د. محمد سليم شوشة يكتب: جسر لنقد الحداثة بين العرب والغرب

الدكتور صلاح فضل
الدكتور صلاح فضل

يمثل عطاء الناقد الكبير الراحل الدكتور صلاح فضل سلسلة مهمة فى مسيرة النقد الأدبى العربى، فقد تزامن هذا العطاء منذ بدايته فى الستينيات حين كان يدرس الدكتوراه مع بدايات ارتباط النقد الأدبى للعرب بمراحل جديدة كان النقد فى الغرب قد حصلت فيه انعطافات مهمة تزامنا مع مرحلة الحداثة وأثر ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستقرار النقد الأدبى لدى الغرب على بعض هذه التأثيرات المرتبطة بالنصية والتكوين البنائى للعمل الأدبى بعيدا عن مؤلفه بتأثير من مقولة  موت المؤلف والطفرة التى أحدثتها تصورات دوسوسير فى اللغة.

اقرأ أيضًا | محمد سالم عبادة يكتب: محاولةٌ لفهم ما قالَه لي!
فبدأت نزعات البنيوية والأسلوبية والسيميولوجيا وتزاحم وتراكم عطاء المدرستين؛ الروس الشكلانيين والمدرسة الفرنسية البنائية، الأولى عبر عطاء أبرزهم ميخائيل باختين ورومان ياكبسون والثانية عبر عطاء رولان بارت وجيرار جينت.

 الحقيقة أن الحداثة لم تكن مقصورة على هذا فقد تزامنت معها طفرة موازية فى الدراسات النفسية والعكوف على توظيفات فرويد وتحليلاته، كما ظهرت كذلك البنيوية الاجتماعية والنقد الماركسى، كل هذا ولم يكن العرب قد بدأوا فى مرحلة الحداثة.

ومازالوا يعملون فى دائرة الحديث وداخل أسوار حديقة طه حسين التى اختطها بأقدامه العملاقة بين التاريخية والاجتماعية والنفسية والواقعية والرومانسية من مراحل الأدب الحديث ونقده ومدارسه أو اتجاهاته.

وفى تلك المدة كان الدكتور صلاح فضل قد استوعب التطور الحاصل والانعطاف الكامل نحو الحداثة وسمتها العلمى الصارم الذى جعل من الأدب صورة من البحث التجريبى أو الطابع الإمبريقى الذى يتجاوز الانطباعات والتصورات الفردية ويتجه نحو ممارسة نقدية تركز على الدلائل المادية من داخل العمل الأدبى.

وقد استوعب أهمية هذا التحول وحتمية مسايرته إذا كانا نريد نقلة أخرى للنقد الأدبى أو الدراسات الأدبية، وإن كانت قد سقطت كثير من معطيات الحداثة فيما بعد الحداثة لكنها لم تكن كلها هباء أو مجرد أوهام.

ولذا فقد كرس الدكتور صلاح فضل جهوده ليؤدى دور الربط والتجسير بين الثقافة العربية وتحولات النقد فى الثقافة الغربية، وبدأ بكتاب البنائية ولم يكن قد سبقه أحد غير الدكتور كمال أبو ديب وهو كذلك رائد فى هذا الدور وأسهم فى عملية التجسير هذه.

ولكن ما شكل خصوصية للدكتور صلاح فضل هو الدأب والاستمرارية واستكمال بقية المناهج والنظريات النقدية لما بعد الحداثة، فنقل الأسلوبية والسيميولوجيا وإن كانت الأخيرة بصورة تطبيقية أكثر وبنوع من الابتسار التنظيرى الذى حاول معالجته فى مراحل تالية.

وهكذا استمر فى هذا الدور من الناحية التنظيرية، فكتب بلاغة الخطاب وعلم النص، والحقيقة أنه كان الأكثر وعيا بالبنيوية أو البنائية كما كان يفضل فى الترجمة بالجوانب اللغوية والانطلاق من الوحدات والعناصر والمكونات اللغوية نحو القيمة الأدبية أو الأثر الأدبى والجمالى وقيم الشعرية أو التشكيل الشعرى أو التشكيل السردى وخصوصية النص الأدبى.

