ماهر شفيق فريد يكتب: محمد عناني رحلة عمر بين لغتين

صورة موضوعية
صورة موضوعية

 لا أرمى فى هذه الكلمة إلى الحديث عن علاقتى الشخصية بمحمد عنانى، صديق العمر الذى رافقته فكريا وأدبيا على امتداد أكثر من ستة عقود منذ عام 1962، ولا أرمى إلى الحديث عن جوانبه المختلفة أستاذا جامعيا وناقدا وكاتبا مسرحيا وشاعرا وروائيا ومحررا، ذلك أن كل جانب من هذه الجوانب بحاجة إلى بحث مفصل حيث إنه جمع بين غزارة الإنتاج ورفعة المستوى الفكرى، وكان أيضا وهو الذى أتم حفظ القرآن الكريم فى طفولته وأشرب منه بلاغة العربية فى أصفى ينابيعها ضليعا فى الإنجليزية على نحو لم يتوافر إلا لدى أساتذة كبار من جيل سابق مثل لويس عوض ومجدى وهبة وسعد جمال ومحمود المنزلاوى ومصطفى بدوى.

 

وكان إلى جانب معرفته الوثيقة بعروض الشعر العربى معجميا وضع كتاب المصطلحات الأدبية الحديثة: دراسة ومعجم إنجليزى عربى» ومعجم المختصرات الإنجليزية والأسماء المختصرة» إلى جانب كتاباته عن تعريب المصطلح، وعن الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق، وعن مصطلحات الفلسفة الوجودية عند مارتن هايدجر، وعن مصطلحات علم النفس التحليلى عند كارل جوستاف يونج.

 دون عنانى سيرة حياته فى أربعة مجلدات هى: واحات العمر، واحات الغربة، واحات مصرية، حكايات من الواحات. وفى هذه المجلدات، وكذلك فى روايته الوحيدة المسماة «الجزيرة الخضراء»، نتتبع مسيرة طفل نابغ من مدينة رشيد جاء إلى العاصمة.

والتحق بمدارسها وجامعتها ثم سافر إلى بلاد الجليد والضباب والدخان قضى فيها عشر سنوات أعد أثناءها أطروحته للدكتوراه بجامعة ريدنج عن الصورة الشعرية عند أبى الرومانتيكية الإنجليزية وليم وردزورث.

والتحم بالحياة الثقافية الإنجليزية دون أن يفقد صلته بالثقافة العربية من خلال أحاديث وترجمات كان يوافى بها القسم العربى فى محطة الإذاعة البريطانية، واقترن برفيقة عمره الناقدة المسرحية الدكتورة نهاد صليحة وأنجبا ابنة موهوبة فى الأدب والموسيقى على السواء  هى الدكتورة سارة عنانى.

 

ومن خلال تدرجه فى العمل الجامعى أشرف على عشرات الأبحاث من رسائل الماجستير والدكتوراة فى مختلف الجامعات المصرية، ورأس مجلس قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، ورأس تحرير مجلة «المسرح» متلقفا الشعلة من أستاذه رشاد رشدى.

وأشرف على النشر فى الهيئة المصرية العامة للكتاب، وعلى سلسلة الألف كتاب الثانية، وعلى سلسلة الأدب العربى الحديث مترجما إلى الإنجليزية وقد صدر منها قرابة أربعين رواية ومسرحية ومجموعة قصصية لعدد من أدبائنا من ثلاثة أجيال.

كذلك سجل فى هذه السيرة الذاتية تجربة المرض الأليم الذى اجتازه بعزم الرجال وصلابتهم، ومقارناته بين جوانب الحياة فى مصر وبريطانيا، وذكرياته عن الشخصيات التى التقى بها وتعامل معه وملاحظاته على الحياة الجامعية والأدبية والمسرحية فى مصر.


وإنما أريد أن أتوقف هنا عند جانب واحد من جوانب عنانى هو جانب المترجم إلى الإنجليزية وعنها، إنه الرجل الذى نقل إلى العربية أكثر من عشرين مسرحية كاملة لشكسبير ما بين مآسٍ وملاه، ومسرحيات تاريخية، مراوحا في ترجمته بين النثر والنظم، وهو مترجم ملحمتى ميلتون، الفردوس المفقود  و «استعادة الفردوس».


وكتب لويس عوض على صفحات «الأهرام» مثنيا على ترجمته هذه تحت عنوان «درس فى الترجمة»، ومن ترجماته الأخرى مسرحية كريستوفر مارلو «يهودى مالطة»، وقصيدة بايرون الطويلة «دون جون، ومختارات من شعر وردزورث وكولردج  وشلى وكيتس وتنيسون، ورواية روبرت لويس شثنسون» دكتور جيكل ومسترهايد.

ورواية رديارد كيلنج التى تدور أحداثها فى الهند زمن الاستعمار البريطانى «كيم»، ورواية «عيد ميلاد جديد»  لآليكس هيلى مؤلف  المسلسل التليفزيونى «جذور»، ومسرحيات هارولد بنتر التى يلعب فيها الصمت دورا لا يقل أهمية عن دور الكلام.

وأعمالا لإدوارد سعيد (أهمها كتابه  «الاستشراق» وترجمة عنانى تتفوق بمراحل على ترجمة كمال أبى ديب لنفس الكتاب) و(برنارد لويس وكارين آرمسترونج بالاشتراك مع فاطمة نصر) وعالم اللغة الأمريكى تشومسكى.


