محمد فريد بك يكتب: محمد فريد والدولة العثمانية.. إعادة قراءة

محمد فريد باشا
محمد فريد باشا

لماذا الدولة العثمانية؟
خذلت الدولة العثمانية مصر عام 1882م عند هجوم الإنجليز على مصر واحتلالها، ولم تُحرِّك ساكنًا، بل كانت مواقفها المضطربة من النزاع بين عرابى وأنصاره والخديوِ توفيق، عاملًا على دعم الاحتلال، بالرغم من هذا سرى فى مصر منذ عصر الخديوِ إسماعيل مقولة: «مصر للمصريين»، و«الاستقلال» عن الدولة العثمانية.

هذا ما نراه فى صحف ومجلات ذلك العصر، مقالات شتى هنا وهناك تُبرز هذا، إمَّا على استحياء أو بصراحة واضحة، فى ذلك الوقت كان هناك تيار تقليدى يرى أن هناك رابطة إسلامية مع الدولة العثمانية، التى كانت أكبر الدول الإسلامية من حيث المساحة والقوة والتأثير.

وأن المسلمين يجب أن يتعاضدوا، وهو ما أسميه «الهيمنة الروحية للدولة العثمانية». لم يُدرك هؤلاء أن هذه الدولة فى طور الأفول والتراجع، وباتت تنكفئ على نفسها عامًا بعد عام، وتفقد أراضيها عامًا بعد عام، وتُثقل بالديون والمشكلات عامًا بعد عام.


فكك الإنجليز الجيش المصرى بعد احتلالهم لمصر عام 1882م، ولم يبقَ إلا شىءٌ رمزيٌّ منه، يُستخدم لحراسة الحدود والخديوِ وفى بعض المهام المحدودة.


إذن واقع الأمر أن لا قوة مسلحة يواجه بها المصريون المحتل الإنجليزي، فى الوقت الذى كانوا يرقبون فيه تحديث الدولة العثمانية لجيشها بمساعدة الألمان؛ لذا كانت الدولة هنا من وجهة نظر البعض ملجأً ومعينًا على مقاومة المحتل، هذا ما يفسر نزوع محمد فريد ومصطفى كامل والخديوِي عباس حلمى الثانى للنزعة العثمانية آنذاك.

فقد رأوا فيها الخلاص، خاصة مع نكوص الإنجليز بوعودهم للجلاء؛ لذا ظهر هنا فريق من المصريين يبحثون عن أمل يتعلقون به إزاء قوة غاشمة، ونستطيع تفهم السياق الذى ألَّف فيه محمد فريد كتاب: «تاريخ الدولة العليَّة العثمانية»، حيث تغيَّر موقفه من الدولة العثمانية بعدما كان متحمسًا لجهود محمد على فى الاستقلال عنها.

فبعد أن كان يرى عدم عودة مصر إلى حظيرتها فور خروج الإنجليز منها، أصبح يتمسَّك بالسيادة العثمانية عليها، ويرى أن استقلال مصر التام عنها، يجعلها مطمعًا للدول الأجنبية، ويشد النظر إلى أهمية تأييد روابط تبعيتها للدولة لصرف الإنجليز عن ابتلاعها، ذهب محمد فريد فى كتابه هذا.

إلى أن الإبقاء على دولة الخلافة الإسلامية إبقاء للإسلام نفسه؛ لأن الدولة العثمانية دافعت عن المسلمين ضد جميع دول أوروبا المسيحية، وانتهى إلى أن المسألة الشرقية حلقة من حلقات الصراع بين الدولة العثمانية والقوى المسيحية.

ومن ثم فهى مسألة دينية وليست سياسية. ويستمر فى السعى لتأكيد الولاء للدولة، فأشاد بحملة اكتتاب المصريين لمساعدة الدولة العثمانية فى حربها ضد اليونان عام 1897م، ورأى ذلك دليلًا على زيادة «الإحساسات الوطنية عند المصريين».


إن هناك بُعدًا مهمًّا يغيب عن الكثيرين، وهو الوجود التركى فى مصر، ممثلًا فى طبقة كبار الملاك للأراضى الزراعية وأصحاب المناصب العُليا والنفوذ، هؤلاء كان هواهم وميلهم بالسليقة للتبعية للدولة العثمانية.


ومحمد فريد من هذه الطبقة، إذ جاء جده إلى مصر خلال سنى الفتح العثمانى لها، وظلت أسرته تتوارث أرفع المناصب فى الدولة، فمن الطبيعى ألا يجد أى غضاضة فى تبعية مصر للدولة العثمانية، وهى رابطة جامعة لأصوله التركية ونشأته المصرية.


