د. لؤى محمود سعيد يكتب: تكامل أم تناقض وصراع؟

التراث القبطى المصرى
التراث القبطى المصرى

الحضارة الإسلامية بمفهومها الشامل جغرافياً أوسع من الحضارة العربية.. حيث لا يمثل المسلمون العرب فى أغلب التقديرات أكثر من 17% من مسلمى العالم

يعتقد الكثيرون أنه لا توجد أدنى علاقة ما بين التراث المصرى القبطى عموماً مع الحضارة والثقافة العربية.. بل على العكس يسود الاعتقاد بأن بينهما تنافراً وتناقضاً يصل لدرجة الصراع والتناحر كمال فريد إسحاق: محنة الهوية المصرية . الكتيبة الطبية)!! والأدهى من ذلك هو ما ترتب على ذلك من ربط عقائدى تخطى حدود التناقض الثقافى.. حيث إنه صار راسخاً فى الإدراك الجمعى أنه عليك كمصرى أن تحسم أمرك بين خيارين متناقضين: إما أن تكون مسلماً مخلصاً للثقافة العربية، أو أن تكون مسيحياً منتمياً للثقافة المصرية القبطية (الأب بيجول باسيلي: هل رحب الأقباط بالفتح العربي؟، الكتيبة الطيبية) وهنا تحديداً تبدأ واحدة من أخطر إشكاليات الثقافة المصرية التى سببت تفسخاً وانفصاماً فى الهوية لدى الكثيرين.. حيرة بين هويتين وانتماءين متناقضين حسبما يعتقدون.

إن الهوية كما يقول محمد عابد الجابرى ليست كائناً جامداً لكنها تتشكل تبعاً لعوامل عديدة.. لكن عموماً يسبقها «الوجود» (محمد عابد الجابري: مسألة الهوية، العروبة والإسلام.. والغرب) . فوجود جماعة ما فى مكان ما تحت ظروف معينة يخلق نوعاً من الهوية المشتركة التى تتعمق فى ضمائرهم، وتدفعهم نحو البحث عن صيغة مشتركة لمستقبل أفضل قائم على معطيات الحاضر والوعى بالماضى المشترك. 


وعليه فالسؤال الأساسى حينئذ هو: هل كل من الثقافة القبطية والثقافة العربية فى مصر لا يجمعهما ماضٍ مشترك أو جماعة واحدة تعيش متجانسة فى نفس المكان؟ أم أنهما هويتان متناقضتان تخصان جماعتين مختلفتين لا يجمعهما أى قواسم مشتركة عرقية أو مكانية أو حتى تاريخية؟
ويمكن إضافة تساؤلات أخرى مدخلية:
كثيراً ما يوجه للباحث المسلم المهتم بالقبطيات بأسئلة استنكارية من نوعية: لماذا تهتم بالتراث القبطى بدلاً من اهتمامك بالتراث الإسلامى مثلاً؟
وهل يجب على كل مصرى مسلم مخلص للثقافة العربية أن يعادى الثقافة القبطية؟ وإذا كان مسيحياً (أو لا دينياً) منتمياً وفخوراً بالثقافة المصرية القبطية فهل عليه أن يعادى ويخاصم الثقافة العربية والتراث الإسلامي؟
هل التراث القبطى يخص المسيحيين وحدهم دون غيرهم؟ 
وهل يمكن تصور التراث المصرى العربى بعد الإسلام بدون مكونه القبطي؟
كما كان البعض يستغرب ومن ناحية أخرى متسائلاً: لماذا يظهر الأقباط والمسيحيون عموماً أمام المسلمين وكأنهم ينتمون للحضارة الغربية أكثر منهم للشرقية العربية؟ فكثير من الأسماء المسيحية تبدو غريبة على الثقافة العربية ( كثيرة هى الأسماء المسيحية التى تبدو غريبة عن الأذن العربية.. مثل: أرمانيوس، إقلاديوس، اسطفانوس... وغيرها).. كما أن تراثهم الدينى ولغته الغريبة «ظاهرياً».

على العربية: كالقبطية والسريانية والأرمينية واليونانية وغيرها ترجح لدى العامة هذا الطرح التغريبي. والأدهى من ذلك أن بالفعل غالبية المسيحيين لا يعتبر نفسه عربياً عرقياً وثقافياً باعتبار أن هذه العروبة تخص الجزيرة العربية فقط ولا تخص مصر( سمير خليل اليسوعي: خصائص التراث العربى المسيحى القديم: مجلة اللاهوت للشرق الأدنى).

