24 ساعة في الدير الاخبار تكشف أسرار حياة الرهبان في وادي النطرون

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

بمشاعر تمزج بين الإثارة واكتشاف هذا العالم الغامض بالنسبة لى، انطلقت فى رحلتى إلى دير القديس العظيم الأنبا بيشوى بوادى النطرون، لقضاء معايشة يومية مع حياة الرهبان الذين تركوا العالم بمحض إرادتهم ليعيش كل منهم الموت وهو حى، فيظل متعبداً طوال اليوم فى «قلايته» حسبما يعتقد الكثيرون، إلا أن الحقيقة عكس هذه المأثورات التى تربينا على سماعها منذ الصغر، فلكل راهب فى الدير حياة يومية تبدأ من الساعات الأولى وحتى نهاية يومه فى المساء، والغريب أن هذه الحياة المليئة بالعمل والعبادة تنطلق من نقطة بالغة الغرابة.. إنها الموت.
فكل راهب يعتبر أنه مات عن العالم رغم أنه حى يرزق.. انفصل عن كل ملذات الحياة بكامل إرادته ووعيه.. اختار طريق اكتشاف الله وليس فقط التأمل والعبادة.. إنه الراهب الذى ترك حياة العالم الدنيوية، وذهب إلى العالم الآخر، باحثاً عن الله، مختاراً الحياة البتولية رافضاً الزواج، تاركاً خلفه جميع أنواع الرفاهيات والحياة والأهل والأصدقاء، متخليا عن أطماع الدنيا، متجردا من غرائزه، للتقرب من الرب بمصاحبة الوحدة والعزلة والصمت. قرار الرهبنة دعوة من الله تقابلها استجابة من إنسان، والإنسان عندما يجد دعوة للعيش مع الله يتردد على الدير أثناء وجوده فى خلوته، وهو قرار ليس سهلًا على أصحابه، إنما هى دعوة يختار الله فيها من يكمل الطريق حتى آخره فلا عودة منه إلا بالموت.
وفى أحد كتب الأمير عمر طوسون يشار إلى أنه عندما زار وادى النطرون فى عام 1931م، اكتشف العديد من الأديرة التى تعرضت للاندثار فى برية شيهيت مثل دير الأنبا زكريا، والأرمن والأنبا يحنس كاما، ويوحنا القصير والأحباش، وإلياس، ووضع العديد من العلامات الإرشادية التى تؤكد على قيمة هذه الاكتشافات، ومعظم الأديرة التى اكتشفها الأمير باركتها العائلة المقدسة عند زيارتها لمصر‏، وبلغ عددها نحو ‏52‏ ديراً، وسجل لنا كل ما اكتشفه فى برية شيهيت فى كتابه «وادى النطرون ورهبانه وأديرته ومختصر تاريخ البطاركة ومزيل بتاريخ الأديرة الخربة» ويعد هذا الكتاب من أهم المصادر لدراسة تاريخ أديرة وادى النطرون.

من هنا كانت البداية فى السابعة صباحا، انطلقنا من القاهرة إلى دير القديس العظيم الأنبا بيشوى لنقضى يوما بين أحضان هذا الدير العتيق الذى يتميز بمعالمه الأثرية، وهو دير قبطى أرثوذكسى تبلغ مساحته 4 فدادين و18 قيراطا، ويعد أكبر الأديرة العامرة بوادى النطرون.


واقتربنا من مدخل طريق الأديرة عبرنا طريقا ممهدا طويلا يمتد وسط الصحراء خلا من أى مارة، وعند وصولنا إلى البوابات الرئيسية، وقفت اتطلع إلى الأسوار العالية وتسارعت دقات قلبى وارتفعت أصواتها.

ولم تكن الرهبة هى السبب فلا مكان لها فى أى دار عبادة، بل كانت ناتجة عن الإثارة المرتبطة بالفضول. هنا يتخلص الإنسان من حياته الدنيوية بالكامل ويختار حياة أخرى تنفصل عن العالم الخارجى.