ولكن المفارقة بين مَن يرون أن مصر للمصريين، أو مَن يرون أن نتعاون مع الإنجليز إلى أن يقضى الله أمرًا ويرحلون عن مصر، أو أن مصر يجب أن تكون ضمن دائرة الدولة العثمانية، هذه المفارقة والجدلية كانت على أشدها حين ألَّف محمد فريد كتابه عن الدولة العثمانية.

وفكأنه كان يضع رأيه فى جدل على الساحة، ثم قادت الأحداث إلى إعلان الانتداب البريطانى على مصر عام 1914م وفك الارتباط رسميًّا بين مصر والدولة العثمانية، ثم ثورة 1919م وغلبة تيار مصر للمصريين، وإلغاء الخلافة العثمانية وانكفاء تركيا على ذاتها.


وحملت الدولة العثمانية فى رحمها عوامل انهيارها وضعفها، وهو ما لم يتطرَّق إليه محمد فريد فى كتابه، فقد كان حريصًا على إظهار التاريخ الحربى للدولة العثمانية أكثر من الغوص بعمق فى تفاصيل تاريخها، وهذا كان سيرًا على درب مؤرخى عصره.


لكن نستطيع أن نلمح داخل الكتاب وعيًا تاريخيًّا لدى محمد فريد، فنراه ينتقد أسطورة نشأة الدولة والتى تقوم على رؤيا فى المنام لعثمان مؤسس هذه الدولة رواها حسب المؤرخين لشيخٍ صالحٍ أراد أن يخطب ابنته حيث يُروى أنه: «رأى القمر صعد من صدر هذا الشيخ وبعد أن صار بدرًا نزل فى صدره.

وأى فى صدر عثمان، ثم خرجت من صُلبه شجرة نمت فى الحال حتى غطَّت الأكوان بظلها، ونظر أكبر الجبال تحتها، وخرج النيل ودجلة والفرات والطونة من جذعها، ورأى ورق هذه الشجرة كالسيوف يحولها الريح نحو مدينة القسطنطينية، فتفائل الشيخ من هذا المنام وزوَّج عثمان ابنته».

وفى رأى محمد فريد أن هذه الرؤيا من وضع المؤرخين، وهو إدراك منه مبكر لم نرَه من ذى قبل فى الكتابات التاريخية للفرق بين الحقيقة التاريخية والأسطورة.


وحمل الكتاب بين صفحاته إدراكات جيدة لطبيعة تحول السلطة وممارستها فى الدولة العثمانية، كالإشارة إلى بداية تحديد سلطة الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) بتولى علاء الدين الأخ الأكبر للسلطان أورخان الأول هذا المنصب، فضرب العملة من الذهب والفضة، وحوَّل الجيوش إلى جيوش نظامية منضبطة بعد أن كانت تُستدعى وقت الحرب من القبائل.


ولكن حمل الكتاب أيضًا ما شاع بتلقيب السلاطين من آل عثمان بخلفاء المسلمين، وهى مسألة بدأت فى عهد السلطان عبد العزيز فى القرن 19م، إبان ضعف الدولة واهتزاز صورتها، فسعى السلطان عبد العزيز إلى تكتيل الرأى العام خلفه كخليفة وكسب قوة من انتشار المسلمين حول العالم، ورأى محمد فريد أن الخليفة العباسى محمد المتوكل على الله آخر ذرية الخلفاء العباسيين فى مصر، تنازل للسلطان سليم الأول حينما دخل مصر عام 1517م عن الخلافة.

وهذا أمر لم نقرأ عنه لدى المؤرخين المعاصرين لدخول سليم الأول مصر كابن إياس وابن طولون وغيرهما، فضلًا عن صمت المصادر التاريخية اللاحقة عن تلقيب السلاطين التاليين بلقب خليفة المسلمين.


كشف محمد فريد عن نصوص العديد من الاتفاقيات التى عقدتها الدولة العثمانية، والتى منحت الدول الأوروبية امتيازات وصلت إلى حد التمييز لصالح الأجانب فى القضاء، وهو ما عانت منه مصر إلى إلغاء هذه الامتيازات بموجب مفاوضات أعقبت معاهدة 1936م.

ولا نجد محمد فريد يتطرَّق إلى هذا الجانب السلبى بالرغم من عمله بالمحاماة والنيابة ومشاهدته إجحاف القضاء المختلط حقوق المصريين، لكننا نستطيع أن نفهم منح هذه الامتيازات على أن يكون لها ما يقابلها على الجانب الآخر.