وفى تقديرى أن ثقافته وتأسيسه اللغوى القوى فى دار العلوم وقبلها فى الأزهر هو ما جعله الأكثر مناسبة لاستيعاب هذا الربط بين البنيوية وما حولها من نظريات وبين المطلب اللغوى الأساسى والحاسم فى استكشاف النص الأدبى أو مقاربة جمالياته. 

تعددت كتب الدكتور صلاح فضل التى تدور فى إطار نقد هذه المرحلة ونظرياتها وأفكارها واستمر على عطائه فيها لعقود بدأب وتطوير وإصلاح ومحاولا أن يواكب مراجعات الحداثيين أو إصلاحاتهم أو استدراكاتهم على أنفسهم، ولكنه يبدو مغرما بعض الشيء بفكرة الأسلوب.

وكتب فى إطارها أكثر من موضوع وأكثر من عنوان فضلا عن كتابه فى الأسلوبية، والحقيقة أنه مع تأمل هذه النقطة نجد أنه كان يحاول ربط نقد الحداثة الغربى بتراثنا العربى النقدى القديم، فتركيزه على الأسلوب جزء من بحث النقاد العرب القدامى عن الخصوصية.

فكأنه قد حاول وسعى إلى تطويع الأسلوبية وإجراءاتها لاستكمال بحث العرب فى فكرة الخصوصية ونقاط تمايز كل مبدع عن الآخر وكل نص لدى المبدع الواحد عن غيره من النصوص، فنجد أن العقل النقدى للدكتور صلاح فضل اتخذ من فكرة الأسلوب محورا للاستكشاف والحكم والنقد والتقييم ومقاربة النصوص ومحاولة فهمها أو تفسيرها.

وفى رأيى أن هذا التصور يكشف عن قدر المرونة التى كان يتمتع بها وقدرته على التوفيق بين القديم والجديد ودليل كذلك على أنه كان مستوعبا لكل النقدين وهاضما لهما ومركزا على جوهرهما دون الشكل أو الالتزام الشكلانى بالمصطلحات والإجراءات دون تحقيق الغاية.

وفى كتاب إنتاج الدلالة الأدبية مثلا كان يطبق نقدا بنائيا على مسرح صلاح عبد الصبور وشعر أمل دنقل ومسرح فاروق جويدة، وبدأ فى ملاحظة التوظيفات السردية داخل الشعر وبداية فكرة تداخل الأنواع أو الأجناس الأدبية وكيف يمكن أن تكون أدبية نوع أدبى معين مرتكزة على توظيفات تقاطع مع نوع آخر.

فنجد السرد والبناء الدرامى أو التركيب الدرامى والقصصى فى القصيدة ويكشف كذلك عن كيفيات مسرحة القصيدة أو جعل القصيدة مرتكزة على معطيات مسرحية أو تقنيات سردية ومسرحية ترتبط بالشخصيات والمكان، وقد كان ذلك فى وقت مبكر نسبيا.

ويكتب عن شوقى وحافظ ومدرسة الإحياء والبعث ويكتب عن بدر شاكر السياب وعن حنا مينا ويكتب عن بعض الأدباء السعوديين الكبار ويكتب عن كل بارز وصاحب مشروع فى الأدب العربى بالكيفية نفسها من الانضباط المنهجى والالتزام بمنهج ثابت يعلنه أو يقرره فى بداية كتابه أو دراسته ويظل مستمرا ومحافظا عليه.

فى نوع من الالتزام بطرح المنهج بالتوازى مع أداء الدور النقدى، فكأنه يمارس نوعا من الضبط والتنظيم للنقد العربى، وكان دائما ما يحافظ على حضور الشقين النظرى والتطبيقى دون فصل بينهما بحيث لا يكون التنظير منفردا ثقيلا على القارئ.

