عادل ضرغام يكتب : حضور نقدى مستمر

صلاح فضل
صلاح فضل

إن حادثة واحدة مررت بها، وربما مرّ بها آخرون غيرى تكشف عن مدى الحضور أو الأثر الذى صنعه صلاح فضل على امتداد خمسين عاما فى سياقنا الأدبى والنقدى والأكاديمي، وتكشف أيضا عن عمق التأثير فى تشكيل الإطار الذى نتحرك فى حدوده، ففى عام 1995، وتحديدا فى العشرين من شهر مايو، أثناء مناقشة رسالة الماجستير (توظيف اللون فى شعر التفعيلة لدى شعراء الستينيات فى مصر) وقد تشكلت لجنة المناقشة من محمود الربيعى وعبدالحميد شيحة وصلاح رزق، ولم أكن قد اقتربت من الأخير وأدركت بهاء روحه، ولم يصبح أستاذى الأثير، ولم أصبح طالبه الأثير، وحين ختمت تقديمى للبحث شاكرا أعضاء لجنة المناقشة استبدلت اسم أستاذى صلاح رزق باسم صلاح فضل، وانتبه الجميع واعتذرت عن ذلك الخطأ.

وهذه الحادثة تشير إلى وجود بالقوة، حتى فى ظل فاعلية اتجاهات تقلل من قيمة المنجز، وحضور هذا المنجز، بالرغم من أن جانبا من هذا الحضور يظلّ مشدودا إلى رؤية باحث لم تكتمل أدواته، بشكل كاف.

ولا يستطيع أن يفرّق بشكل دقيق ونهائى بين التوجهات والأنماط السائدة، وأن يجليها على نحو راسخ. ولكن الحادثة تفتح الباب على منجزه الذى شكل له فرادة الوجود بالقوة، ذلك المنجز الذى كان يخايلنا فى تلك الفترة من خلال كتب مؤسسة فى جوانب واتجاهات بحثية جديدة علينا، مثل البنائية أو علم الأسلوب أو الخطاب التى تشكل حضورها من خلال كتبه المتوالية فى ذلك الإطار.


وهذا قد يشدنا إلى جانب مهم من جوانب صلاح فضل، وهى التمسك بالقدرة على صناعة الفضاء الخاص بالشخصية، هذا الفضاء ما كان له أن تتشكل بعض ملامحه إلا من خلال جهد خارق يظل مشدودا إلى سمتين أساسيتين.

وتتوالد بجوارهما سمات فرعية أخرى. تتشكل السمة الأولى فى حدود السبق ومراقبة الآخر المنافس، ومحاولة تحقيق ريادة ما من خلال معرفة الجديد والوعى بحدوده وأطره، ومحاولة نقله وتنميطه واستنباته داخل حدود الثقافة العربية بمعناها الواسع.


وقد ساعدت ظروف عديدة صلاح فضل أن يكون رائدا فى التعرف على مناح وتوجهات بحثية عديدة، بالرغم من مناوشات وادعاء السبق والإلمام والمعرفة لدى آخرين، سواء فى مصر والأقطار العربية الأخرى، وأن يكون الأول فى توجيه الآخرين إلى معاينة هذه الأطر الفكرية والمعرفية.

وإلى إعادة الاتصال بالآخر فى لحظة حضارية مغايرة عن لحظات الاتصال التى تمت فى أزمنة سابقة، فقد يستطيع المراقب أن يقارن بين لحظات الاتصال بالآخر وثقافته من عصر إلى عصر، منطلقا من قناعة خاصة تظل مشدودة إلى طبيعة هذا الآخر، واحتياجات الأنا واختلافها من فترة إلى أخرى.


وقد يبدو للمتأمل أن تكوين صلاح فضل يظل تكوينا نموذجيا للمثقف، فنشأته الأزهرية قبل أن يلتحق بدار العلوم التى أصلّت تكوينه التراثى كانت ذات فاعلية واضحة فى اعتداده وارتباطه بالتراث العربي، وتثمين قيمته على المستوى البحثى والأكاديمي.

وبالرغم من تعدد الثقافات التى فتح عينيه عليها وشكل ارتباطه بها سفره للدراسة بأسبانيا، وشكلت مساحة واسعة لإدراك مغاير للذات الفردية، ولمقاربة مغايرة للسياقات العربية بتعدد مناحيها. فقد مكنته هذه الثقافة التراثية والتكوين المشدود لمتون هذه الثقافة أن يظل حاضر الذهن مرتّبا فى تفكيره.