ولكنك ستُفاجأ أنها هبات سلطانية ومِنَح لها عوائد مالية ضخمة على حساب الدولة وشعبها دون مقابل يُذكر سوى الصداقة والمحبة، وهذه الامتيازات التى ذكرها محمد فريد فى أكثر من موضع فى كتابه تعبر عن غرور القوة وغرور الدولة بقوتها المسلحة القاهرة لأوروبا، فكان هذا الغرور وبالًا على الدولة.


وكان انشغال الدولة العثمانية بالحروب سببًا فى تركها التجارة فى حوض البحر المتوسط تتركز فى يد التجار من جنوة والبندقية وفلورنسا حتى صارت ثروات طائلة تفوق الحد والخيال فى هذه المدن، فى وقت كان دور المسلمين من التجار فى إستنبول وحلب ورشيد والقاهرة والإسكندرية يقف عند مدنهم.

وجائت المعاهدات التى أبرمتها الدولة العثمانية لتعطى للتجار الأوروبيين الحق فى التجارة بحرية وبامتيازات غير مسبوقة، إذ عقدت الدولة العثمانية فى عام 1352م أولى معاهداتها الرسمية مع جنوة فى عهد السلطان أورخان (1326-1329م).

ومنحت بموجبها حق إنتاج وتصدير المواد الأولية التى تدخل فى صناعة الأقمشة الأوروبية فى مدينة مانيسا (Manisa) إلى جنوة، ثم أعقبتها معاهدة تجارية أخرى وقعها السلطان مراد الأول ( 1359- 1389م) مع جمهورية راكوزا فى عام 1365م.

وهى ثانى معاهدة رسمية تعقدها الدولة العثمانية مع الإمارات الأوروبية، وفى عهد السلطان سليمان القانونى (1520-1566م) عقد السلطان معاهدة منح بها امتيازات لفرنسا فى عام 1536م، فاقت جميع المعاهدات التى عقدتها الدولة العثمانية، وذلك لتميزها بتقديم تسهيلات كثيرة لفرنسا لم تقدمها الدولة العثمانية.

ومن قبل، ثم استمرت الدولة العثمانية فى عقد مثل تلك المعاهدات مع الدول الأوروبية، ولاسيما فى عهود السلاطين الذين خلفوا السلطان سليمان القانونى فى الحكم بهدف توفير السلع الرئيسية لديمومة الحروب المتواصلة، والحاجة لتنشيط حركة التجارة ولتعزيز علاقتها مع الدول الأوروبية.

ولو على حساب التجار المحليين، وكان منها معاهدة الامتيازات العثمانية الإنجليزية التى عقدها السلطان مراد الثالث (1547-1595م) مع الملكة إليزابيث الأولى (1558-1603م) فى عام 1580م. 


وهكذا لم يقتصر الأمر على الامتيازات الممنوحة لفرنسا، فقد اتسعت لتشمل دولًا أوروبية أخرى مثل: النمسا وألمانيا وروسيا، كل هذه الدول ادَّعت حقوقًا لها فى حماية المسيحيين الشرقيين، فقد ارتبطت مصالح المسيحيين الكاثوليك بفرنسا والنمسا، ومصالح الروم الأرثوذكس بروسيا القيصرية.


وهكذا لم يقُم محمد فريد عبر صفحات الكتاب بتقييم حقيقى للمعاهدات والامتيازات الممنوحة للدول الأوروبية خاصة فرنسا، وهو ما انعكس سلبًا على مصر وغيرها من ولايات الدولة العثمانية، فقد أتاحت هذه الامتيازات سبل اختراق أوروبى للبنية العثمانية وذلك بتحويلها نظام الملل العثمانى من نظام مثالٍ للتعددية والحريات الدينية والسياسية.

فى عصر عُرف بحدة الصراعات والاضطهادات الدينية، إلى نظام اسهم بفضل تسامحه وخصوصيته إلى تسهيل ربط هذه الملل بالدول الأوروبية، فقد تحوَّل ولاء أعداد كبيرة من المسيحيين العثمانيين إلى أوروبا نتيجة للمنافع التى كانوا يتمتعون بها عن طريق القنصليات الأوروبية والارتباطات الكنسية.

ومع الوقت فقد هؤلاء هويتهم العثمانية ليلتحقوا بالهوية الأوروبية التى يؤكدها قانون الوصاية ونظام الامتيازات الأجنبية.
 

اقرأ ايضاً | ماهر شفيق فريد يكتب: محمد عناني رحلة عمر بين لغتين