محمد سالم عبادة يكتب: محاولةٌ لفهم ما قالَه لي!

الدكتور صلاح فضل
الدكتور صلاح فضل

يبقى من المُثير للريبة وربّما الاستهجان أن يُدليَ أحدُهم بشهادتِه عن قامةٍ أدبيةٍ تركَت عالمَنا فلا يتعرّض إلّا لما أثنى به عليه الراحلُ ولا يَذكُر إلا كلماتِ الإطراء، خاصّةً إذا كان مُنجَز الراحل كبيرًا فى حقل نشاطِه. ولأنّ أستاذنا الدكتور صلاح فضل رحمةُ الله عليه ينتمى إلى طائفة هؤلاء الكِبار الذين تركوا بصماتِهم علاماتٍ مهمّةً، لاسيّما فى عالَم النقد الأدبيّ العربى، فالحديثُ عنه من هذا المُنطلَق الضيّق الذى حدَّثَتنى نفسى باختيارِه يبقى أخلَقَ بإثارة الريبة. لكن ما قد يشفعُ لهذه الشهادة أنّ وقائعها الكلاميةَ لم تكن جميعًا إيجابيّةً فى حَقّي. وخلاصةُ القول أننى هنا أحاول أن أفهمَ ما قاله لى أستاذُنا الكبير، وبعد أن أُوجِزَ المناسَبات السَّبع، أخلُص إلى رؤيةٍ لبعض قَناعاتِه قد تصيبُ وقد تخطئ.

 تسنّت لى مقابلتُه سبع مرّاتٍ، خمسٌ منها فى سياق برنامج أمير الشعراء الشهير، إذ كان هو فى لجنة الحُكم بالطبع وكنتُ أحدَ المتقدِّمين للبرنامج. كانت المرّة الأولى فى الموسم الأول عام 2007، إذ تقدّمتُ بتجربةٍ شِعريّةٍ عنوانُها «نَقدُ البَغل الخالِص».

وكانت اللجنة من خمسة أعضاءٍ، منهم مَن بدا من الواضح تمامًا أنّ معنى القصيدة قد فاتَه ولم يصل إليه منه شيءٌ، فما كان منه إلا أن سَخِر منها، وكان هذا هو الفنان السوريّ الكبير غسّان مسعود متّعه الله بالعافية. ومنهم مَن عبّر عن سَبرِه أعماقَها انطلاقًا من رؤيةِ الناقد الأمريكى الكبير هارولد بلوم فى كتابِه «قلَق التأثُّر».

وهذا هو د. على بن تميم، الوحيد الذى أجازَ القصيدة. أمّا د. صلاح فلا أنسى أبدًا إغراقَه فى الضحك بمجرّد سماعِه عنوانَ القصيدة. وحين علّق عليها بدا موقفُه غريبًا ومثيرًا للتأمُّل. فالرجُل أدركَ على الفور ما يَعِد به العنوانُ من معنىً مكتنِزٍ، فهو من ناحيةٍ تناصٌّ ساخرٌ مع الترجمة العربية لاسم مؤلَّف إيمانوِل كانت الأشهر «نقد العقل الخالص».

ومن ناحيةٍ أخرى ينطوى على مفارقةٍ مُفادُها أن ليس ثَمّ بغلٌ خالصٌ بحُكم تعريف هذا الحيوان! كانت القصيدة تبرُّمًا بحالة التمزُّق بين الاعتداد بالأصالة من ناحيةٍ وإدراكِ التأثُّر بالحتميات – أو ما قد يبدو حتميّاتٍ .

ومن ناحيةٍ أخرى. أدركَ د. صلاح ذلك، لكنّه رفض إجازة القصيدة من مُنطلَق أنّ الخيط الساخر فيها يتنافرُ وجوّ المسابقة التى اعتزمَ منظِّموها أن تكون رصينةً (رسميّةً) فى سَمتِها. 


 الثانية فى العام التالى 2008، إذ تقدمتُ بتجربةٍ عنوانُها «النبيُّ دانيال» بلسان أحد باعة الكتُب فى الشارع السكندريّ الذى يحملُ عنوانُ التجربةِ اسمَه. وبينما رأى أحدُ النقاد الخمسة تضاربًا فى متن القصيدة بين «بعض الصُّور الواعدة» على حدّ تعبيرِه و«أبياتٍ أخرى تحرِّض على النثرية».

