..هناك مقولة شائعة ارتبطت بالحالة الاقتصادية الدولية من حيث قوة هذه الحالة أو ضعفها " إذا عطست أمريكا أصيب العالم بالزكام " بمعنى آخر أن حالة الاقتصاد الأمريكى فى صعوده أو هبوطه يؤثر بشكل مباشر على الحالة الاقتصادية الدولية وتصل آثار هذا الضعف أو القوة إلى كل بيت فى العالم.
لكن هل تنطبق نفس المقولة على السياسة الأمريكية؟ أى أن السياسات والصراعات التى تشتعل فى الداخل الأمريكى تمتد آثارها فى كل أرجاء العالم ويصبح المجتمع الدولى بؤرة من التوتر بسبب حالة الصراع الأمريكى الداخلى، لاشك أن مانراه من اضطراب دولى يصل إلى حد التهديد باندلاع حرب عالمية يشير إلى أن هذا الداخل الأمريكى المتصارع مع نفسه وراء كل مايحدث.
قبل أسابيع قليلة بدأت نبرة التصعيد تتراجع فى العديد من الصراعات التى تشارك فيها الولايات المتحدة بشكل مباشر وغير مباشر، أغلقت العديد من ملفات التوتر وفتحت ملفات الحوار، حالات العداء بين قوى إقليمية تتحول تدريجيًا إلى نوع من التوافق، قوى العولمة المسيطرة على السلطة فى البيت الأبيض والتى تعادى مفهوم الدولة الوطنية بأى صيغة تقف عند حدها وهناك من يسيطر على أفكارها المجنونة التى كانت تحاول فرضها على العالم بقوة السلاح، حالة الدمج التى ترعاها نفس القوى المعولمة مع الجماعة الإخوانية الفاشية محاولة خلق الإخوانى المزيف المتخفى وراء دعايات حقوق الإنسان تتوارى أمام الحسابات الواقعية للمصالح ، الرئيس الأمريكى جو بايدن السائر وراء المعولمين بلا نقاش وعلى رأسهم نائبته كامالا هاريس وأستاذها باراك أوباما نجده فى تحركاته الدولية الأخيرة يتبع بوصلة الواقعية السياسية بعيدًا عن الأفكار الجنونية للمعولمين، الشرق الأوسط الذى كان المسرح الرئيسى لهذا الجنون المعولم ومن قبله النزوات الترامبية نرى فيه الآن سياسات أمريكية واضحة بأنها لن تتخلى عن دورها فيه وتقدم احترام ملموس للقوى الإقليمية الكبرى فيه دون سخافات المعولمين بعد أن كشرت هذه القوى الإقليمية عن أنيابها وأعلنت منذرة أنها لن تتحمل الجنون الأمريكى القادم من البيت الأبيض مرة أخرى، يمكن تلخيص التحول الذى حدث فى السياسات الأمريكية مؤخرًا فى ثلاثة مشاهد، الأول الزيارة التى قام بها بايدن إلى شرم الشيخ لحضور قمة المناخ ولقائه بالرئيس السيسى حيث كان اللقاء يشير بوضوح إلى عودة واشنطن إلى الواقعية السياسية واعترافها بحجم وتأثير الدولة المصرية على مصالحها فى الشرق الأوسط بل والعالم، لقد جرى لقاء شرم الشيخ دون دعايات وسخافات المعولمين وتحالفاتهم الفاشلة مع الفاشية الإخوانية.
أما المشهد الثانى فكان لقاء القمة الذى جمع الرئيس الأمريكى جو بايدن والرئيس الصينى تشى بينج على هامش قمة العشرين والاعتراف الكامل من الطرفين خاصة الأمريكى بواقعية المصالح بعيدًا عن الأفكار الجنونية للمعولمين فى التعامل مع الصين الصاعدة بقوة على المسرح الدولى بنفوذها السياسى والاقتصادى والعسكرى.
يتعلق المشهد الثالث بالصاروخ الذى سقط على الحدود الأوكرانية البولندية وخرج رئيس وزراء بولندا ومن قبله زيلينسكى مشعلين وسائل الإعلام بأن روسيا قصفت بولندا عضو الناتو بالصواريخ مما يعنى دخول الناتو والولايات المتحدة فى حرب مباشرة مع روسيا لكن البيت الأبيض هو مانفى مسئولية روسياعن هذه الصواريخ بل أوضح أنـــها بقايا صواريخ الدفاع الجوى الأوكرانى.
غير البيت الأبيض فالمؤسسة العسكرية الأمنية الأمريكية طوال الأسابيع الماضية بدأت تعلن بوضح أن التفاوض هو الحل الأمثل للأزمة الروسية الأوكرانية ولم يعد الرئيس الأوكرانى زلينسيكى الفتى المدلل عند واشنطن ولتأكيد ذلك تم تسريب تفاصيل محادثة دارت بينه وبين الرئيس الأمريكى نهره فيها الرئيس الأمريكى وأعاده لحجمه الحقيقى فى أنه مجرد أداة فى صراع تديره واشنطن حتى الألاعيب الإعلامية البهلوانية التى كان زيلينسكى يطارد بها العالم فى كل ساعة خفتت ولم تعد واشنطن ترغب فيها ولا فى صاحبها بعد التحولات التى جرت فى سياساتها.