مجرد التفكير فى القرار سبب لى حالة من الارتباك فى طبيعتنا البشرية التى تستمد وجودها من الارتباط بالواقع. لهذا هربت من أفكارى باستعادة المعلومات التى قرأتها قبل الزيارة. عدت إلى تأمل تلك الأسوار العالية التى يرجع تاريخ بنائها للقرن التاسع الميلادى.


وعند أبواب الدير هذا العالم الخفى، استقبلنا الأب الراهب ويصا بحفاوة شديدة وترحيب حار ليشاركنا زيارتنا، وبمجرد أن وطأت أقدامنا الخطوات الأولى داخل الدير، تراجع التوتر تدريجيا، بل انتابنى شعور بالراحة نفسية وسادت الأجواء حالة من السكون.

وتم استقبالنا بأكواب الشاى كنوع من الترحيب، جلسنا فى دار الضيافة صامتين حتى قطع الأب الراهب حالة السكون بالحديث عن برنامج الزيارة الذى تمنى أن نستمتع به وأن يكون محفزا لنا على القيام بزيارة أخرى أو على الأقل ذكر الرحلة لأصدقائنا.


دافعنا استقباله الودود إلى طرح العديد من الأسئلة دفعة واحدة استفسرت بفضول عن حياة الراهب ومعنى كلمة الرهبنة؟ وكيف يمكن لأى إنسان أن يتخلى عن حياته ليعيش كالميت فى الدنيا، بعد أن يبتعد عن العالم وعائلته والتفرغ للعبادة، بل والخضوع إلى العديد من القوانين الخاصة بالرهبان وغيرها من الأسرار التى سنتعرف عليها خلال هذه الرحلة الممتعة.


وكانت البداية من التعرف على دير الأنبا بيشوى قبل الخوض فى رحلة حياة الراهب فيقول الأب الراهب ويصا أن الدير ينسب إلى الأنبا بيشوى الذى كان تلميذاً للأنبا مقار، وقام بإنشائه أواخر القرن الرابع الميلادى.

ويضم عددا من الكنائس، أكبرها كنيسة الأنبا بيشوى، بجانب مبنى للضيافة والمائدة الأثرية وبئر الشهداء، والعديد من القلالى التى يقطن بها الرهبان، ولكل من هذه المعالم حكاية تاريخية.


مؤسس الرهبنة

غادرنا دار الضيافة ووجدها الأب الراهب ويصا فرصة مناسبة ليبدأ الرد على أسئلتى ذكر أن أول من أسس نظام الرهبنة فى العالم كان القديس أنطونيوس المصرى، ويطلق عليه لقب.

«أبو الرهبان»، وله دير من عهده مازال عامرًا بالرهبان حتى هذا اليوم فى صحراء البحر الأحمر، ولد القديس أنطونيوس بمحافظة بنى سويف، وكان والداه يتمتعان بثروة مالية، ثم مات والده فوقف أمام الجثمان يتأمل زوال هذا العالم، التهب قلبه نحو الأبدية.

وذات يوم دخل الكنيسة وسمع أحدهم يتلو آية من الإنجيل تقول: «إن أردت أن تكون كاملًا فاذهب وبع كل مالك ووزعه على الفقراء، وتعال اتبعنى» شعر أنها رسالة شخصية تمس حياته، وقرر بيع نصيبه من ميراثه وتوزيعه على الفقراء ليتفرغ للعبادة.


وا‏نصرف أنطونيوس إلى النسك متأملاً فى ذاته، متدرباً على الصبر، عاش وحيداً أول الأمر وكان البدو يمرون به ويقدمون له بعض الخبز، اكتفى بالخبز والبلح، ثم أخذ يعمل فى ضفر الخوص ويعمل بيديه ثم يبيعه ويستعين بالمحصلة لتأمين حاجة نفسه إتماماً لما قيل «بعرق جبينك تأكل خبزك»، أما الباقى فكان يوزعه على الفقراء.


وقد اعتمد مبدأ التوحد فى الرهبنة الذى يقوم على اعتزال كل راهب بمفرده، ثم جاء القديس الأنبا باخوميوس ليؤسس نظام رهبنة الشركة وهو يقوم على تواجد عدد كبير من الرهبان فى مكان واحد، وأنشأ أول دير له عام 318م، ووصل عدد الرهبان فى الدير إلى 1500 راهب.


