محمود الوردانى يكتب: الطريق إلى كوتسى (2 - 2) بالقرب من دوستويفسكى

محمود الوردانى
محمود الوردانى

[email protected]

(قمتُ بتغيير اسم الروائى، استجابة لما كتبه الشاعر عبد المقصود عبد الكريم، إلى كوتسى بدلا من كوتزى)"،وربما كان وصف الناشر- على ظهر غلاف رواية «سيد بطرسبرج» ترجمة ربا زين الدين، دار ورد، دمشق، لهذا العمل هو الأكثر دقة، حيث كتب أن كوتسى «تجرّأ على تخيل حياة دوستويفسكى». نعم تجرأ وكان شجاعاً بما يكفى باقترابه إلى هذا الحد، بل وتماهيه معه، وفى الوقت نفسه، الانفصال الكامل عنه والوقوف على مساحة منه تسمح لكوتسى بكتابة نصه الخاص.


 الرواية ليست «تاريخية» مطلقاً، ولا تحفل بالوقائع والأحداث التى يعرفها الجميع عن دوستويفسكى، بل يجنح الكاتب ما يشاء له الجنوح ويكتب عن دوستويفسكى آخر خلقه كوتسى.


 لستُ فى حاجة لتأكيد أن دوستويفسكى روائى القرن التاسع عشر العظيم كان من أصحاب الرسالات الكبرى، وليس مجرد كاتب. حمل رسالته وبشّر بها وكان يحمل، بل ينوء برسالته وكتب آلاف الصفحات حاملاً هموم الإنسانية بلا هوادة.


تمتد «سيد بطرسبورج» عدة شهور خلال عام 1869، عندما وصل دوستويفسكى إلى بطرسبرج قادماً من دريسدن فى ألمانيا حيث كان يقيم، بعد استدعائه بسبب الموت المفاجئ لبافل ابن زوجته. يمضى كاتبنا مكبلاً بلوعته وحزنه العميق ساعات تمتد لأيام.

ويتكشف له عالم ابن زوجته الشاب، بدءاً من مكان إقامته داخل حجرة فى شقة امرأة فى خريفها هى أنا سيرجييفنا وابنتها الصبية ماتريونا. يزور قبر ابنه برفقة الأرملة، ويلتقى بالمحقق القضائى ليحاول الحصول على أوراق ربيبه.

ثم يجد نفسه متخبطاً فى نفق طويل مظلم، عندما يلتقى ببعض زملاء ربيبه فى منظمة سرية إرهابية، وقد انتشرت تلك المنظمات فى روسيا القيصرية تدعو للمساواة وتدمير المجتمع القائم لتحقيق المساواة والسعادة للبشر. 

 تكشف الرواية نفسها على مَهَل، ويضفى الكاتب جواً ضبابياً على الأحداث مستعيناً بمخاتلة ذكية مبهرة، فكل ما يورده من أحداث من الممكن أن تكون أحداثاً حقيقية، وبنفس القدر،ومن الممكن أن تكون غير حقيقية ويتخيلها دوستويفسكى بطل العمل وراويه والمتورط فى تفاصيله.

وهو يمضى ساعاته مضطرباً لاهثاً. هل طارح الأرملة أنا سيرجييفنا الغرام فعلاً؟ وما هى حقيقة شعوره تجاه الصبية ماتريونا، وما حقيقة علاقة ربيبه بالإرهابيين الذين عرفهم عن طريق ماتريونا، ومن هم هؤلاء الإرهابيون وهل هم بشر حقيقيون؟
متاهة تقود لمتاهة، ومخاتلة ساحرة تصل إلى حد الاعتداء عليه وتجريده من نقوده ووقوعه تحت رحمتهم. وهكذا يجد نفسه بلا مال يسمح له بالسفر عائداً، أو الاستمرار فى بيت الأرملة التى تطلب منه أن يغادر شقتها.


وليس مهماً أن أحكى الرواية طبعاً، لكننى أحاول فقط الإحاطة بعالمها وسحرها المتواصل الآسر، فهو يمضى أو ربما يُجبر على المضى مع الإرهابيين فى أزقة بطرسبرج الخلفية، ويلتقى ببعضهم ويوشكون على تنفيذ تهديداتهم الغامضة، وربما كانوا قد قاموا بتجنيد الصبية ماتريونا فى منظمتهم، خصوصاً أنه اكتشف أن الأخيرة تحتفظ بأسلحة تحت سريرها.


كوتسى كاتب ساحر، وكان جسوراً ولم يخش دوستويفسكى، بل نازله وتماهى معه وانفصل عنه، وشيّد عملاً ساحراً مضطرباً، على النحو الذى يليق بكاتب مخيف مثل دوستويفسكى.

اقرأ ايضًا | محمود الورداني يكتب: الطريق إلى «كوتزى» (1 – 2)