وبالإضافة إلى دور هذا التأسيس فى ابتعاده عن دعوات المحو أو الإهمال أو التدمير التى نراها أحيانا عند بعض أصحاب الثقافات الأخرى، تحت تأثير دعوات حداثية استجابة لروح العصر فى اعتماده الاستهلاكى والتوجه والذوبان فيما يشيده الآخر.


فهذه الثقافة –ربما لارتباطها بمرحلة النمو والإدراك- ظل لها دور فاعل فى إحداث نوع من الانسجام أو التعادل المريح بين ثقافة راسخة وثقافة وافدة، تجعل الأولى تتجلى بشكل مغاير، ويتمّ النظر إليها بشكل فيه جدة وانتباه.

وربما ساعده فى إحداث هذا الانسجام أو ذلك التعادل طبيعة الثقافتين وطبيعة اللحظتين اللتين يطل منهما على كليهما، فالأولى- الثقافة العربية- ذات جذر واحد وهوية واحدة، وهذا يتجاوب مع اللحظة التى تشربها فيها.

وهى لحظة مملوءة باليقين فى قوتها وهيمنتها، والأخرى –الثقافة الغربية- ذات جذور ومكونات عديدة لانفتاحها على مجمل الثقافات الأوربية، وذات هويات متعددة، وقد جاءت متجاوبة مع لحظة اكتمال التكوين القائم على الاختيار، مشدودة فى ذلك السياق إلى لحظة الثبات الأولى.

وإلى الثقافة الأصيلة التى لا يتبرم عليها أو يقلل منها، بل تحوّلت- والحال تلك- إلى الثابت الدائم الذى يختار ويطوّع ويغيّر فى طبيعة هذا الوافد، ولهذا ظلّ لصلاح فضل فى كل ماكتب وقدّم ونقل من معارف واتجاهات نقدية إلى الثقافة العربية وحتى فى أحاديثه المباشرة ذلك الوجه الرصين المصقول والمتزن.


إن نظرة إجمالية إلى منجزه، وخاصة أعماله النقدية والأدبية ربما تثبت مشروعية التوجه السابق الخاص بازدواجية التكوين، ووجود فاعلية وحضور للوجه الأول، باستثناء الأعمال المؤسسة التى لفتت الانتباه إلى قيمة ما يقدم.

ووضعت منجزه داخل حيز الريادة من خلال المسائلة والدرس الأدبى المستمرين، مثل (البنائية فى النقد الأدبي)، و(ومنهج الواقعية فى الإبداع الأدبي)، و(وعلم الأسلوب مبادئه وإجراءاته)، و(بلاغة الخطاب وعلم النص)، فهذه الأعمال- بعيدا عن طبيعتها وقيمتها فى لفت الانتباه إلى قيمة ما يطرحه من توجه- كانت مهمومة بتزويد الثقافة العربية بتوجهات ونظريات تحتاج إليها للتعديل والتحوير والتخصيب المستمر.

ففى كل كتاب من هذه الكتب هناك عالم جديد ورؤى جديدة على الثقافة العربية، يحاول أن يستكشف حدودوها، حتى لو كانت هذه الحدود تجلّت بشكل غير واضح تمام الوضوح، ومتداخلة إلى حد بعيد مع توجهات أخرى.

ولكنها- أى هذه الكتب- ظلت مهمة بوصفها حلقة اتصال ضرورية نبّهت الجميع إلى قيمة المداخل والتوجهات التى ترتادها، وتأتى بعد ذلك عمليات المراجعة والتوضيح والتجلية من خلال جهود باحثين آخرين.


تتجلى هيمنة التوجه الأول فى جزئيات لافتة، يتمثل أهمها فى عنايته بالتراث العربى فى إسبانيا، وذلك من خلال كتب تعتبر مؤثرة فى سياقها، مثل (ملحمة المغازى الموريسكية)، و(الرومانث الأسباني)، و(تأثير الثقافة العربية فى الكوميديا الإلهية لدانتي).

وبالإضافة إلى خياراته فيما يترجم، ليأتى كل ذلك كاشفا عن توجه خاص، يرتبط بالانتماء والاستناد إلى حائط قوى مشدود إلى ثقافة عربية ضد محاولات المحو والتهميش التى رأينا صداها واضحا لدى آخري.

ويتجاوب فى ظل هذا الانتماء محاولات التعديل والتحوير المستمرين لبنية هذه الثقافة حتى تصبح أكثر جاهزية لتقبل هذا الجديد المضاف، وحتى يصبح هذا المضاف جزءا من هذه الثقافة دون نتوء يهشّم مشروعية وجوده.


ولم يقف إسهام صلاح فضل- انطلاقا من الجزئية السابقة- عند حدود الإسهام فى نقل الجديد إلى الثقافة العربية، ولكن رافق ذلك أو تجاوب معه محاولات توطين وتجذير لهذا الجديد، حتى لو ظلّ هذا التوطين مشدودا لسياقه الزمنى أو للحظته الحضارية.