وصلنا إلى الحصن الأثرى، فتوقف الراهب ويصا عن الإجابة عن استفساراتى، وبدأ يروى القصة المثيرة لهذا الحصن، أنشأه الملك زينون فى القرن الخامس الميلادى لحماية الرهبان من هجمات غارات البربر وهم قبائل البدو الليبيون.

ولكى يعزز الوظيفة الدفاعية له كحصن فقد توسطه جسر متحرك يتم رفعه بعد دخول الرهبان إليه للاحتماء فيه ومنع دخول أى شخص غير مرغوب فيه ويتكون الحصن من 3 طوابق تعلوها كنيسة الملاك ميخائيل نسبة إلى رئيس الملائكة ميخائيل.


شروط الرهبنة 

وخرجنا من الحصن عاد الأب ويصا للإجابة على سؤالى عن الشروط التى يتطلب توافرها فى الراهب وبابتسامة بشوشة على وجهه قال على طالب الرهبنة التردد على الدير ليتعرف على الرهبان لمدة عام، بمتابعة من مشرف الدير للمتقدمين لطلب الرهبنة.

ويجب أن يكون مسيحيا أرثوذكسياً، وله أب اعتراف ومنتظم فى ممارسة أسرار الكنيسة بشهادة رسمية من أب اعترافه، وأن يكون له دراية بعقائد الكنيسة وتاريخها، ويجب ألا تزيد سن المتردد على 30 سنة ولا تقل عن 23، ويشترط حصوله على مؤهل عالٍ، ولكن يسمح بالاستثناءات لشرطى السن والمؤهل بعد موافقة رئيس الدير.

وبعد ذلك ينتقل تأتى المرحلة الثانية الالتحاق كطالب للرهبنة وهنا يرتدى زيا باللون البنى ثم الأزرق، لتجربة الحياة الرهبانية، ويكون الطالب تحت الاختبار من الأب مشرف شئون طلاب الرهبنة.


وصلنا إلى كنيسة القديس الأنبا بيشوى الأثرية والتى تشهد حاليا أعمال الترميم، ويرجع تاريخها للقرن الرابع، وتضم الصندوق الذى يحوى جسد القديس الأنبا بيشوى ورفات القديس الأنبا بولا الطموهى واللذين تم نقلهما إلى الكاتدرائية الجديدة حتى يتم الانتهاء من أعمال الترميم.


وتحركنا من أمام مبنى الكنيسة لنتجول بين جدران هذا الدير العتيق ليستكمل الأب ويصا إجابته عن شروط الأخ المتردد على الدير ليصبح راهبا فيقول بعد مرور عام عليه، ويتأكد المشرفون أنه حقا جاء دون ضغط أو حاجة لشىء ما.

فيتم فتح ملف له يحتوى على نموذج طلب الرهبنة وتزكية واضحة حديثة من أب الاعتراف، والأوراق الرسمية «صورة بطاقة رقم قومى، شهادتى الميلاد والتخرج، خلو طرف من العمل، صحيفة الحالة الجنائية، وموقفه من الخدمة العسكرية».

وذلك بجانب التقرير الطبى من الجهة المتعاقد معها الدير للتأكد من خلوه من الأمراض المزمنة والمعدية التى تعوقه عن الحياة الرهبانية، وتقرير الحالة النفسية من الطبيب النفسى التابع للدير، وبعد ذلك يرتدى طالب الرهبنة زيا باللون البنى ثم يتدرج ليرتدى الأزرق، ويراعى خلال تلك الفترة أن يتم تغيير العمل المسند له كل 3 شهور، ويجب أن يمر على جميع أنشطة الدير وخدماته لمدة عام.


بئر الشهداء و«الطافوس»

قاطعنا أحد الزائرين للدير لأخذ البركة من الأب ويصا ويطالبه بالصلاة له، وكنا قد وصلنا مدخل بئر الشهداء وصعدنا 3 درجات مبنية من الحجر القديم لندخل إلى البئر المحاط بقبة حديدية مصممة على هيئة صليب ولكنها تسمح للناظرين برؤية داخل البئر الذى خلا من المياه.

ويرجع تاريخه للقرن الرابع وسمى بهذا الاسم لأن قبائل البربر الذين قتلوا الـ٤٩ شهيدا فى دير القديس أبو مقار عام ٤٤٤م غسلوا سيوفهم الملطخة بالدماء فى هذا البئر، ليتغير لون المياه إلى اللون الأحمر.


وأثناء هبوط درجات مدخل البئر وجدها الأب ويصا فرصة لختام شروط الالتحاق بالرهبنة قائلا: بعد مرور سنتين على الأخ فى الدير ينتقل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة وفيها يرتدى زيا باللون الأبيض.

وهى المرحلة التى يتم خلالها تقييم عام للنظر فى قرار رسامته راهبا، وفى حالة إخلاء سبيل طالب الرهبنة تتم مساعدته على مواصلة الحياة بحكمة وإقناع، ويتم إخطار بقية الأديرة بأسماء غير المقبولين والأسباب، كما يفضل عدم قبول طالب رهبنة سبق له الخطبة.


وصلنا إلى «الطافوس» وهى كلمة قبطية تعنى مكان الراحة الأبدية أى مقبرة الرهبان، ويتم الدفن فيها بالملابس الرهبانية.. وعندما شرح لى كيف يتم دفن الراهب ونحن نقف أمام الطافوس تذكرت قرائتى قبل زيارتى إلى الدير عن طقس موت الراهب ليرحل عن العالم ويذهب إلى الدير.

وهنا كان تغير ملامح وجهه واضحا جدا وكأنه لا يريد أن يتذكر هذه اللحظة المؤلمة فيقول الراهب ويصا إنها لحظات مهيبة، ففيها تنقلب حياتك رأسا على عقب ولكن بمحض إرادتك من أجل التقرب والوصول إلى الخالق، فهو شعور غريب ولذلك يمنع من حضوره أى شخص علمانى.

فنظر إلى وقال هذا الطقس ينام خلاله الأخ طالب الرهبنة على ظهره على الأرض ويضع يديه على صدره مثل نوم الميت تماما ويغطى بساتر، كما يغطى الميت وهو فى نعشه، وتقرأ عليه «أوشية الراقدين».

وهى صلاة الأموات فى دلالة على الموت عن الحياة، وتنطلق الألحان الحزينة، وتبدأ صلاة الشكر ودورة البخور، ثم يصلى رئيس الدير على «الاسكيم الرهبانى» وعلى الرأس توضع القلنسوة السوداء المرسوم عليها 12 صليبا فى إشارة إلى 12 تلميذا للسيد المسيح، وفى الخلف صليب يشير لترك الراهب العالم وراء ظهره، فلا يخرج من الدير، ولا يفعل إلا ما يطلب منه.

ويرتدى الملابس الرهبانية وتقام له زفة فى الدير، وتدق الأجراس فرحاً، ويوزع الشربات فرحاً، ثم ينصرف الراهب الجديد إلى قلايته.


وأثناء المشى بخطوات هادئة سمعت صوت البابا شنودة الثالث الراحل، فتعجبت وسألت هل ده صوت البابا شنودة فابتسم وقال نعم وأخذنا إلى مصدر الصوت، وامام 3 درجات اتضح الصوت، وبمجرد أن تطأ قدماك هذا المكان تجد صور البابا شنودة ولقاءه بعدد من الرؤساء والملوك والشخصيات العامة ومؤلفاته ومقتنياته الشخصية تزين الجدران ويتوسط المزار جثمانه حسب وصيته، بجانب إذاعة بعض عظاته أثناء استقبال الزوار حيث يجتمع الصوت والصورة معاً.


فشاهدت المزار، ثم خرجت لأجد مزار الأنبا صرابامون رئيس الدير السابق ويحوى أيضا جثمانه حسب وصيته بأن يدفن إلى جوار البابا شنودة الثالث، ويضم متعلقاته الشخصية ومؤلفاته، وقال الراهب اعتدنا يوميا على استقبال الزوار لطلب الأمنيات.

