«الذكاء الاصطـناعى» يهدد عرش الُفنان الملهم!.. تفاصيل

صورة موضوعية
صورة موضوعية

كتب: رشيد غمري

قبل عدة أشهر، فازت لوحة بعنوان «مسرح أوبرا الفضاء» للفنان «جيسون ألون» بجائزة متحف «كولورادو»، ثم اعترف الفنان بأنها من صنع برنامج  للذكاء الاصطناعى، وهى المرة الأولى التى يفوز فيها عمل فنى من إبداع الآلة على فنانين من البشر. كما بيعت مؤخرا لوحة بعنوان «بورتريه إدموند دى بيلامى» فى صالة «كريستيز» بنيويورك، بـ432 ألف دولار، وكانت قد رُسمت عام 2018، بتقنيات الذكاء الاصطناعى أيضا، ليتضاعف سعرها أربعين مرة فى زمن قياسى. وفى العام نفسه، نفذ المصمم روبى بارات عرض أزياء كاملا من تصميم برنامج آلى.

عروض أزياء تصممها الآلة ..وبرامج لتزييف الصور بدقة

التطور الدائم للتقنيات يثير المخاوف، ويهدد عرش الفنان الملهم، ويوشك أن يطيح بالكثير من مفاهيمنا حول معنى الفن، وقيمة الجمال، وما سيتبقى للإنسان من أدوار فى الحياة، بعد أن تأهلت الآلة حتى لوظائف الخيال.

استغرقت البشرية مئات الآلاف من السنين لتدخل عصر الصناعة، حيث حلت الآلة محل اليد البشرية. ومنذ اختراع الحواسيب، دخلنا حقبة المعلومات، حيث صار بإمكان الأجهزة القيام ببعض وظائف الدماغ، لتختزن، وتسترجع المعلومات، وتحللها سريعًا، وبكفاءة تفوق العقل البشرى. وخلال عقود قليلة، نشأ عصر اقتصاد المعرفة، حيث فاق دخل بعض «التطبيقات» ميزانية العديد من الدول، وأصبح أغنى أثرياء العالم هم مطورو تلك البرامج.

وهذه المرة أتت الطفرة أسرع، بتدشين عصر الذكاء الاصطناعى، فلأول مرة، أصبح بمقدور الآلة أن تتوقع المشكلات المستقبلية، وأن تضع لها الحلول، ما أهّلها فى مجال الفنون لأن تبدع لوحات تشكيلية أصلية لم تُرسم من قبل، وأن تقوم بالتصميم الفنى بكفاءة عالية.

«تطبيق» يفوز على الفنانين فى مسابقة لمتحف كولورادو

موت الفن
يتنافس على الساحة الآن عدد من التطبيقات فى مجال الإبداع البصرى، أشهرها «ميد جيرنى» الذى فاز بجائزة متحف «كلورادو» الأخيرة على الفنانين من البشر، وبرامج مثل «دالى2»، و«دريم»، وغيرهما، ما دفع أحد النقاد للقول بأننا نعيش اللحظة التى نشاهد فيها الفن يموت أمام أعيننا. وتعتمد البرامج المشار إليها على تحويل الكلمات إلى صور، حيث يتم تغذيتها بعبارة مثل امرأة تداعب كلبا بين السحب، واختيار الأسلوب الانطباعى أو السيريالى من قائمة الأساليب، ليتولى البرنامج رسم اللوحة خلال 20 ثانية. وبعدها يمكن إضافة مزيد من الكلمات للتعديل، كما يمكن ضبط الضوء، وتغيير الألوان. والبرامج تعتمد بالطبع على ما تم تغذيته بها من مئات الآلاف من اللوحات التى رسمها أعظم الفنانين فى كل العصور.

