الحديد يُلبس فى القتال.

وسميت بذلك لأنها مكونة من مجموعة حلقات «مسرودة» معاً من أجل ضمان تحقق وظيفة الوقاية من سلاح العدو. و «السَّرْدُ» -فيما بدا من بعض محاولات التفسير والتأويل فى كتاب التراث- كانت ابتكارًا أو تطويرًا لطريقة صنع الدروع قدمت مزايا إضافية أهمها أن تناسب الدرعُ شكلَ الجسد فتنساب عليه فلا تعوق حركة المقاتل، وأنها خفيفة لاحتوائها على فراغات كثيرة. 


ولكن « السَّرْد» فى مقابل هذه المزايا تتطلب حنكة وحبكة ودراية ودربة لكى لا تنقلب المزايا إلى مخاطر تودى بحياة المقاتل أو تعرضه لخطر الضربات الباترة. 


أظن من حقنا أن نسحب أطياف كل هذه المعانى والتأويلات على مصطلح «السرد» الذى استعاره المترجمون من اللغة العربية لترجمة مصطلح Narrative logy الذى وضعه تزفيتان تودوروف سنة 1959 جامعًا بين narrate وهو فعل يعنى حرفيًا: حكْى قصة بالتفاصيل.

ولكى يضفى على فعل الحكى ما يحتاج تحولُّه إلى علم Logy من وجود منهج أو صيغ أو طريقة أو معايير يجب توفرها فى الحد الأدنى، لتصبح الحكاية سردا، ولكى ينتمى التتابع فى الحكى إلى «علم الحكي» كما تقول الترجمة الحرفية، وهى الترجمة التى يقابلها مصطلح «السرد».

وما الوطن ؟
الوطن مصطلح اجتماعى ذو أطياف ثقافية ونفسية، يقابل المصطلح السياسي: الدولة. مصطلح مشتق من التوطين الذى يحمل دلالات السكن والاستقرار والألفة. والمواطنة علاقة صناعية، بمعنى أنها تنشأ وتتكون وتنمو وتتراجع وتنقلب. 


شعور المواطنة ليس فطرياً ولا جينيا، وليس متوارثًا إلا من باب ما ينتقل من أفكار ومشاعر عبر التأثير الاجتماعى والثقافي، يمكن وصف شعور المواطنة بالاختيارى - ولكن على استحياء- لأن جزءًا منه يرتبط بأمور لا خَيار للمرء فيها منها مكان الميلاد والنشأة وظروفها والبيئة الاجتماعية وطبيعة العلاقات الحاكمة لها. ولكنه فى مستواه الأعلى شعور يتشكل ويخضع للاختيار بالقبول والرفض. 


وليس أجمل من شعور بالانتماء إلى الوطن بالميلاد والنشأة والميراث، تتولد فيه الألفة وتتوفر شروط السكن - من السكينة - والاستقرار، يتعزز بالقرار الواعى المدرك للأبعاد الأخرى المكونة لمفهوم الوطن من خصوصية تجربة تاريخية وثقافية وحضارية. 

متى نكون خارج الوطن؟ 
وعند الحديث عن الوطن، قد يخلط البعض بين الوطن وأحواله. والتفرقة بينهما تحتاج قدرًا من الوعي، فالوطن يعنى الميلاد والأرض والسكن والذكريات ونسيج الأسرة والجيران والمجتمع والمكون الثقافي. 


وأما أحوال الوطن فمرتبطة بما تنجح أو تفشل فى تحقيقه الثلة المسيطرة من حكام أو أصحاب قرار ممن ينظمون العلاقات بين الوطن ومواطنيه عبر منظومة الحقوق والواجبات ومعايير العدالة والمساواة فى الفرص ومستويات حفظ الكرامة .. إلى آخر ذلك من تفاصيل تتضمنها منظومة المواطنة الواقعية - للتفرقة بينها وبين المواطنة بمعنى الشعور الشخصى للإنسان كونه مواطنًا. 


أحوال الوطن أداءات تُراوح بين النجاح والإخفاق وترتبط بأفراد، أو بتوجهات معينة طالت أو قصرت فهى مؤقتة. 
من يفهم ذلك يظل مؤمنًا بقيمة الانتماء إلى وطنه الأصيل - وإن تعددت تجربته مع أوطان قد يحقق له بعضها الجزء الكبير من معادلة الاستقرار والأمان والسكن والألفة؛ فيعيش فى وطن خارج «الوطن» من دون أن يفارقه شعوره الأصيل بالانتماء والمحبة والانشغال سواء كانت الأوطان الجديدة تمنحه «جنسية» يعيش بها أم فقط تمنحه حرية العيش بجنسيته على أرضها. 