وهو ما يرسخه أيضاً أن كثيراً من المسلمين يحتكر العروبة لنفسه ويعتبر بالفعل أن غير المسلم من بنى وطنه غير عربي! وهنا تتعمق المأساة.. وهى الربط بين الثقافة والعقيدة.
ولمحاولة الوقوف على حقيقة هذه المسألة المعقدة، وفك الالتباس والاشتباك بين أطرافها المتداخلة يجب مبدئياً استيضاح بعض النقاط كمدخل حيوى للموضوع.


يمكن تقسيم العصر القبطى فى مصر بالطبع إلى مرحلتين أساسيتين:
الأولى: منذ دخول المسيحية فى القرن الأول الميلادى وحتى الفتح الإسلامى فى القرن السابع الميلادى على يد عمرو بن العاص.. مع ملاحظة أن مصر وقتها كانت تنقسم عقائدياً خلال هذه الفترة ما بين الثقافة المسيحية الوافدة والثقافة الوطنية الموروثة (المقريزي: تاريخ الأقباط، تحقيق: جمال أبو زيد و عابد باسيليوس. عمر صابر عبد الجليل: تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي) والتى يسميها البعض وثنية. مع ملاحظة أنه لم يكن باباوات الإسكندرية مجرد زعماء دينيين لكن قادة وطنيين لعبوا دوراً سياسياً هاماً (جورج قنواتي: المسيحية والحضارة العربية)


 ومن خصائص هذه الفترة أنها:
نقلت عن التراث المصرى القديم الموروث باعتبارها معبراً وجسراً بين ثقافتين.. وافدة حديثة، وقديمة موروثة.


أبدعت وأضافت إلى الثقافة الموروثة ولم تستنسخها كما هى بدون وعي.


تأثرت هذه المرحلة بالثقافات الوافدة كاليونانية والبيزنطية وغيرهما.


حافظت على الهوية والشخصية المصرية والتى استمر كثير منها حتى اليوم كالرهبنة القبطية التى نشأت فى مصر وانتشرت منها للعالم كله (القس منسى يوحنا: تاريخ الكنيسة القبطية) وكانت سبباً مباشراً على سبيل المثال فى حفظ العديد من المهن والحرف الشعبية داخل الأديرة الباخومية (نسبة للأنبا باخوميوس مؤسس رهبنة الشركة).

( متى المسكين: الرهبنة القبطية)، وكذلك الموسيقى القبطية التى عاشت فى الكنائس والأديرة وجسدت الموروث الفنى المصرى القديم، وكذلك اللغة القبطية التى استمرت لليوم فى الكنائس والتى ترتبط بعلاقة وثيقة بالعامية المصرية وتعتبر أساساً قواعدياً ولفظياً لها. هذا بالإضافة للثقافة الشعبية المصرية كالموالد والاحتفالات الدينية.

وذلك بخلاف العديد من صفات الشخصية المصرية التى حافظت عليها الشخصية القبطية خلال هذه المرحلة كروح المرح والوسطية والتسامح والإيمان الدينى وغيرها كثيراً.


 أما المرحلة الثانية فى الثقافة القبطية: فهى التى بدأت منذ الفتح الإسلامى  وحتى اليوم:
ومن أهم خصائصها امتزاج التراث القبطى المصرى الموروث بالوافد العربى الإسلامي.. وهناك بالطبع العديد من النماذج على هذا الخليط الثقافى الفريد يمكن أن نكتفى منها بنموذج كاشف.

 
وهو العامية المصرية التى هى خليط فريد بين القبطية الموروثة (قواعدياً ولفظياً) مع العربية الوافدة (من أهم الدراسات عن علاقة العامية المصرية بالقبطية الموروثة رسالة الدكتوراه للقس شنودة ماهر «الشماس إميل ماهر سابقاً»،  فالقبطية مثلاً لا تعرف نطقاً الحروف اللسانية كالذال والثاء.

ولهذا أخضعت العامية المصرية اللغة العربية الوافدة للسان القبطى فأصبحت حروف مثل «ذ» و «ث» تنطق «د» و «ت».. فصار «الثعبان» ينطق فى العامية المصرية «تعبان» و «الذيل» ينطق «ديل».. وهكذا. أما قواعدياً فنذكر مثالين كنماذج: تستخدم اللغة العربية أدوات الإشارة قبل المشار إليه عكس القبطية والمصرية القديمة.

