قضية ورأي

د. هبة جمال الدين تكتب: هل كانت جدتي أمهر مني الآن؟

ا. د هبة جمال الدين
ا. د هبة جمال الدين

سؤال أصبح يدور في ذهني طويلا ، أفكر فيه حينما أنظر لأوضاع التقشف الذي نعيشه الان. سؤال يقدح ذهني مرارا ولا أجد إجابة عليه؛ فقد كانت جدتي ريفية جاءت مع زوجها من الريف للحضر، ولكنها احتفظت بطابعها الريفي الذي كان يثير لدي كثير من التساؤلات وأنا طفلة ؛كنت أطرحها عليها، لماذا أنت مختلفة يا جدتي لماذا تطهين أنواع مختلفة من الطعام ، لماذا تخبزين الخبز بنفسك ولماذا هو مختلف عن أفران المدينة، لماذا تجدين المتعة في تربية الطيور والماعز، نحن في المدينة ألا تلاحظين أنك مختلفة؟ 
ولكنها كانت بأختلافها أكثر سعادة وربما ترشيده ومهارة فكانت منتجة بأقل الإمكانيات كانت تدبر أمورها. 
لم تكن تلهث خلف الموضة والماركات التي نهتم بها الآن، فحافظت علي ملابسها الريفية حتي وفتها المنية ، لم تستهويها الفساتين والتيرات والأناقة وبيوت الأزياء الحديثة، ولكن كانت ألوانها زاهية جميلة محتشمة، والآن أشاهد بعض الشابات ترتدين منديل شعر جدتي كموضة كنت استغربها. فكانت أكثر تمسكا بهويتها وتتسم بالعملية  والبساطة بل وأكثر رشادة. فالآن أصبحت الملابس العصرية باهظة الاثمان دون ذوق أو حشمة أو جمال. ومن لا يقدر الان يلجأ إلي شراء البالات هوسا بالماركات، فلا يبالي بارتدائه لملابس مستعملة عكس جدتي، التي كانت تفصل ملابسها بأناقة مصرية خالصة لا ترتدي ملابس غيرها، فهل كانت أكثر اعتزازا بنفسها؟
الأسعار الجنونية اليوم دفعتني للتفكير لتحويل البلكونات لصوب زراعية لزراعة الفاكهة والخضار لتأمين الغد، ولكنني وجدت أنني لا أجيد الزراعة لم أتعلمها، وأنا في هذه المرحلة العمرية، وجدت نفسي عاجزة عن تقليد جدتي الفلاحة البسيطة الماهرة في الزراعة. 

وفكرت أيضا في تربية بعض الطيور والماعز لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ولكنني تذكرت أن نموذج البناء الحديث يمنع تربية الطيور والماعز في المنازل ، حتي وإن كانت فللا خاصة بها حديقة تستوعب ذلك. هذا خلاف عدم مهارتي في تربية الحيوانات والطيور فقد تنفق وأتحمل ذنبها. خلاف جدتي الفلاحة الأصيلة الماهرة. 

كما فكرت في خياطة المفارش لمنزلي وأعمال التريكو ، ولكنني لا أجيدها فلم أكن من محبي مادة التدبير المنزلي، التي لم تعد موجودة الان في مدارسنا مع كل الاسف والاسي.

كما فكرت في طهي الفطير والكسكسي وخلافه من الأكل الفلاحي الشهي قليل التكلفة، وخبز العيش في المنزل كما كانت تفعل جدتي كل خميس في السادسة صباحا، ولكنني لا أجيد الخبز وطهي تلك الأصناف. فشعرت بأنني لست كجدتي، فهل خدعنا بتعليم غير مهني في عالم تسيطر عليه التكنولوجيا من كل جانب؟. 

وهنا تذكرت عالم المستقبليات جون سويني وهو يتحدث عن مجتمع ما بعد الطبيعية Post Normal Society الذي يحوي المتناقضات ذكاء اصطناعي وروبوت وسايبورغ وانترنت الأجسام في ظل حالة من البدائية المحيطة والفقر وممارسة لمهن يدوية أولية، ولكنها مهمة للحياة وربما البقاء. بالفعل الآن أدركت معني ما بعد الطبيعية فمع العلم والحداثة أفكر في تعلم مهن جدتي التي لا أجيدها كليا.
وهنا تذكرت بعض المهاجرين من السوريين بمصر ، فمنهم كان من يحمل شهادة الطب، ولكنه يعمل هنا سباكا أو خبازا أو نجارا والأن علمت السبب؛ فمن يهاجر خارج بلده لن يعمل في شهادته التي زاول مهنتها ، ولكنه سيعمل بمهن أخري أولية حسب احتياج المجتمع ليكسب قوت يومه ومن في رقبته، تاركا الشكل الاجتماعي ، والمظهر خلف ظهره مع ماضيه. 
ولكنني هنا أتسأل لمن يعمل مهنتي أو مهن مشابهة، هل يمكننا في مثل هذا العمر تعلم مهنة يدوية أو حرفة أو صنعة؟ وما هي إذا ؟ وكيف نجيدها؟ وما الوقت المطلوب لتعلم تلك المهارة؟ وما هي القنوات الممكنة لتعليمنا أياها؟ 
فالتعليم واجب مهما كان عمرنا ، فرسولنا الكريم أوصانا بطلب العلم من المهد إلي اللحد فالحرف علم ومهارة وفن .
حقا أشعر الان أن جدتي أكثر مهارة مني وأفضل حالا ، رحم الله جدتي. 
ولكننا علينا تعلم حرف البقاء فنحن محظوظين بتكنولوجيا اليوتيوب والافلام القصيرة التي يمكن أن تعلمنا بعض المهن اليدوية والحرف البسيطة، فلتكن رسالتنا تعلم مهنة، تعلم حرفة تعلم صنعة، تعلم طبخة تعلم أكلة المهم تعلم فالغد يجب أن نصنعه بسواعدنا وعقولنا.

 

بقلم: ا. د هبة جمال الدين


الأستاذ المساعد بمعهد التخطيط القومي وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية