اكسر قلة

إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد

فى الإسكندرية حيث وُلدت وعشت طفولتى وصباى وأيام شبابى الأولى عرفت التفاؤل دائما مع نهاية العام، حين يخرج أهل المدينة إلى النوافذ والبلكونات فى منتصف ليلة آخر ديسمبر، يلقون بالقلل الفارغة والزجاجات مودعين العام مستبشرين بعام جديد. هذه عادة يقال إنها يونانية لكن المثل الشعبى المصرى يقول لك حين يزورك شخص لا تحبه وينصرف اكسر قلة وراه حتى لا يعود.

لم تكن الأعوام سيئة ولا الحياة صعبة فكان تعداد السكان مثلا فى الخمسينيات لا يتجاوز الخمسمائة ألف بمن فيهم الجاليات الأجنبية من يهود وأرمن ويونان وطليان وغيرهم، وفى الستينيات زاد قليلا رغم خروج الجاليات الأجنبية بسبب توافد أهل القرى والريف إلى المدينة بشكل كثيف.

كنا نستبشر دائما رغم الأيام الحلوة التى كانت فيها الشوارع نظيفة والسينمات بالعشرات فى الأحياء الشعبية والراقية والملاهى الليلية على الكورنيش وفرق الموسيقى العالمية تتوافد على المدينة والأسعار لا يمكن ذكرها حتى لا يُصاب من يقرأ بالصدمة مما جرى بعد ذلك.

التفاؤل ليس مجرد فكرة فلسفية لكنه حالة حياة على الأرض فلماذا تتشاءم وأنت تستطيع أن تقضى يومك بربع جنيه، وإذا خرجت إلى حديقة أو ميدان وجدت عرضا سينمائيا وفرقة موسيقية من الشباب تشاهدها بالمجان، واذا كنت تلميذا فالفصل لا يزيد على عشرين فى الابتدائى وثلاثين فى الثانوي، وإذا رأيت فقيرا فيمكن أن تساعده بسهولة جدا ليس لأنك موسر، ولكن لأن قرشا تعطيه له سيكفى ساندوتش فول أو طعمية.

التفاؤل والتشاؤم أفكار فلسفية فهناك فلاسفة منذ بداية الكتابة لا يرون للعالم معني، وهناك على العكس فريق آخر يرى أن الإنسان هو وحده القادر على تغيير العالم. حين تكون شخصا عاديا تمضى بك الحياة لا تفكر فى هذا وتنشغل بحياتك وحياة أسرتك وتعمل ما استطعت، لكن حين تكون مثلنا من أصحاب المواهب للكتابة والإبداع ترى نفسك مشغولا بما حولك، وبقدر سلامة ما حولك يتسرب إليك التفاؤل أو التشاؤم، ومن ثم تجد كثيرا من المبدعين انتهت حياتهم فى ألم قد يصل إلى حد الانتحار يأسا. قليلون يجدون الكتابة نجاة والحقيقة أنها كانت نجاة لى من كل ما جرى حولى من تدهور ومثلى كثيرون، لكن فى لحظة مع تقدم العمر يطل السؤال هل كان لما كتبته معني؟

هذا سؤال مؤلم والأفضل تركه والنظر إلى الأمام فالعالم لايقف عند أحد. المهم أن عادة كسر القلل والزجاجات هذه انتهت سنوات كثيرة بدءا من نهاية السبعينيات بدعوى الجماعات الوهابية التى ملأت البلاد بحرمتها الموازية لحرمة تهنئة المسيحيين بأعياد الميلاد.

قلّت المسألة فى المدينة وكادت تنتهى..

صار سؤال كل عام كيف تهنئ الأقباط وأنت مسلم وامتد الأمر حتى لأعياد المسلمين فكيف تحتفل بعيد ميلاد النبى الكريم محمد. الاحتفال بالميلاد عادات الكفار!

أو كيف تقيم أربعينا لميت رغم أنها عادة فرعونية قديمة يعنى مصرية، لكن الفراعنة كانوا كفارا رغم أنهم أول من عرف الله. لا ينتبه أحد إلى أن عادة الاحتفال برأس السنة هى عادة البحث عن أمل فى أيام أجمل.

حتى هذه لا يريدونها. على الناحية الأخرى لم تعد الحياة بالجمال السابق والحديث طويل عن الأسباب حولنا. أفكر فى ذلك كله وأقول العيب فى القلل التى اختفت من البلاد فلم نعد نجد قللا بالعدد الكافى لنكسرها وراء من نريد. وأتذكر مرغما أو دون أن أدرى قصيدة أبى الطيب المتنبى « عيد بأى حال عدت ياعيد» لكنى رغم ذلك سأكسر قلة رغم أنى أعيش فى القاهرة . لن أتخلى عن الأمل . اكسروا قلل يمكن !!