لهذا فالعامية المصرية تستخدم تعبير «البنت دي» بدلاً من «هذه البنت».. أما أدوات الصلة فى اللغة العربية فهى تفرق بين المذكر «الذي» والمؤنث «التي» والجمع «الذين أو اللواتي».. عكس القبطية التى تستخدم أداة صلة واحدة لهم جميعاً. لهذا فإن العامية المصرية تأثراً بالقبطية لا تستخدم أيضاً إلا أداة صلة واحدة هى «اللي».. الراجل اللي.. والبنت اللي.. والبنات اللي.... وهكذا) عصام ستاتي: مقدمة فى الفولكلور القبطي).


وانطلاقاً مما سبق يمكن تعريف التراث القبطى على أنه:
كل إنتاج حضارى موروث مادى أو شفاهى على يد مصرى قبطى (مسيحى أم غير مسيحى (وثني: مجازاً) قبل الإسلام- أو مسيحى أم مسلم بعد الإسلام).. سواء كان هذا التراث دينيا أو فلسفيا أو أدبيا أو علميا.. وهو بهذا بالطبع لا ينحسر فى التراث اللاهوتى الدينى فقط..  بل كل إنتاج فكرى مصري.


وكما يجب أن نلفت لأمر هام جداً وهو عدم ارتباط التراث بالعقيدة الدينية.. بمعنى أن التراث لا دين ولا عقيدة له..فاللغة والحضارة العربية مثلاً هى أسبق بالقطع فى الظهور والانتشار عن الدين الإسلامى (الأب سمير خليل اليسوعي: خصائص التراث العربى المسيحى القديم، في: مجلة اللاهوت للشرق الأدنى).

لكن الإسلام والقرآن الكريم تحديداً قد استخدم العربية ولم يخترعها.. فأكسبها قدسيتها وخلودها . مع ملاحظة أنه إحصائياً لا تمثل كلمات القرآن الكريم أكثر من 2 بالمئة فقط من مجمل ألفاظ اللغة العربية فى المعاجم. كما أن الحضارة الإسلامية بمفهومها الشامل جغرافياً أوسع من الحضارة العربية.

حيث لا يمثل المسلمون العرب فى أغلب التقديرات أكثر من 17% من مسلمى العالم (الأب سمير خليل اليسوعي: خصائص التراث العربى المسيحى القديم، في: مجلة اللاهوت للشرق الأدنى) كما أن المسيحيين العرب وتراثهم يمثلون ركناً أساسياً من الإنتاج الحضارى العربى سواء الدينى أو الأدبى أو العلمى قبل الإسلام (نينا فكتورفنا بيغوليفسكيا: العرب على حدود بيزنطة وإيران من القرن الرابع إلى القرن السادس الميلادي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم) وبعده.

 

ونفس الشىء بالنسبة للمسيحية فى مصر.. فهى لم تبتكر اللغة والخط القبطى فى مصر (الذى ظهر منذ القرن الثالث قبل الميلاد)  (هى أقدم بردية مكتوبة بكلمات قبطية ويونانية ورقمها 414 محفوظة فى متحف هايدلبرج بألمانيا). وكتبت به نصوص دنيوية وسحرية أيضاً. لكن المسيحية أيضاً استخدمت القبطية وأكسبتها قدسيتها لكتابتها الكتاب المقدس والنصوص الدينية كالليتورجيتات وغيرها.


إذن فباختصار.. إن الموقف السلبى لبعض المسلمين من التراث القبطى هو خطأ ثقافى وتاريخي، تماماً كما أن الموقف السلبى لبعض المسيحيين من التراث العربى خطأ لنفس الأسباب.


وأن العداء بين الثقافتين يرسخ لتفسخ الشخصية المصرية ويخدم أعداء المشروع المصرى لبناء المستقبل اإن تلك النظرة المزدوجة للتراثين القبطى والعربى لا تؤدى فقط إلى حالة من الانفصام والتفسخ فى الشخصية المصرية.

لكنها تنسحب أيضاً إلى نتائج أكثر خطورة تتعلق بالنظرة  والتعامل السلبى مع التراث.. حيث إن النظر إليهما كهويتين منفصلتين ومتناقضتين ينجم عنه بالضرورة استخدام صيغتين مختلفتين: «نحن» و«هم».

وهو المفهوم المدمر للتراث والآثار.. حيث يسود مبدأ: «أن كل أصحاب عقيدة يوكل إليهم حماية وحفظ تراثهم وآثارهم»، وبذا لا تصبح حمايته وصيانته مسئولية مؤسسات الدولة!
التراث المسيحى وعلاقته بالثقافة العربية.


تضم موسوعة جورج جراف التى نشرها بالألمانية أسماء حوالى 10 آلاف مخطوطة من الأدب العربى المسيحى وحده، هذا بخلاف الإنتاج العلمي، واللاهوتى للمسيحيين العرب.. كما أن انتشار الثقافة العربية بين المسيحيين بعد الفتوحات الإسلامية للوطن العربى وحدت مسيحيى المنطقة بعد التشتت.

فالمسيحيون العرب قبل الإسلام كانوا يتكلمون ويصلون بلغات شتى.. قبطى وسريانى وآشورى وكلدانى ومارونى ويوناني.. لكن بعد انتشار العربية تكلموا وصلوا وتفاهموا بلغة واحدة هى العربية (الأب سمير خليل اليسوعي: خصائص التراث العربى المسيحى القديم، في: مجلة اللاهوت للشرق الأدنى).

  
ومن ناحية أخرى فإن لهجات المنطقة تمثل ثقافة واحدة بفكر لغوى واحد: فالأكادية والكنعانية والآرامية والكلدانية والنبطية والعدنانية والمصرية (بخطوطها كالهيروغليفية والقبطية) والسيريانية والثمودية والسبئية والحبشية وغيرها.

ماهى إلا لغة واحدة بأنماط كتابية مختلفة.. وليست لغات مختلفة كما هو شائع) محمد بهجت قبيسي: ملامح فى فقه اللهجات العربيات.. من الأكادية والكنعانية حتى السبئية والعدنانية). 


الأقباط ومشاركتهم فى إنجازات الحضارة العربية بعد الإسلام حسم الراحل الجليل د. جمال حمدان إشكالية العلاقة بين الأصل المصرى (الفرعوني) والعرق العربى «الوافد» بقوله: إن مصر ذات أب عربى وجد فرعوني.. والاثنان يتمتعان بأصل واحد مشترك» (جمال حمدان: شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان).


فالعلاقة الحضارية والعرقية والتأثيرات المتبادلة بين المصريين وجيرانهم من العرب وغيرهم ثابتة أثرياً وتاريخياً وأنثروبولوجياً منذ العصور القديمة قبل الإسلام (فتحى عبد العزيز الحداد: الصلات الحضارية العربية فى العصور القديمة. سعيد بن فايز ابراهيم السعيد: العلاقات الحضارية بين الجزيرة العربية ومصر فى ضوء النقوش العربية القديمة).

وبهذا فلم يتعرب المصريون عرقياً بعد الإسلام وتغير جنسهم.. بل الأصح أن نقول إن مصر قد تعربت فقط ثقافياً بعد دخول الإسلام، وأن العرب الفاتحين قد تمصروا عرقياً وجنسياً.. خاصة إذا عرفنا أن جيش الفاتحين كان تعداده فى حده الأقصى ما يزيد على 15.500 ألف مقاتل  جاك تاجر: أقباط ومسلمون منذ الفتح العربى إلى عام 1922 فى حين كان تعداد المصريين وقتها حوالى عدة ملايين نسمة.. فهل يمكن بعد هذا قبول الزعم بأن المصريين المسلمين المحدثين هم من سلالة جيوش عمرو بن العاص، وأنهم ضيوف على البلاد! بالطبع لا.. لأن الثابت كما ذكرنا أن العرق المصرى واحد.. سواء كان مسيحياً أم مسلماً، بل وأكثر من هذا فإن كل مسلم مصرى هو أصلاً له جد «قبطى أسلم» وله أصول مسيحية.


المدن العربية
 شارك فى بنائها الأقباط.. سواء فى مصر (كالمساجد والعمارة الإسلامية: مسجد ابن طولون إشراف وتصميم المهندس القبطى سعيد بن كاتب، وكانوا هم غالبية عمال عمائر مدينة الفسطاط أول عاصمة إسلامية فى مصر.. أو خارج مصر: يذكر البلاذري:أن  الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك طلب من عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز إعادة بناء المسجد النبوى وأن يبعث إليه الأموال ومواد البناء و 80 صانعاً من القبط المصريين لمهارتهم.. كما أرسل والى مصر قرة بن شريك عمالاً أقباط لبناء مسجد دمشق.