وقد نكون إذن فى الوطن ولكن خارجه، وقد نكون خارج الوطن ولكن فى القلب منه. فالخارج والداخل هنا ليسا من الجغرافيا، وإنما وجهه انتماء مركبة شديدة التعقيد، حداها المتطرفان مخيفان: الشوفونية والتعصب الأعمى من جهة، أو الكفر بالوطن على الجهة الأخرى. 


ماذا بعد بقى من الأسئلة التى طرحها على عنوان الملف «السرد خارج الوطن»؟ بقى السؤال الرابع: فى أى شيء قد يختلف السرد خارج الوطن عن السرد داخله؟ 
وفى ظنى أنه لم يعد سؤالًا، لا نحتاج سوى مد جسور الوصل بين مفهومى السرد والوطن لتتجلى العلاقة بينهما سواء داخل الوطن أم خارجه كونها مرتبطة بالذات الساردة.

فإذا كان السرد وسيطًا جماليًا مرَّكبًا الهدف منه مشاركة الذات الإنسانية المحدودة، مع الآخر المطلق غير المحدد، بصيغة أخرى هو وعاء تعبير فنى شديد الخصوصية يعبئه السارد عن وعى ومن دون- بتفاصيل رؤيته للكون وكائناته وأفكاره ورؤاه وانطباعاته وهلاوسه وأحلامه البسيط منها والمركب.

والواقعى منها والفانتازي، الشخصى منها والعام.  وإذا كان الوطن هو ذلك المكون الأصيل من مكونات الذات الساردة، أيًا كان شكل علاقتها به سلبًا وإيجابًا، وما بين السلب من محاولات توازن تميل نحو أى من الجهتين.

وإذا كان الأمر كذلك، وفى ضوء هذين التعريفين فلا شك فى أن هذه العلاقة بكل أطياف ظلالها ستنعكس بشكل أو بآخر فى تجليات الذات الساردة بحيث يمكن للقارئ التقاط هذا الانعكاس حتى من خلال فهم وتأويل غياب الوطن.


وثمة طيف أخير لفكرة داخل/ خارج الوطن: هذا التحليل ليس صالحًا للتطبيق قبل سنوات الثمانينات من القرن العشرين كحد أقصى، إذ كان مفهوم الغربة، ربما إلى حد تلك السنوات وبالطبع ما قبلها- شديد الوطأة، مسكونًا بهواجس تتعلق بعنصرى المسافة والزمن اللذين سقطا على مراحل إلى أن وصلنا إلى اللحظة الراهنة التى يبدو لى فيها أن عاملى الزمن والجغرافيا قد سقطا بحكم التطور التكنولوجى المذهل الذى ألغى عامل الوقت.

وقضم حواف المسافات حين نقل كل العالم إلى كل العالم فى كل لحظة. لم يعد للوقت والمسافة تلك القبضة المسيطرة على الذات، وبالتالى لم يعد ثمة وجود فعلى لمفاهيم الغربة والبعد -بالمعنى الجغرافي- إلا فى حدود ضيقة ذات صلة بطبائع الأفراد واستعداداتهم النفسية.

وليست شعورا عامة يتقاسمه كل الناس .. وبالتالى تراجعت كذلك انعكاساتهما النفسية والفلسفية والفكرية فى الكتابة وخارج الكتابة. لم يعد للحنين والفقد والشوق للأوطان أو الأشخاص ذلك الأثر الطاغى الذى يسيطر على عمل سردى مثلًا.

وتفككت تلك المشاعر إلى جزيئات أدق، ليس تقليلا من قيمتها وإنما توصيفًا لحالتها، فربما تكون فى أثرها أشد وطأة من غيرها ولكنها لم تعد قضية مسيطرة بهذا الوضوح الذى يمكن رصده فى كتابات فى مراحل تاريخية.

وكانت وسيلة التواصل الأبرز فيها رسالة مكتوبة تحملها خيل البريد أو السفن أو حتى أزمنة كان تكلفة مكالمة هاتفية عبر الجغرافيات كفيلة بجعل المرء يفضل الاستسلام لتيار متصل من الفقد والحنين والشوق للأهل والأوطان.

اقرأ ايضاً | د. أدهم مسعود القاق يكتب: إبحار فى روح الإسكندرية

نقلا عن مجلة الأدب: 
2023-2-18