وأدركَ أستاذنا الراحلُ أنّ هناك ملمحًا سرديًّا واضحًا تحاول القصيدة أن تُشعِّرَه، يتمثّل فى تعبير بائع الكتُب عن مأزقِه الوجوديّ الشخصيّ بكلّ ما يكتنفُه من ظروف المكان والعمل، معرِّجًا على اسم النبى التوراتى الذى سُمِّى الشاعرُ باسمِه وما يطرحُه من أسئلةٍ حول جدوى رؤية المستقبَل، ومستقرًّا أخيرًا عند حبيبتِه التى يجسِّد حبُّه لها نبوَّتَه هو. وأجاز د. صلاح القصيدة وأبدى إعجابَه بها.


وفى 2009 تكررَ امتداحُه التجربةَ التى تقدّمتُ بها «الساحر» الموضوعةَ على لِسانِ ساحرٍ حقيقيٍّ راحلٍ ذاعَ صِيتُه فى تسخير الجنّ، وكانت دوافعُه لإجازتِها شبيهةً بما رآه فى «النبى دانيال». وفى حلقات البثّ المباشِر كانت المفاجأة فى إطرائه تجربتى «قِصّة ﭘـاﭬـلا».

والتى رأى أنّها مثالٌ لما يبقى به الشِّعر حيًّا فى مصر. والتجربةُ مختلفةٌ عن سابقاتِها فى عِدّة ملامح، منها أنّها تفعيليةٌ، وما قبلَها تجاربُ عموديّة، ومنها أنها بلسانى أنا (مثل نقد البغل) بعكس (النبى دانيال) و(الساحر)، ومنها أنّها من بواكير ما كتبتُ، فِيما سابقاتُها قد كُتِبن فى مراحلَ لاحقة.

ومنها أخيرًا احتواؤها على كَثرةٍ نسبيّةٍ من أسماء الأعلام الأجنبية (التشيكية تحديدًا، حيث موضوعُها فتاةٌ تشيكيةٌ صادفتُها فى رحلتى إلى بلادِها). 


 المرّةُ الرابعةُ كانت قصيرةً عابرةً، وذلك أنّى رأيتُه – رحمَه الله – ليلة افتتاح بيت الست وسيلة (بيت الشِّعر) فى 2010، وهنأَنى بفوز ديوانى (قُدّاسٌ أسود) بجائزة الشعراء الشباب التى أُعلِن عنها تلك الليلة. 


وأمّا الخامسةُ فهى عودةٌ إلى أمير الشعراء 2015 بتجربتى «ماكِثِين فيه أبدا» التى لم يُجِزها أستاذُنا، ربما لأنه رأى فى احتذائها قَصص سورة الكهف شكلًا من أشكال الإفلاس الإبداعيّ وربما اقترابًا من المباشَرة.


والسادسة هناك كذلك فى 2017، حيث أجازَ «أفنيتُ عُمرى واقِفا» بعد أن شهِد بقوّتِها، وإن كان قد شفع هذه الشهادة بإعرابه عن عدم استحسانِه فكرةَ التناصّ مع امرئ القيس وامتياحى من بئر معلّقتِه.

وحتى وإن كنتُ أفعلَ هذا بُغيةَ الثورة على نمطٍ تصوُّريٍّ مُكرَّس. ولا أنسى ما قالَه بالحرف: «آثرتَ أن تَنقِفَ الحنظلَ وأن تأتيَ بالكلمات الصعبة. القصيدة قويّةٌ، لكن يا حبّذا لو شحنتَها برُوح الفكاهة المصرية. أحسبُك جديرًا بالنوع الآخَر من الشِّعر الذى يلتحم بهموم العصر.»


 وأخيرًا فى ندوةٍ للجمعية المصرية للنقد الأدبيِ لا أذكرُ تاريخَها على وجه الدِّقّة أهديتُه نسخةً من روايتى القصيرة «كلام» فقال فى سخريةٍ هادئةٍ تردَّدَ صداها لدى نُقّادٍ آخَرين: «انت سِبت الشِّعر وبقيت تكتب رواية؟ يا حول الله يا رب!».


