دفتر الأحوال

ليس كل الصهاينة يهود

جمال فهمى
جمال فهمى

الحقيقة أنه ليس كل اليهود صهاينة عنصريين يؤمنون بالعنف والإجرام المنفلت من كل قيد قانونى أو أخلاقى وليس كل يهودى يؤيد سرقة فلسطين وغيرها من الأراضى العربية، من أهلها وتشريدهم وترويعهم بمذابح جماعية شنيعة.. 

ليس كل يهودى يؤيد بعمى وبموت ضميرى كامل، هذا الكيان العدوانى العنصرى الرابض على أراضينا المغتصبة، وإنما الحقيقة أن يهودًا كُثرًا يتمتعون بحس إنسانى مرهف وراقٍ، يجاهرون بمواقفهم النبيلة المعادية للصهيونية والممارسات الإجرامية للعدو الإسرائيلى، وهى مواقف قد تصل إلى رفض إقامة هذا الكيان من الأصل (المفكر الأمريكى الكبير ناحوم تشومسكى ومن قبله العالم اليهودى البارز ألبرت انشتاين.. على سبيل المثال لا الحصر) ، وقد انضم إلى هؤلاء جحافل من الشخصيات اليهودية البارزة فى كل مجال (منهم الكاتب الأمريكى الكبير نورمان جارى فينكلشتاين) الذين كانوا أيدوا إقامة دولة إسرائيل لكن سياساتها الوحشية أفزعتهم فصاروا مؤيدين وداعمين بصلابة للحق العربى الفلسطينى، بل إن بعضهم راجع موقفه القديم المؤيد لإنشاء هذه الدولة العنصرية من الأساس.

تلك القائمة الناصعة من اليهود أصحاب الضمائر الحية، يزينها ويقف على رأسها كاتبة يهودية عملاقة من أصل ألمانى لكنها اكتسبت الجنسية الأمريكية.. إنها «هانا آرندت» التى تمتعت باستقامة فكرية وأخلاقية جعلتها تكتب كتابا رائعا حمل عنوان «إيخمان فى القدس»، لكن هذا الكتاب فتح عليها أبواب جهنم إذ اعتبرته الأبواق الصهيونية «جريمة هرطقة لا تطاق».

فما هى حكاية الكتاب وحكاية إيخمان الذى فى عنوانه؟

وأبدأ بإيخمان أو أدولف إيخمان، فهو ضابط ألمانى خدم فى الجيش النازى أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان مسئولا عن معسكرات الاعتقال الفظيعة التى احتجز فيها هتلر عشرات الآلاف (منهم يهود وغجر وغيرهم)..

هذا الرجل اعتقلته القوات الأمريكية بعد هزيمة ألمانيا النازية لكنه تمكن من الهرب إلى الأرجنتين، وظل طليقا حتى العام 1960 عندما تمكن فريق من المخابرات الإسرائيلية من اختطافه ونقله إلى فلسطين المحتلة، حيث جرت محاكمته وسط ضجيج إعلامى هائل، بوصفه مسئولا عن تنفيذ محارق ضد اليهود فى المعتقلات النازية، وانتهت المحاكمة إلى إدانته وعقابه بالإعدام الذى نفذ فعلا فى سجن الرملة عام 1962.

أما كتاب هانا آرندت فقد حكت فيه قصة هذه المحاكمة وكيف قامت إسرائيل والحركة الصهيونية من خلفها بتضخيم القضية واللعب بها إعلاميا على نطاق واسع للتغطية على جرائم ربما لا تقل هولا وبشاعة عن جرائم النازية، وقالت آرندت ما معناه أن الدفاع الذى قدمة إيخمان عن نفسه بدا منطقيا جدا، إذ تأسس على أنه كان «موظفا تابعا للحكومة الألمانية الشرعية وقت الحكم النازى، وأنه كان ينفذ أوامر يؤمر بها ليس أكثر» ومن دون أن يفكر فى حجم الشر التى تنطوى عليه هذه الأوامر».

تمكنت آرندت من كتابة هذه القصة بعدما كلفتها إدارة تحرير مجلة «نيويوركر» الأمريكية والتقدمية آنذاك، بحضور المحاكمة وعمل تغطية صحفية لوقائعها، وقد نشرت المجلة تقارير آرندت التى جمعتها بعد ذلك وحررت على أساسها كتابها الرائع السابق ذكره والذى جلب لها متاعب وآيات من الأذى لا أول لها ولا آخر.. غير أنها صمدت منتصرة لحكم الضمير والأخلاق فلم تتراجع أبدا.