لوحات آلية تنافس المبدعين فى صالات الفن

ورغم أن المحاولات الأولى والبسيطة لجعل الآلة ترسم، ترجع إلى السبعينيات، فإنه منذ عام 2015 بدأ إنتاج أعمال فنية بالتقنيات المتطورة للذكاء الاصطناعى. أحد البرامح بلغ من التعقيد أنه يضم داخله برنامجين متضادين، يقوم أحدهما بتعلم رسم صور الوجوه من مخزون ضخم من اللوحات لديه، ويقوم الآخر بتعلم النقد من خلال إبداء رأيه فى عمل الأول، وما إذا كانت الصورة جميلة أم لا، وفق مخزونه أيضا من الآراء النقدية السابقة. وهكذا يعمل الذكاءان معا فى برنامج واحد.

النتائج المبهرة التى ظهرت على أرض الواقع، جعلت بعض الفنانين يستخدمون الذكاء الاصطناعى لوضع تصوراتهم الأولية لأعمالهم، معتبرين ذلك مصدرا للإلهام، قبل بدء تنفيذها. فهل سيصبح أهم ما ميز الفنان عبر العصور، وهو الإلهام متاحا للجميع؟!

اقرأ أيضًا

باحث مصري بالجامعة الوطنية الاسترالية: هناك اتجاه عالمي لتعليم الأطفال الذكاء الاصطناعي

برامج تحول الكلمات إلى صور

 

الإنسانية على المحك  

القفزة الكبيرة التى حققتها برامج الذكاء الاصطناعى خلال السنوات الخمس الأخيرة، جعلت الآلة تنافس الفنانين فعليا، فبخلاف اللوحة الفائزة فى مسابقة «كلورادو»، أوشك برنامج «دالى2» أن يفوز على مصمم الجرافيك المحترف تيم مكماهون، حيث تأرجح رأى اللجنة بين عمليهما. لكن هل ستحسم الآلة تفوقها مع البرامج الجديدة التى طورتها إحدى شركات «إيلون ماسك»، بالتعاون مع شركة تابعة لجوجل؟ وهى برامج غير متاحة للاستخدام العام حتى الآن، ويتوقع أن تحدث ثورة جديدة فى المجالات الفنية، وفى مجال صنع، وتزييف الصور والفيديوهات.

وأخطر ما فيها أنها ستدخل البشرية فى حالة جديدة من عدم اليقين، حيث من المتوقع أن تختفى الأدلة على بصمة الآلة، بحيث لن يكون بوسعنا التفريق بين فيديو حقيقى، وآخر مفبرك، أو بين لوحة مرسومة بيد فنان وأخرى آلية.

البحث عن المعنى
إذا كان هذا هو الحال على مستوى إنتاج الفنون آليا، فكيف يمكن رؤية الأمر من وجهة نظر التلقى الجمالى؟ اعتادت البشرية على تذوق الفن بوصفه إبداعات لأشخاص ملهمين، يمتلكون خيالا فائقا، ومهارات خاصة، جعلتهم مؤهلين لمخاطبة حواسنا، والانفتاح بنا على مناطق شعورية وجمالية غامضة، وتأويلات فكرية متعددة المستويات. فكيف يكون الحال، ونحن ننظر لعمل، نعرف أنه من صنع آلة مجردة من الغايات الروحية، والأبعاد النفسية؟ وهل يتغير الوضع إذا كنا لا نعرف ما إذا كان العمل لإنسان أم لآلة؟

الفن أحد أهم طرق البشرية للبحث عن المعنى. ويبدو من أنجحها، لأنه غير قطعى، وهو ما يتوافق مع الطبيعة العميقة للمعنى. وتبدو الروح الإنسانية المبدعة، وكأنها تواصلت دائما بطريقتها، مع المعنى السائل، ودائم التشكل للوجود. وهو ما لا يمكن تصوره حتى الآن بالنسبة للآلة. فهو أمر تنفرد به الروح الإنسانية، حتى لو جرى تغذية الآلة بخبرات ضخمة من إبداعات الفنانين، وطرق إبداعهم.

الذائقة البشرية
يرد البعض بأن مفهوم التلقى، تطور مع عصر الحداثة، وما بعدها، بحيث انفصل المعنى عن نية الفنان، وأصبح بمقدورنا الاستمتاع حتى بأعمال فنية عفوية من صنع الطبيعة. لكن حالة التلقى تضع فى اعتبارها دائما مجموعة من المحددات، من بينها ظروف إنتاج العمل وسياقه. فنحن نستجيب جماليا لعمل الطبيعة، منبهرين بمنطق الصدفة، وبالقوانين الفيزيائية، والعمليات التى أنتجت العمل، وبقدرة الفوضى على أن تظهر لنا اتساقا بديعا.