ولا تغلق أبواب الدير أمام الزوار إلا فى أسبوع الآلام وأيام استثنائية كذكرى وفاة البابا شنودة أو الزيارات الرسمية، وفى هذه الثوانى القليلة كنا وصلنا إلى الطاحونة القديمة التى ظلت تستخدم حتى القرن ال ١٩، ولكن مع زيادة عدد الرهبان والزوار، قرر رئيس الدير استخدام الأجهزة الكهربائية الجديدة لتوفير الطعام.


أغلقنا الباب الخشبى خلفنا وانطلقنا بين جدران الدير، وأثناء التجول دار النقاش حول وصف معنى الرهبنة فى المسيحية فقال الأب ويصا تعنى الموت عن العالم، أى التخلى عن جميع أنواع الرفاهية والعيش فى الدير فى زهد وتقشف للتعبد.

وتبدأ بعد سنوات الاختبار الثلاث للتأكد من أنه جاء بمحض إرادته، وقراءة كتاب «بستان الرهبان» الذى يبدأ كلماته بأن أعظم المسيحيين هم الرهبان لو حافظوا على طقوسهم.. وصلنا إلى كاتدرائية القديس الأنبا بيشوى التى تقع خارج سور الدير الأثرى ودشنها البابا شنودة الثالث فى أبريل 2005، ويقام فيها قداس الصلاة خلال رسامات الآباء الأساقفة وكذلك أسبوع الآلام الذى يسبق عيد القيامة.


سر القلالى

انطلقنا من الكاتدرائية وعدنا بين أسوار الدير مجددا ليجدها الراهب ويصا فرصة للإجابة عن سر القلاية فى حياة الراهب قائلاً إن «القلاية» هى مسكنه ومرشده ووطنه وصديقه، وتزيده بالمحبة والإيمان، كما أنها طريقه إلى الكمال نحو الله، تشاركه أسراره مع الله.

وتظل شاهدة على جهاده وحروبه مع عدو الخير ومع ذاته ومع العالم، وهنا كنا وصلنا إلى القلالى القديمة التى بنيت فى القرن الرابع، وتتراوح مساحتها بين 18 و35 مترا، وتراها بباب قصير يقودك إلى حجرتين إحداهما تسمى «المحبسة».

وفيها يختلى الراهب للصلاة والتأمل الروحى، والأخرى مضيفة استقبال لأشقائه الرهبان، ودورة مياه ومنافذ للتهوية، ومع تزايد أعداد الرهبان التى وصلت إلى 205، وتم بناء بعض القلالى الحديثة نسبيا فى مبنى يتكون من أربعة طوابق، بالإضافة إلى وجود القلالى للرهبان المتوحدين، والتى توجد منفردة عن الأخرى، ومنها البعيدة عن الدير حوالى 2 لـ 5 كيلومترات وتوجد بالجبل.


يوم فى حياة راهب

أمام هذه القلالى وقف الراهب ويصا يحكى لنا عن يوم الراهب الذى يبدأ فى الرابعة فجرا، يصلى صلاة التسبحة التى تعد نور اليوم بالنسبة له وتستمر حتى السابعة صباحا وبعدها يتوجه كل راهب لـ»القلاية» للتأمل والصلاة حتى التاسعة لا يتكلم أحد، ثم يخرج كل إلى خدمته سواء كانت فى ورش النجارة والأرابيسك، التى تصنع كافة احتياجات الدير، أو مزرعة الدواجن.

والأراضى الزراعية التى يعمل بها مئات العمال وتخضع لإشراف الراهب، وهناك أيضا الأطباء الرهبان الذين يخدمون فى العيادة، وتنتهى هذه الأعمال ما بين الثالثة والخامسة مساء. 
وأثناء تجولنا فى الدير مر بجوارنا شاب أسمر اللون  يرتدى الجلباب الأبيض.

«وتعنى أنه فى فترة النقاء قبل أداء طقس الموت ليصبح راهبا»، يتسابق مع الزمن ليقرع الأجراس إشارة إلى إقامة قداس الصلاة مع دقات الرابعة مساء، وكان الشاب يحرك رباط الجرس بيديه ليصدر أصوات ترنيمته.