وذلك من خلال تطبيق إجراءات منهجية فى كتب عديدة، مثل البنيوية التى يظل صداها واضحا فى كثير من كتبه، ولكن يظلّ كتاباه (إبداع الدلالة)، و(شفرات النص) نموذجين لافتين ومهمين للدراسات العربية التى تنتهج المقاربة المحايثة للنص انطلاقا من تراكيبه وبنيته.

حيث يقدم هذان الكتابان مقاربة فارقة للنصوص من خلال تحديد وتشكيل ملامح الإجراء البنيوى انطلاقا من معطيات أو تجاوبات نصية دافقة الوجود، ولا تلحّ- مثل معظم الكتابات فى ذلك الإطار- بوصفها تطبيقات لإجراءات مسكونة بالثبات أو التيبس أو الإكراهات المعروفة فى ذلك السياق الذى يعتنى بالجاهز والنمطي.


إن هذين الكتابين يظلان فارقين فى منجزه التطبيقي، خاصة إذا تمت مقارنتهما بمنجزه التطبيقى فى العقدين المنصرمين فى قراءة الشعر أو الرواية، فنراه يلحّ فى هذه الكتب الأخيرة بوصفه ناقدا مؤسسا.

فذلك التأسيس الذى يصبح عدوا لكل اجتراح أو لكل مغامرة، حيث يطل فى إطارها الناقد مكتفيا بمنجزه السابق، وبما تمّ تأسيسه فى كتبه التى تجلى مشاريعه للقارئ، متحركا فى الدوائر المريحة والبسيطة بعيدا عن الاحتشاد وثيق الصلة بكل إضافة حقيقية.


ولكن الإنصاف يقتضى منا أن نتوقف لبعض الاتهامات الجائرة التى تخص صلاح فضل، خاصة تلك الجزئية التى يتهامس بها بعض الباحثين من المصريين وغير المصريين، وبعض أفراد جيله بشكل مباشر، حيث يشيرون إلى أن كتبه المؤسسة، وخاصة فى كتابيه (نظرية البنائية).

و(بلاغة الخطاب وعلم النص)، إلى غلبة الترجمة على التأليف، وإلى صعوبة الكتابين، وإلى توزّع اهتماماتهما إلى مناح عديدة، قد يكون بعضها حين يتجلى فى إطار الفهم الصحيح ضد ما أراد أن يؤسس له فى كتابه.


ويمكن فى سبيل ذلك أن نقارن بين لحظتين من لحظات الاتصال بالغرب، أو بالثقافة الغربية بشكل عام، وإلى طبيعة ولادة النظريات فى الغرب وهيمنتها من لحظة إلى لحظة، ومن فترة زمنية إلى أخرى. بوسعنا أن نتوقف عند لحظة الاتصال التى يمثلها طه حسين أو توفيق الحكيم، وننظر إلى طبيعة النظرية السائدة، ففى لحظة طه حسين واتصاله بالثقافة الغربية.

كان هناك نوع من الثبات، والنظريات الغربية تتوالد بالتعاقب بعد مدى زمنى كاف لاستيعابها، ولكن فى لحظة الاتصال الخاصة بصلاح فضل فلا يمكن للمراقب أن يتحدث عن ثبات النظرية أو المنهج، والنظريات لا تتوالد بالتعاقب الزمني، ولكنها تتوالد متجاورة سواء متجاوبة أو متدابرة متباينة فى آن.


فما يشعر به البعض من تداخل فى هذين الكتابين قد يفضى إلى التضاد أو التنافر وثيق الصلة بلحظته الحضارية، فلا يمكن أن نرى مشروعه واضحا وضوح مشروع طه حسين، فالطبيعى أن نراه على هذا النحو من التداخل.

فالنظريات الغربية لا يفصلها فى وجودها وتجليها ذلك المدى الزمنى القديم الذى يأتى فاعلا فى تجلية حدودها، ولكنها تتوالد متجاورة فى لهاث دائم ارتباطا بالتفريع والتقسيم داخل إطار واسع يشمل ويكيّف هذا التعدد.


 وربما يضاف إلى هذا التعدد فى النظريات سبب آخر يتمثل بشكل واضح فى أعماله وفى أعمال أفراد جيله من النقاد، حيث يطل ورفاقه مهمومين بجزئية السباق أو التنافس مما يولد حتما الصراع المكتوم.

ويمكن أن يكون لهذا السبب التأثير الكبير، فى إسدال سمات العمل الأول فى أى مجال من المجالات، وربما يكون كتاب (البنائية فى النقد الأدبي) نموذجا دالا على هذا المنحى، وإن حاول البعض خلخلة هذه الريادة، من خلال جعلها مرتبطة بالغذامى.