ولا يكون التطبيق منفردا أشبه بالانطباعات ويبدو متحررا تماما من المنهجية، فيقدم الفكرة النظرية مصحوبة بتطبيقها أو بإجراءاتها التى كانت فى الحقيقة غير حرفية فى أكثر استعمالاته لها، فقد كان يميل إلى مساحة من التحرر النسبى التى تكفل للممارسة النقدية خصوصيتها وإبداعها أو اختلاف أسلوبها.

فكان فى أغلب الأحيان انتقائيا كما نراه فى تطبيقه للسيميولوجيا على سبيل التمثيل وكيف كان يركز على علامات أو شفرات بعينها أو على نسق معين منها أو انتظام وتكرار ما، ونجده مثلا يركز على فكرة النسق التبادلى ويكرره كأنما يكرس للمصطلح أو المفهوم بعد أن يكون قد رسم حدوده عبر اللغة أو التصور اللغوى.

ونجده فى بعض الأحيان لا ينفك عن جوهر الشعر بتتبع الإيقاع والأصوات والبنية الصوتية والصرفية والنحوية فى تسلسل تصاعدى يجعله ينتقل من هذه الوحدات الصغرى إلى الشكل الأدبى أو بالأحرى ينتقل منها إلى رصد وملاحظة النسق الجمالى أو الدلالى الذى يشكل شعرية النص أو يمنحه أدبيته.

وهو فى الحقيقة فضلا عن كونه مبدأ علميا وإجرائيا فإنه يصبغ الممارسة النقدية بالمسئولية ويجعل الأساس أو الأصل اللغوى من لحمه ودمه هو الأساس وهو عودة إلى جوهر الأدب وهو التكوين اللغوى عبر بنياته السطحية أو العميقة.

ولكن مع الأسف فإن كثيرا ممن حاولوا السير فى هذا المسار الذى فتحه لهم من الأجيال التالية كانوا شكلانيين أو بالأحرى ظاهريين لم يأخذوا من الحداثة إلا مصطلحاتها دون هذا الجهد من الدأب والإلحاح فى استكشاف النص عبر نظامه اللغوى.

ومن الزوايا المهمة جدا فى مشروع الرجل ومنجزه كذلك أنه لم يكن مستغرقا بحدود نوع أدبى بعينه، فلم يستحوذ عليه الشعر دون السرد أو العكس، لكنه كان يقارب بالمناهج نفسها والنظريات نفسها الأنواع الأدبية المختلفة، فيطبق السيميولوجيا أو علم النص أو البنائية أو المنهج الواقعى فى الأدب على السرد والقص والشعر والمسرح دون استثناء برغم ما يحتاج ذلك من تغيير فى الإجراءات أو فى الممارسة وتطويع بعض مراحلها لتناسب النوع الأدبى المدروس.

ولهذا فإن كثيرا من كتبه لم تكن مقصورة أو محصورة فى نوع منها، بل نجد بلاغة الخطاب وعلم النص يشتغل على الاثنين شعرا وقصا، وكذلك شفرات النص، ومثلهما منهج الواقعية والبنائية، بل إنه لم يكن مهملا لشعر العامية أو مقللا من منهجه.

ومن طرائفه ولطائفه النقدية أنه كان أحيانا يتعرض لبعض إجراءات الإخراج أو الأغانى المصاحبة والديكور فى العرض المسرحى، فكان ينقد عرضا مسرحيا لا نصا، وكان يعتنى بحضور المكونات والأشكال الفنية الأخرى من الفنون التشكيلية والموسيقى والديكور أو الرقصات الشعبية.

وبرغم التزامه بالأدب الرسمى واللغة الفصحى لكنه كان مقدرا للأدب الشعبى ومدركا لأثره فى حياتنا ولذا خص شعر العامية بأحد كتبه فى المرحلة الأخيرة، والحقيقة أن مشروع الرجل كبير وممتد وفيه جهد مخلص كبير ويحتاج إلى دراسات كثيرة.