الحياة العلمية والأدبية
 كان الإمام الشافعى (فقيه الدين واللغة) يأتنس بـ سرج الغول المصرى القبطى فقيه العربية ويقول «ادع لى سرجاً» فيناظره ويعجب بغزارة علمه.. كما أن عبد الملك بن مروان طلب من أخيه عبد العزيز أن يوجه لتونس ألف قبطى لإنشاء الآلات وأدوات البحر.


كما أن جل المسيحيين الشرقيين يعتبرون أنفسهم ينتمون للحضارة العربية العريقة، ويرفضون الحديث عن حضارة غربية مسيحية فى مواجهة الحضارة الإسلامية.. لكونهم ساهموا فى بناء الحضارة العربية التى بدونهم لكانت مكوناتها مختلفة عما هى عليه.


إذن فأقباط مصر ومسلموها من ناحية العرق هم أصلاً جنس واحد.. وأما من ناحية الثقافة القبطية فهى تمثل فى الأساس امتداداً للثقافة المصرية القديمة وثيقة الصلة بالثقافة العربية منذ ماقبل الإسلام والمسيحية. 


وأما الثقافة العربية فهى ليست مجرد وافد حديث دخل مصر مع الإسلام.. بل لقد حدث اتصال وتبادل وتأثير حضارى كبير (اقتصادى واجتماعى وديني) بين مصر والجزيرة العربية وثقافتها قبل دخول المسيحية والإسلام مصر بقرون (سعيد بن فايز ابراهيم السعيد: العلاقات الحضارية بين الجزيرة العربية ومصر فى ضوء النقوش العربية القديمة).

ولهذا كان التحول للغة والثقافة العربية سلساً وسريعاً إلى حد ما.. فرغم وقوع مصر تحت حكم الاحتلال اليونانى ثم الرومانى والبيزنطى لمدة تصل إلى 11 قرناً من الزمان (من الرابع ق. م. حتى السابع م.)، فلم يتحدث أهل مصر عن بكرة أبيهم لغة المحتل اليونانية أو اللاتينية، ولم يعتنقوا عقيدته التى كانت مخالفة دوماً لأهل البلاد. 


وعلى النقيض فقد بدأ المصريون بعد قرنين فقط من دخول الإسلام لأرضهم فى التحول الكبير للثقافة واللغة العربية، وما إن حل القرن الحادى عشر حتى أصبحت أجزاء كبيرة من أنحاء مصر تسودها اللغة العربية (ماهر أحمد عيسى: تاريخ اللغة القبطية، سلسلة كراسات قبطية، العدد السابع، مكتبة الإسكندرية، الإسكندرية) لأسباب تتعلق فى الأساس بالارتباط الوثيق تاريخياً بين ثقافتهم المحلية القبطية والثقافة العربية منذ ما قبل ظهور الإسلام.

وانظر: على فهمى خشيم: القبطية العربية.. دراسة مقارنة بين لغتين قريبتين شقيقتين، مركز الحضارة العربية). وهو الارتباط الذى لم يقتصر على مصر فقط، بل امتد ليشمل اللغات والثقافات المحلية مع اللغة والثقافة العربية فى كافة البلدان العربية  (انظر: محمد بهجت قبيسي: ملامح فى فقه اللهجات العربيات.

من الأكادية والكنعانية حتى السبئية والعدنانية، دار شمال، دمشق) حيث يلفت الانتباه تساؤل منطقى مفاده: لماذا قبلت بعض البلدان الدين الإسلامى وحده وتمسكت بلغتها وثقافتها المحلية مثل إيران (فارس) وتركيا وغيرهما، بينما قبلت بلدان أخرى كلاً من العقيدة الجديدة واللغة العربية معاً مثل سائر الدول العربية؟! 


والإجابة بالقطع ليست بسبب ضعف الثقافات المحلية لتلك الدول العربية، أو بسبب ضغوط سياسية مارسها الحكام المسلمون بعد الفتح على تلك الشعوب كما قد يعتقد البعض.. لكن بالطبع يكمن التفسير فى الروابط بل والقرابة الحضارية الوثيقة تاريخياً وجغرافياً بين الثقافات المحلية لهذه الشعوب المفتوحة والثقافة العربية التى تدثر بها الدين الإسلامى الوليد (انظر: فتحى عبد العزيز الحداد: الصلات الحضارية العربية فى العصور القديمة) فقبلتهما معاً. 