وعندما يحاكى فنان منطق الطبيعة، فنحن ننبهر بقدرته كإنسان على تطويع قوانينها، واستخراج النسق من فوضاها. وعندما نتلقى عمل فنان فطرى لا يمتلك المهارات الأكاديمية، فإننا نتلقاه جماليا بمنطق يختلف عن تلقينا لعمل ينتمى إلى عصر النهضة. وفى الوقت نفسه ترفض الذائقة المدربة أعمال فنان معاصر يرسم بأسلوب عصر النهضة نفسه مهما بلغت براعته، لأننا نضع فى اعتبارنا سياق الإبداع وعصره، وما وراءه من عوامل شخصية، وبيئية ومعرفية.

وعلى هذا الأساس، فنحن نتقبل الأعمال الأولى لفنانين صاروا فيما بعد مرموقين، رغم ما فيها من هفوات، على اعتبار أنها مرحلة ضمن تطورهم، ولا نتقبل أعمالا أكثر اكتمالا من ناحية الشكل، إذا كان الفنان مجرد مقلد يحاكى أسلوب فنان آخر، لأن عمله يفتقر للأصالة. وهو ما يثبت أننا فى كل الأحوال، لا نتلقى العمل جماليا بمعزل عن مبدعه، وظروف إنتاجه.

بالتالى، فإذا كنا الآن ننبهر بقدرة الآلة على رسم عمل مبتكر، مستعينة بتراث الإنسانية من الرسوم، فإلى أى مدى يمكن لهذا الانبهار أن يدوم؟ لقد انطلقت البشرية من مدرسة فنية لأخرى، لأنها شعرت بالملل من الفنان البارع الذى كان يحاكى الطبيعة، ثم بالملل من ثورة التأثيرية فى التعامل مع الضوء، ثم من عمق التعبيرية، ومشاعريتها، ومن عبقرية تحليل الأشكال فى التكعيبية، ومن الإطاحة بالواقع فى السيريالية. وهكذا أثبتت الإنسانية أنها سريعة الملل من الجمال، ودائمة البحث عن جديد يثير حواسها. فهل ستكون الآلة قادرة على تلبية احتياجات الذائقة الإنسانية الملولة؟

أسئلة مفتوحة
يرى مناصرو الآلة أنها ستواصل تفوقها، وقدرتها على ابتكار الأساليب، حتى أنها ستستقل عن مخزونها من أعمال البشر. ووقتها قد يصبح البحث عن عمل بشرى أشبه بالبحث عن قطعة فخار بدائية، ترك صانعها بصمات يده على طينها.

ولا شك أن المجال مفتوح أمام الآلة، لتواصل تفوقها فى بعض النواحى. فلدى الآلة الكثير مما تدهشنا به من مؤثرات لم تكن متاحة من قبل. وسيكون أمامها الفرصة لتبهرنا بعوالم افتراضية مبتكرة ثلاثية الأبعاد، تتيح مع الصورة، والصوت، واللمس، والروائح، الاستجابة لتفاعلنا. ما يعنى أنها ستجعلنا طرفا فى عملية الإبداع نفسها.

وستختلف تجربة التلقى كل مرة مع العمل نفسه، وفق طريقة تفاعلنا. سيكون بإمكانها أن تجعلنا داخل لوحات افتراضية وليس أمامها، وأن نشعر بأرجلنا، وهى تدهس العشب، وأن نشم رائحة المطر، ونختار أى الطرق نسلك داخل الغابة. ولكن ماذا عن المعنى، ومن الذى يصيغه فى الحقيقة؟ هل هى الآلة، أم الإنسان المبرمج؟ وماذا سيكون الوضع مع آلات تعلم نفسها بنفسها، وتطور إمكانياتها ذاتيا؟ وهل سينتهى عصر المبدع المخلص لفنه؟