د.خالد عاشور يكتب :النّاقد المُبشِّر

د.صلاح فضل
د.صلاح فضل

عقب عودته من بعثته الدراسية بجامعة مدريد فى  مطلع السبعينيات كان الناقد الشاب د.صلاح فضل يستعد لتسلُّم راية النقد الأدبى  - مع نقاد آخرين من أبناء جيله - من جيل الوسط فى  النقد الأدبي؛ ذلك الجيل الذى  كان يمثله آنذاك عبد القادر القط وشكرى  عياد وعز الدين إسماعيل وعلى  الراعى  وغنيمى  هلال وغيرهم. وهو الجيل الذى  تسلَّم الراية من الجيل المُؤسس الذى  تتلمذ على يديه وأخذ عنه؛ جيل طه حسين وأحمد الشايب وأحمد ضيف وعباس العقاد وأمين الخولى  وغيرهم.

ولئن كان جيل الوسط الذى  تسلّم منه صلاح فضل راية النقد الأدبى  آثر إلى حد كبير  عدم الاصطدام بالثوابت؛ مُفضلًا السير فى  الدروب المطروقة التى  مهدها  الجيل المُؤسس، والاكتفاء بتعميقها وتأصيلها. ربما لأنهم كانوا حديثى  عهد بصدمات طه حسين المزعزعة للواقع الأدبى  والثقافى.


لئن كان كذلك فإن صلاح فضل الناقد لم يشأ أن يسير فى  الطريق ذاته؛ بل آثر أن يستعيد منهج طه حسين الصادم لكن على نحو آخر،وففى منتصف السبعينيات أخرج ناقدنا كتابه الأشهر «نظرية البنائية فى  النقد الأدبى» فى  توقيت مبكر جدًا لتقديم هذه النظرية النقدية للقارئ.

والذى لم يكن مهيأ لتقبل تلك النظرية الشائكة، وهذا المنهج النقدى  الغامض. وقد تَحمّل الدكتور صلاح فى  هذا الوقت المبكر مهمة النقل والتأصيل  للنظريات النقدية الجديدة فى  البيئة الثقافية العربية سابحًا ضد التيار ومُلقيًا اتهامات كثيرة بالتغريب والغموض وراء ظهره.


حدث هذا قبل انطلاق مجلة فصول التى  شارك فى  تأسيسها فى  مطلع الثمانينيات، وهى  التى  سارت فى  الطريق الذى  شقه صلاح فضل قبلها بسنوات.


ومثلما بشَّر فضل بالبنيوية بشَّر بالأسلوبية فى  وقت مبكر أيضا فى  نهاية السبعينيات فى  كتابه الشهير: «علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته». 


ولقد كان – وما زال - يُنظر لصلاح فضل فى  الأوساط الأدبية والثقافية على أنه مُنظِّر المناهج الشكلية ورائدها فى  مصر، وواحد من أهم أعلامها فى  الوطن العربى. أذكر أننى  وأثناء الإعداد لرسالة الماجستير فى  النقد الأدبى  الحديث عرَضَت لى مسألة تتصل بالناقد الفرنسى تزفيتان تودروف تلميذ رولان بارت؛ فسألت أستاذى  المشرف على الرسالة الدكتورعبد القادر القط - وهو من هو اتصالاً بالثقافة الغربية - فقال لى: اذهب إلى الدكتور صلاح فضل وناقشه فى  هذه المسألة.


«بلاغة الخطاب وعلم النص»، «نظرية البنائية»، «علم الأسلوب»، أساليب السرد»، «شفرات النص»، «إنتاج الدلالة»، «السيميولوجيا»...هذه المفردات التى  تُشكّل فى  مجموعها بعض الإنتاج النقدى  لناقدنا، كانت عند صدورها مفردات جديدة بل غريبة على النقد الأدبى وعلى النقاد وعالمهم، الذين ضاقوا بها ذرعًا، واعتبروها بدَعًا مستحدثة، قاوموها بشدة وقاوموا المُبشرين بها وعلى رأسهم د.صلاح فضل. 


وكان ناقدنا فى  ذلك الوقت المبكر يوجه الناقد الأدبى  إلى تحديث أدواته عبر الاطلاع على المنجز الحضارى  الجديد الذى  تقاطع فيه النقد الأدبى  مع العلوم الإنسانية الأخرى مثل علم النفس وعلم اللغة.

وإلا حكم على نفسه بالفناء. يقول: «أما الحداثة فهى  البنية الكلية لما تمخض عنه التطور الإنسانى  فى  عصرنا القريب، وهى  بهذا المفهوم لا تصبح بدعة نأخذ بها أو نترفع عنها.

ولا زينة نتحلى بها عندما نريد ونخلعها إذا مللناها، بل تُمثل قلب الحركة الحضارية، وقوتها المبدعة فإذا انفصلنا عنها حكمنا على أنفسنا بالتخلف والجمود». (صلاح فضل: تأملات فى  الحداثة – مجلة إبداع – مايو 1984). 


وتَدين عشرات بل مئات الرسائل العلمية فى  الجامعات الآن للجهد العلمى لصلاح فضل فى  نقل المناهج النقدية الحديثة خاصة ما يتعلق منها بالسرد والخطاب وسيميولوجيا النص، وهى  تلك المناهج.