فالعروبة إذن لا تشير إلى جنسية أو عصبية، كما لا تشير إلى دين.. وإنما تشير إلى ثقافة وحضارة مشتركة، وإلى تاريخ مشترك، وإلى مصير مشترك (سمير خليل اليسوعي: خصائص التراث العربى المسيحى القديم، في: مجلة اللاهوت للشرق الأدنى).


بالإضافة لحقيقة تاريخية كثيرا ما رددتها فى محاضراتى فى الأماكن المختلفة منذ سنوات وهي: أن المصريين (أو للدقة فلنقل: غالبية  الشعب المصرى) عبر تاريخها الطويل الممتد عبر الأزمان.

فقد بدلوا عقيدتهم مرتين: من المصرية القديمة للمسيحية، ثم من المسيحية للإسلام؛ بينما بدلوا لغتهم وثقافتهم مرة واحدة فقط: من المصرية القديمة للعربية (أو أيضا للدقة فلنقل: مزجوا بين اللغتين وخصائصهما فى العامية المصرية).


وباختصار نقول إذن إن توثيق العلاقة بين التراث القبطى والحضارة العربية يؤدى إلى: 
إثراء للفكر المسيحى وتراثه العريق المجهول بالعربية الذى يمثل تاريخياً حوالى ثلثى الفترة الزمنية التى قضتها المسيحية فى مصر منذ دخولها.


إغناء للتراث العربى المشترك بين المصريين من المسلمين والمسيحيين المادى والشفاهى لما يزيد على 14 قرناً من الزمان.


أما قطيعة المسيحيين مع الثقافة العربية فلن يكون مجرد تجاهل للإسلام لكنه فى الواقع:قطيعة مع تراث لاهوتى قبطى غزير مكتوب بالعربية يعتبر فقداناً للشخصية القبطية.
قطيعة مع الذات ومع العيش المشترك مع المسلمين. بل هى مخاصمة للمستقبل وتكريس لواقع الاحتقان البغيض بين أبناء الوطن الواحد.


انسلاخ من سلاح المواجهة مع الأعداء المشتركين كالصليبيين والتتريك والصهيونية عبر التاريخ وهى العروبة الثقافية،تخلّ عن إسهامات علمية وأدبية مسيحية ضخمة فى بناء الحضارة العربية. 


وأخيراً يجدر ذكر موقف العرب والمسلمين الأوائل ورأيهم فى المصريين القبط.. حيث يذكر المقريزى نقلاً عن عبد الله بن عمرو: «إن قبطة مصر هم أكرم الساكنين خارج الجزيرة العربية كلهم وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً.

ومن أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها فى الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنور ثمارها» (خطط المقريزي: كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، دار التحرير).


فإن التراث المسيحيى عموماً والقبطى خصوصاً، تاريخياً وأثرياً لا يتعارض مع التراث العربى الإسلامي، بل على العكس تماماً.. فهو تراث مصرى الأصل والطابع .. عربى الهوى والثقافة.. بلا أدنى تناقض أو صراع.. (وهو جزء من تراث المنطقة المحيطة به حضارياً.. أثر فيها وتأثر بها).


والتراث القبطى أنتجه كافة المصريين.. المسيحيون وغير المسيحيين (الوثنيين: مجازاً) قبل الإسلام، والمسيحيون والمسلمون بل واليهود بعد الإسلام.


وعليه فعلى كل مصرى بصرف النظر عن عقيدته أن يعتز بكل من ثقافته المحلية القبطية وكذلك انتماءاته العربية معاً.. وهى ليست رؤية تلفيقية مختلقة.. بل حقائق منهجية مستمدة من ومبنية على اعتبارات تاريخية وأثرية.

وهو اعتزاز يجب أن ينسحب على كل عربى يعانى من تفسخ وهمى مصطنع بين هويته المحلية وانتماءاته العربية. وعليه فيجب الاجتهاد فى إزالة هذا الالتباس المدمر الذى يزرع فى النفوس عداءً مصطنعاً ومواجهة واختلافاً وهمياً.


وأن ندرك أن العداء عموماً بين الثقافتين: الوطنية المحلية (القبطية أو غيرها فى وطننا العربي) مع الثقافة العربية يرسخ لفقدان الهوية وانقسام المجتمع.

اقرأ ايضًا | الحفل الختامي لمولد السيدة العذراء بدير الجرنوس في المنيا كامل العدد