وإلى الإنجليزية نقل عنانى عملين من إسلاميات طه حسين هما «الوعد الحق» والجزء الأول «على هامش السيرة»، وكتابا عن هليوبوليس مدينة الشمس، ومسرحية «محاكمة رجل مجهول» لعز الدين إسماعيل، ومسرحيتى «مسافر ليل» و «ليلى والمجنون» لصلاح عبدالصبور.

ومجموعة قصصية لمنى رجب، وكتابا عن الموسيقى فى مصر القديمة لمحمود الحفنى، وكتابين لمصطفى محمود هما تفسيره الهدى للقرآن الكريم، وموقفه من الماركسية، ودواوين شعرية لفاروق شوشة وفاروق جويدة ومحمد الفيتورى ومحمد آدم وحبيبة محمدى.

وكتابا لعثمان الخشت عن تجديد الفكر الدينيو وقصائد لـ عبدالمعطى حجازى وصلاح جاهين وأمل دنقل وعفيفى مطر ومن تلوهم من شعراء السبعينيات والثمانينيات، ومن هذا الحصاد الغزير أود أن أخص بالذكر أربعة من أعماله.


العمل الأول هو ترجمة سونانات شكسبير الكاملة شعرا (154 سوناتة) مع قصائد وتعليقات نقدية على كل سوناتة وتعريف بظروفها التاريخية وصلتها بحياة شكسبير وعصره.


والعمل الثانى هو كتاب «مصر فى الشعر الإنجليزى فى القرن 19: قصائد لأربعين شاعراً ويضم قصائد لشعراء بريطانيين وأمريكيين عن تاريخ مصر وآثارها، عن نهر النيل بين ثلاثة شعراء إنجليز هم لى هنت وشلى وكيتس، عن الأهرامات وأبى الهول والمسلات عن  هيردوت أبى التاريخ ورمسيس الثانى، عن قصة غرام أنطونى وكليوباترا، عن إطباق أمواج البحر الأحمر على فرعون وجنوده، عن معبد أنس الوجود وتمثالى ممنون ومعبد الكرنك.


 الكتاب الثالث عنوانه «المختار من شعر د. هـ. لورانس»، كثيرون يعرفون الأديب الإنجليزى لورانس المشهور بمعالجته الصريحة للجنس  روائيا من خلال أعماله «أبناء وعشاق» «قوس قزج» و «نساء عاشقات» و «عشيق الليدى تشاترلى» وغيرها، ولكن القليلين يعرفونه شاعرا.


 وهذه هى الفجوة التى يسدها الكتاب، فهو يكشف عن موهبة لورانس فى الشعر الغنائى والقصصى على السواء، وعمق إحساسه بالطبيعة البكر، ودقة ملاحظته للطير والحيوان والزهر. واشتباك العلاقات الانسانية بين الرجل والمرأة.

وتطلعه إلى بناء حضارة جديدة  لا تعلى من شأن العقل البارد المجرد علي حساب اللحم والدم ومطالب الغريزة والعاطفة، ومن قصائد الكتاب قصيدة عنوانها «بيانو» وتصور لورانس طفلا يجلس عند قدمى أمه وهى تعزف على البيانو.. وتفيض القصيدة بالنوسطالجيا (الحنين) إلى طفولة الشاعر وتوقه إلى زمن غابر.


 والعمل الرابع- هو آخر ما جرى به قلم عنانى فى ميدان الترجمة - رواية مجهولة لطه حسين عنوانها «خطبة الشيخ». ولهذه الرواية قصة فقد كشف جابر عصفور فى 2017 النقاب عن هذه الرواية التى نشرت  مسلسلة فى مجلة «السفور» الشعرية فى القاهرة عامى 1916 و 1917 .


 وأصدر جابر عصفور الرواية فى كتاب مع مقدمة نقدية تبين أنها كانت أول عمل روائى لطه حسين وقد كتبه أثناء بعثته الدراسية للحصول على درجة الدكتوراه فى فرنسا، والرواية مكتوبة فى شكل رسائل متبادلة بين خمس شخصيات، تجرى أحداثها فى 1913 وتتناول قضايا من قبيل حقوق المرأة وواجباتها، وخروجها إلى ميدان العمل، ومشاركتها فى الفضاء العام، وطبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى، ومؤسسة الزواج وكلها قضايا ساخنة مازالت مثارة حتى اليوم.


 ظل محمد عنانى حاملا قلمه. سائحا بين لغتين، حتى النهاية، كان فى سباق مع الزمن ومع المرض العضال، لم يثنه عن مواصلة العمل آلام البدن ولا أشجان النفس بعد رحيل شريكة حياته، وخلف علما ينتفع به.

وتخرجت من تحت يديه أجيال كاملة من الطلاب والدارسين والباحثين أصبح بعضهم الآن أساتذة مرموقين، رحل إلى دار لا لغو  فيها ولا تأثيم، ولكنه خلف وراءه تراثا دائم الخضرة، متجدد الرواء لا يعتريه ذبول ولا تعدو عليه عوادى النسيان.

اقرأ ايضًا | القومي للترجمة يعلن عن الفائزين بمسابقة فؤاد حداد