والتى باتت تُدرس النصوص الإبداعية فى ضوئها بعد استقرارها فى  تربة الأدب العربى، على يد صلاح فضل ورفاقه، بعد أن ظلت النصوص تُدرس فى  ضوء ثنائيات الشكل والمضمون والصورة والواقع وحياته وشعره..الخ. 


ويقول ناقدنا: «لم يعد بوسع النقد المعاصر أن يتحدث عن المادة القصصية اعتمادًا على مضمون الخطاب السردى  وتوجهاته المذهبية، فقد انتهت سيادة الأيديولوجيا وشعاراتها القديمة. ولم تعد النوايا الطيبة هى التى تحدد مستويات الأعمال ودرجة أهميتها، فقد اتضح أن مستويات التوظيف ترتبط بالإنجازات التقنية والجمالية.

ودخلت علوم اللغة بصرفها ونحوها ودلالتها ومباحث الأسلوب بإشكالياتها المتعددة وأدواتها الإجرائية، ثم علم النص بما أسفر عنه من طرق تحليلية للأبنية الصغرى والكبرى وكيفية تراتبها؛ جاءت كل هذه العلوم لتصنع خرائط جديدة للحقول الإبداعية واستحدثت معها مصطلحاتها وآلياتها». (صلاح فضل: أساليب السرد فى  الرواية العربية ص 10).


وعندما اتُّهم صلاح فضل بأن نظرياته النقدية تلك التى  يريد لها أن تسود العملية النقدية عندنا، نظريات شكلية تقطع النصوص عن أنساقها الاجتماعية وسياقاتها الأخرى التى  خرجت منها؛ كانت كلمات حق يراد بها باطل.

وقد كشف ناقدنا زيفها عبر تأكيده أن «الأدبية كما يسئ فهمها البعض لا تصبح طريقة للتحلل من الوظيفة الاجتماعية للأدب، بل هى  أداته الأولى عبر اللغة والتقنية فى  التأثير والفعالية، مما يجعل النقد مشروعًا لتكوين علم الأدب، دون أن يفقد طموحه لاستيعاب ظواهر الفن المستقبلية». (صلاح فضل: شفرات النص ص 8) .


واتصالاً بهذه النقطة فإن الشعار الأشهر الذى  واكب عملية نقل المناهج الشكلية على يد فضل ورفاقه، وأعنى  به شعار «موت المؤلف» هو الذى  اتكأ عليه ناقدو صلاح فضل والناقمون عليه فى  مهاجمته ومهاجمة مشروعه النقدى، وقد أوضح الرجل أنه شعار أسئ فهمه: 
«كان شعار موت المؤلف الرمزى  فى  النقد البنيوى  إيذانًا بانتقال بؤرة الاهتمام من السياقات الاجتماعية والشخصية إلى النص الإبداعي. ولم يلتزم به أى  ناقد حصيف على الإطلاق، بل لم يكن بوسع الباحث فى  شبكة العلاقات النصية المنتجة للدلالة الأدبية أن يقطع الشرايين التى  تربطها بالبنية التواصلية الكلية إلا على سبيل الإجراء الوقائى  الموقوت.

وربثما تتم له المرحلة الداخلية فى  التحليل. وسواء عُنى  بعد ذلك صراحة بالإفصاح عن طريقة وصل هذه العلائق حتى تدب الحياة الدافقة فى  جسد النص أم ترك هذه الخطوة لذكاء القارئ، فقد كان إدراك السياقات المتضافرة دائمًا أمرًا ضروريًا للفهم والدخول فى  لعبة المعنى بأشكالها المختلفة». (صلاح فضل: تكوينات نقدية ص 7).


وعندما اتُّهم ناقدنا بأنه ناقد نظرى فقط، لا تقوى حاسته النقدية على مواجهة النصوص وتحليلها، وأنه مجرد ناقل للنظريات الغربية بفضل تمكنه من اللغات الأجنبية ليس إلا، جاءت دراساته التطبيقية شاهدة على موهبة لافتة فى  تذوق النصوص وتحليلها.

ويلفت النظر فى  نقد صلاح فضل التطبيقى أنه لم يطبق «المنهج» بصرامة وآلية وحرفية، مهما كان إغراء المنهج على حد تعبيره؛ إيمانًا منه بأن الممارسة النقدية ليست تجربة ذهنية رياضية تخضع لمقولات بديهية.

وأن الممارسة النقدية ينبغى  ألا يفقد معها الناقد ما سماه هو: «بهجة المصاحبة الحميمة للنصوص بمنطق الأدب ولغته الأثيرة». لذا جاءت نصوصه النقدية أعمالًا إبداعية موازية.


لقد كتب صلاح فضل يومًا: «كان الدكتور على الراعى  يحذر منذ عقود من مجاعة نقدية، وحوله من الكبار لويس عوض وعبد القادر القط ومحمود أمين العالم وعز الدين إسماعيل ورجاء النقاش وغيرهم..ترى ماذا بوسعنا أن نقول اليوم». 


وبعد أن مات صلاح فضل، ماذا بوسعنا نحن أن نقول اليوم؟

اقرأ ايضًا | صلاح فضل ومأمون وجيه ضمن تشكيل مؤتمر مجمع اللغة العربية بالشارقة