وهنا كان السؤال حول صوت الجرس ليكشف لنا أن للجرس نغمتين إحداهما ترنيمة للفرح وأخرى حزينة تطلق فى الجنائز، وخلال الحديث مر بجوارنا الأنبا أغابيوس أسقف ورئيس الدير، أثناء توجهه برفقة عدد من الرهبان إلى الكنيسة الخاصة بالرهبان «لا يدخلها أحد غيرهم»، نظر إلينا بابتسامة ملأت وجهه ورحب بنا، والتقط معنا بعض الصور، ثم أسرع بخطواته لأداء الصلاة مع أبنائه.


بعد هذه الجولة كانت الشمس قد بدأت فى الغروب أشار إلى أنه موعد صلاة قداس العشية فى الخامسة مساء، ويجتمع الرهبان بعضها لتناول الطعام، وهنا غابت أضواء النهار، وانحصرت الزيارات، وأغلقت الأبواب، وعم الهدوء أرجاء الدير، حتى موعد صلاة السحر ختام الثمانى صلوات التى يؤديها الراهب فى يومه، أما المواطن المسيحى فيقوم يوميا بأداء سبع صلوات فقط.


وفى السابعة مساء يتحرك بعض الرهبان بعصيهم إلى الجبل، للاجتهاد من أجل التعبد إلى الله فى الصحراء، ثم تبدأ فترة الصمت ويعود إلى قلايته للراحة حتى موعد صلاة التسبحة فجر اليوم التالى.


وبعد مرور عدة ساعات بين أسوار الدير تجولنا كثيرا للاستمتاع باليوم، شعرت ببعض الرهبة التى خففت من حدتها نسمات الليل الهادئة وروحانيات المكان ولم تكن الرهبة ناتجة عن شىء إلا عدم اعتيادى على الانفصال عن العالم وضجيج شوارع المدينة وصخب المواطنين وازدحام السيارات بأصوات آلات التنبيه المزعجة، وهى الحالة التى عبر عنها الفنان أحمد عدوية فى أغنية «زحمة يا دنيا زحمة»، لكن الفارق أن أجواء الدير الروحانية جعلتنى أشعر بأن الرحمة ليست غائبة.


انقطعت الحركة تماما وساد الصمت أجواء المكان بعد أن دخل كل راهب الى قلايته يذكر ويتعبد فى ملكوت الله، أما أنا والزميل المصور فكنا نتجول أمام القلالى بين أسوار الدير لمشاهدة أسراب الحمام البيضاء، وهى تطير فى سمائه فى منظر بديع يخطف العيون، هذا الظلام الدامس وسط السكون التام الممزوج بأصوات الطبيعة فى الصحراء.

وسرعة الرياح عدنا إلى دار الضيافة بعد أن اشتدت برودة الجو نسبيا وجلس معنا الأب الراهب برنابا لإجراء حوار سريع معه.. خلال ساعات الليل أخذت استعيد أحداث اليوم المثير الذى جعلنى أخوض تجربة غير معتادة فى حياتى وبدأت أسجل ملاحظاتى كى لا أنسى أى تفاصيل خلال الجولة المكثفة.


ومع نسمات الصباح بدأت الحركة تعود للدير مع استيقاظ الرهبان لبدء يوم جديد ملىء بالعبادة والعمل، وقتها اكتشفت أننى لم أكن أعلم الكثير من التفاصيل حيث ظننت طوال عمرى أن الرهبان لا يفعلون شيئا فى الدير سوى العبادة، ثم اكتشفت أن داخل الدير حياة متكاملة، تستحق أن ألقى الضوء عليها، انطلقنا خارج الدير مع ساعات الصباح الأولى فوجدنا أصحاب المتاجر المحيطة يعرضون منتجات الأديرة استعدادا لاستقبال الزائرين لقضاء يوم خارج عن المألوف.

اقرأ ايضًا | رئيس الوزراء يزور المقر البابوي لتهنئة البابا تواضروس الثاني بعيد الميلاد| صور