نزار السيسي يكتب: القراءة

نزار السيسي
نزار السيسي

..القراءة متعة قبل كلّ شيء، والمتعة معرفة، والمعرفة لا تنتهي، وكلّما اتَّسعت المعرفة اتَّسع العالم.. أنتظر من القارئ، حينما ينتهي من قراءة كتاب، ألّا ينام ولا يأكل، بل يتأمَّل، يفكِّر بما قرأه، ويعيش بعضًا منه في خياله، لكي يبقى النصّ حيًّا، ولعل من أهم شروط القراءة أن يفهم القارئ ما يقرأ ، إن مجرد القراءة دون إدراك للفكرة والإحاطة بها ، أو أن يفهمها نسبيًا وبشكل مشوّش وغامض.. هي في الحقيقة مضيعة للوقت .والحل أن يتجاوز القارئ هذه الأفكار لتعذر فهمها أو أن يعاود قراءتها غير مرة لعله أن يفهمها ، ثم تدوينها فيما بعد

الكتب العظيمة تكون كالسِحر، تُشعِر القارئ أنه في جوع مدقع فيلتمس من أفكارها لونًا من الغذاء يستحسّ بعده الشبع والامتلاء .تلك الكتب التي تبثّ فيه روحًا جديدة ، وتنفض غبار الأوهام ، وتنساب معاني الحرية من ثناياها.

فليس المهم هو أن نقرأ، بل الأكثر أهمية وأثرًا هو «لمن نقرأ وماذا نقرأ؟»، فنوعية الكتب التي نلازمها مددًا طويلة تشكّلُنا بمضامينها ومناهجها، فالتفاهة والسطحية والمعانى الصغرى والمسالك المِعوجّة تنتقل من النصوص لقرائها إذا عطّلوا ملكاتهم النقدية، أو فقدوا نموذجًا أرقى يقيسون عليه.

وعلى العكس؛ فإن المعانى الكبرى والمسالك الرشيدة والعمق في النظر، والتمحور حول القيم العليا ميراث تورثه لنا الكتب الجيدة التي كتبها كتّاب متميزون، إذ تمنحنا رؤيةً قويمةً، وموازين عادلةً،  ومناظير نقدية تؤتي كل ذي حقٍ حقّه، ما له وما عليه.‏‎والأهم هو أن نتشرب احسن ما قرأنا و نتبناه فكريًا، ثم نُفَعِّله في حياتنا ليظهر اثره الايجابي علينا، فرسولنا الكريم لم يقرأ القرآن فقط مع أنه انزل عليه بل كان قرآنا يمشي، و كذلك نهج الصحابة، كانوا لا ينتقلون إلى آية حتى يطبقوا التي قبلها.

واعلم ياعزيزي... أن من الناس من كتاباته في البديهة أبدع منه في الرويَّة، ومن هو مُجيد في رويَّته وليست له بديهة، وقلما يتساويان. ومنهم من إذا خاطب أبدع، وإذا كاتب قصَّر، ومنهم من بضد ذلك.ومن قوي نظمُه ضَعُف نثره، ومن ‌قوي ‌نثره ضَعُف نظمه، وقلما يتساويان.

فإذا ظفرنا بالكتب التي نقرأها وأفضت بنا إلى تغيير حسنٍ روحيًا وسلوكيًا، فلنتشبّث بها أقصى ما نستطيع، فإن الإنسان «كائن عامل»، وهذا هو الغرض الأكمل من القراءة والمعرفة، أن ترسخ صفة العاملية فينا، العاملية النافعة، ومن ثَمّ تجعلنا نولد من جديد كل مرةٍ ننتهي فيها من  قراءة كتاب، أما الكتب والقراءة التي لا تفضي بالإنسان إلى تغيير داخلي، والقراءة التي لا تستحيل عملًا، فإن الحياة أقصر - وأكثر فُرَصًا - من قضاء الوقت فيما يبقينا كما نحن، فكيف إذا كانت الكتب والقراءة يفضيان إلى تغيير سلبي وعامل غير صالح، وكم تفاجأ أناس ظنوا أن الوقت طويل، وأن الفرصة متسعة وفجأة أنطوت السنوات واكتشفوا ضيق الوقت، وأن كثيرًا من الثقافة والمعرفة والكتب لا تستحق فناء الوقت القليل المتبقي، وبالكاد يستثمر ما تبقى بما يضمن نفعه، ومن اكتشف هذا مطلع حياته قبل أن تنطوي سنوات شبابه واستثمر قوته ووقته بالكتب النافعة التي وراؤها عمل وتغيير، فقد فاز فوزًا عظيما.