وكتابه (الخطيئة والتكفير)، أو من خلال تجسير الهوة الزمنية بين التفات بعضهم المتأخر إلى هذا المجال ومعرفتهم إياه دون إسهام لحظى من خلال ترجمة بعض الكتب المؤسسة أو شبه المؤسسة فى هذا المجال.

ولكن إنكار الريادة التى عمل عليها صلاح فضل فى كثير من كتبه، أو التقليل من قيمة دوره فى توجيه اهتمام الكثيرين نحو قيمة مجال ما فى إطاره الزمنى ليس له ما يبرره.


وإن الجيل الذى ينتمى إليه صلاح فضل ورفاقه من النقاد المصريين جيل متطلع للتأثير على المستوى الثقافى أو الأكاديمي، وعلى المستوى الاجتماعى أو السياسي، ومتطلع- أيضا- إلى استمرار هذا التأثير والفاعلية فى مناح عديدة.

ويؤدى هذا التطلع إلى الفاعلية والتأثير واستمرارهما إلى نتائج عديدة، منها ما هو سلبي، ومنها ما هو إيجابي. وسوف أشير إلى نتيجة واحدة من النتائج السلبية لهذا التطلع المستمر الخاص بأفراد هذا الجيل.


تتمثل هذه النتيجة فى التنافس أو الصراع بين أفراد هذا الجيل، وقد أدى ذلك إلى بروز دورهم فى إعطاء جوائز لمن لا يستحقون، وترتيب الحاصلين عليها إثباتا للقيمة والحضور والفاعلية، وإلى تغييب كثير من المبدعين المستحقين لهذه الجوائز.

وكأن فى ذلك الدور الذى لا يخلو من وجود وإحلال قيم سلبية بالتدريج محل القيم المثالية التى يجب أن يتمثلها ويختزنها ويحافظ على وجودها المثقف استمرارا للنفوذ، وإكمالا لمنجز كتابى نقدى ضخم، يحتاج إلى هذا الفضاء الخاص من الترتيب والتنظيم والشللية لكى يتحقق لها الوجود المستمرّ.

ولم يتوقف التنافس بين أفراد هذا الجيل من النقاد عند حدود تصنيف وترتيب مستحقى الجوائز من المبدعين، بل ظل موجودا فيما بينهم، فقد ظلّ رائد من هؤلاء الرواد دائم الشكوى من غياب جائزة محددة عنه، بسبب علاقات واحد من أفراد جيله بالجهة المانحة.


أما النتائج الإيجابية لهذا التطلع والفاعلية فهى كثيرة، وذات تأثير ثقافى لافت، ما لم ترتبط بإبعاد وتهميش المميزين والفائقين، وتصدير الصغار حاملى الحقائب والخانعين، أولى هذه النتائج تتمثل فى العمل المستمر ومراقبة منجز الآخر، سواء كان ينتمى إلى الجيل نفسه، أو إلى أجيال لاحقة، فكل أفراد هذا الجيل لديهم هذا الميل نحو معاينة ما ينجزه المنافسون من الزملاء أو أفراد الأجيال اللاحقة.

ولأنهم يعاينون مساحات التقاطع ومساحات الاختلاف من جانب، ومن جانب آخر يفحصون الحضور الخاص والإيجابى لمنجزهم، ويعاينون تحولات هذا المنجز فى لحظة مغايرة بين الثبات والإضافة والتحول والتعديل.


وتعتبر هذه السمة أكثر السمات أهمية فى منجز هؤلاء الرواد، لأنها جعلتهم يتمتعون باستمرارية لافتة، حتى فى ظل سيادة توجهات ومنطلقات منهجية ونظرية جديدة فى الكتابة الإبداعية والنقدية، ولكن متانة التكوين الخاصة بهم جعلتهم قادرين على الاستمرار فى العمل والإنجاز.

وقد أدت هذه السمة العامة للجيل دورها فى استمرار منجز صلاح فضل، فلم يتوقف لحظة واحدة عن القراءة والكتابة، بالإضافة إلى أن تكوينه الذاتى تكوين خاص لا يقنع بالسكون، وإنما يظلّ مهموما بالإضافة أو الإسهام فى النشاط الثقافى بشكل يجعله أقرب إلى المثقف الفاعل الواعى بسياقه الحضارى فى تجلياته المختلفة، ومن ثم أصبح ذا تأثير واضح فى سياقه العام.

اقرأ ايضًا | صلاح فضل: تدهور الأغنية أفقد الناس غذاءهم الشعري