ويبدو لى فى النهاية أنّ أستاذنا الكبير كان يرى سبيلًا واضحةً لتطوير الشِّعر، فقد كان مُنحازًا إلى شِعر التفعيلة، بوَصفِه منطلِقًا من إيقاع الشِّعر العربيّ عبر العصور وثائرًا على رتابتِه فى الوقت ذاتِه.

وفى محاولةٍ لاختطاط طريقٍ وسطٍ للأصالة والمُعاصَرة معًا، وقد ذُكِرَ لى من مصدرٍ لا أذكرُه أنه رحمه الله كان يرى أنّ سرعة انقضاض قصيدة النثر على المشهد الشعرى العربى ظلمَت قصيدةَ التفعيلةِ وقصَّرَت عُمرَها الذى كان الأولى به أن يَطُولَ فيُهيَّأ لها أن تعبِّر عن حِقبتِها التاريخية على نحوٍ أكثر استقصاء.

وكان يرى أنّ محض الامتياح من بئر النصوص المقدسة أو التراث الشِّعرى القديم فيه شكلٌ من أشكال الرِّدّة الثقافية، وأنّ الأليَقَ بالشاعر المُعاصِر أن يستقيَ تجربتَه من زمانِه بالكاملِ، وإلّا فهو مُديرٌ ظهرَه لهذا الزمان ومعتكِفٌ فى خلوةٍ ماضَويّة.

وكان يرى أخيرًا أنّ الاشتباكَ مع الغرب ضرورةٌ لا مناصَ منها إذا شئنا أن نُثوِّرَ وعيَنا، ربما على غِرار ما عبَّر عنه مرارًا وتكرارًا أستاذُ الأساتذةِ الدكتور طه حسين رحمه الله. وأظنُّه كان يرى كذلك أنّ انفتاحَ الشِّعر على الأنواع الأدبية الأخرى جديرٌ بخَلقِه خَلقًا آخَر.

وأنّ انطواءَ نسيج القصيدة على خيوطٍ سرديّةٍ واضحةٍ يُثريها وينقذُها من التهويم فى كُلِّ وادٍ، ذلك التهويم الذى يُلبِّسُ المعنى ويجعلُه مستغلِقًا حتى على الشعراء الآخَرين! كما كان يرى أنّ السخريةَ والفكاهةَ ضرورتان لتثوير الوعى بالعالَم والحفر فى طبقات الموضوع الشِّعريّ.

ولكن يبدو أنّه كان يرى لهما حدودًا واضحةً، فإذا ما تجاوزَتاها جعلتا القصيدة منافِرةً لأيّ مشروعٍ لتلَقٍّ جادّ. وأرى أنّ هذه القناعات تتجلّى فى تعليقاتِه على التجارب السِّتّ التى أسلَفتُ الحديث عنها بشكلٍ ما أو بآخَر. ويبدو أنه كان أخيرًا يحبِّذ أن يُخلِص الشاعرُ لمشروعٍ إبداعيٍّ واحدٍ، وأنّ غير ذلك يُعَدُّ تشتيتًا عابثًا للمجهود خليقًا بأن يُرثَى له!


 وقد نختلِف أو نتّفق مع أستاذنا فيما ذهبَ إليه، وقد تكون رؤيتى قاصرةً عن إدراك قناعاتِه فى تمامِها، فهى مبنيّةٌ على تفاعُلِه مع أمثلةٍ إبداعيةٍ لشخصٍ واحدٍ على فتراتٍ متقطّعةٍ هى بالطبع غيرُ كافيةٍ لرسم صورةٍ واضحةٍ لعقيدتِه الأدبيّة.

وفضلًا عن أنّ هذا الشخصَ الواحدَ هو أنا، وليس لى بالطبع أن أدّعى أننى بمنأىً عن التحيُّزات والتأثُّر بالآراء المسبّقة. إلا أنّ جدوى هذه الشهادة القصيرة تَكمنُ فى أن تُضَمَّ إلى غيرِها لترتسِمَ صورةٌ أوضحُ وأكملُ لأستاذنا الكبير.

اقرأ ايضًا | د. شحاتة الحو يكتب : الناقد فى أروقة الوظيفة