تبقى ملاحظة بالنسبة للمشاهد السابقة فالدول الثلاث مصر والصين وروسيا التى غيرت واشنطن سياستها تجاهها بناء على حقيقة الوقائع والمصالح هى دول مركزيتها الرئيسية مفهوم الدولة الوطنية وهى الدول التى تمتلك المخزون الحضارى الأكبر فى العالم والأكثر تأثيرًا فى محيطها الإقليمى والدولى وفى نفس الوقت فقوى العولمة والمعولمين أعداء مفهوم الدولة الوطنية على مدار عامين كانوا يشنون حربهم الدعائية السخيفة ضد الدول الثلاث مستخدمين أدواتهم البالية والمعتادة حول مزاعم الديمقراطية وحقوق الإنسان من خلال أتباعهم سواء فى الفاشية الإخوانية أو اليسار المعولم لكن أبواق العولمة الدعائية توارت بعيدًا مع التحولات الأمريكية.
هذه التحولات فى السياسة الخارجية الأمريكية لم تأت فجأة بل سبقتها ترتيبات داخل البيت الأمريكى الذى كان على وشك الانفجار وصولا لنقطة اللاعودة وهى نشوب حرب أهلية أمريكية جديدة، لقد كانت كل المؤشرات تقول إن نتائج انتخابات التجديد النصفى للمجالس التشريعية الأمريكية وحكام الولايات التى جرت قبل أيام ستكون الشرارة التى تشعل الوضع الداخلى الأمريكى فالقوتان المتنافستان ليس الحزب الجمهورى والديمقراطى بل التيارين الرأسمالى المحافظ والمعولم لن يقبلا نتائج هذه الانتخابات لأن كلا منهما يريد السيطرة الكاملة على مقدرات الدولة الأمريكية، لكن نتائج الانتخابات خرجت شبه متعادلة دون تدمير لأى من التيارين على أرض الواقع والأهم أن كل من شارك فى هذه الانتخابات تقبل النتائج فى هدوء دون أى اعتراض وسادت حالة من الهدوء بين كافة أطراف الصراع ووسط هذا الهدوء بدأ الحديث عن الرئيس الأمريكى الجديد الذى يتوافق عليه الجميع أو حاكم فلوريدا الجمهورى رون دى سانتيس.
بالتأكيد التفاصيل الدقيقة لما جرى من اتفاقات بين النخب الأمريكية حتى تصل الحالة السياسية والاجتماعية فى الولايات المتحدة لهذا الهدوء ستتكشف بمرور الوقت وستظهر الإجابات على أسئلة من نوعية، أين دارت هذه اللقاءات ؟ ماحجم الدور الذى لعبه عراب السياسة الأمريكية هنرى كسينجر فى حدوث هذا التوافق ؟ ماهو الثمن الفادح الذى سيدفعه دونالد ترامب لعدم انسحابه من الحياة السياسية الأمريكية ؟ماذا ستفعل نائبة الرئيس الأمريكى كامالا هاريس راعية المعولمين بعد أن طلب منها الذهاب وراء الظلال بآرائها الغريبة ؟ من حمل رسائل الطمأنينة إلى روسيا والصين حول تحولات السياسات الأمريكية الجديدة ؟ كيف أدركت واعترفت هذه النخب بحجم وأهمية الدور والدولة المصرية كنقطة ارتكاز للاستقرار الإقليمى والدولى بعيدًا عن سخافات المعولمين ودعايتهم المسمومة ؟ من الشخصية التى أدركت فى واشنطن أن حالة العداء التى يغذيها تيار العولمة باستخدام الفاشية الإخوانية تجاه الدولة المصرية ستؤدى إلى كارثة شرق أوسطية أول من سيدفع ثمنها الولايات المتحدة؟
ستتوالى الإجابات قريبًا ولكن أثر هذا التوافق الأمريكى / الأمريكى تظهر نتائجه بوضوح الآن فى الحركة الأمريكية على مستوى المجتمع الدولى وأزماته وفى الداخل الأمريكى أيضًا ولكن يجب أولا الذهاب الى مفهوم النخبة الذى حقق هذا التوافق، فعكس مايتصور الكثيرون أن النخبة تعنى الشهرة أوأشخاص تسلط عليهم الأضواء الإعلامية ليل نهار إلا أن الحقيقة أن النخب خاصة الأمريكية التى تمتلك النفوذ والقدرة على تغيير القرار الأمريكى قد لا نرى أسماءها فى أى وسائل إعلامية رغم ماتملكه من نفوذ وثروة أما قوائم الأغنى والأكثر تأثيرًا فهى فقط من أجل الاستهلاك الإعلامى.
عندما تتحرك النخبة الأمريكية المؤثرة فذلك لأنها استشعرت خطرًا حقيقيًا على الوجود الأمريكى ذاته بسبب سياسات مجنونة من تيار العولمة وحشد التيار اليمينى الأمريكى القومى المتطرف لقواه من أجل التصدى للمعولمين مما يعنى أن الجميع سيستدعى السلاح لتقرير مصير أمريكا.
كان هناك حدثان داخليان جعلا هذه النخبة تتحرك أولهما اقتحام مبنى الكونجرس فى 6 يناير 2021 من قبل أنصار ترامب أو اليمين الأمريكى وكانت الكارثة الأكبر اكتشاف أن نسبة كبيرة من المقتحمين لهم انتماء بشكل أو بآخر للمؤسسة العسكرية الأمريكية أما الحدث الثانى فهو التقرير الذى رفعته الأجهزة الأمنية الأمريكية بكل فروعها الداخلية والخارجية وهو أمر لم يحدث من قبل إلى الرئيس الأمريكى والسلطة التشريعية بأن كل المعلومات التى تمتلكها تشير أن الولايات المتحدة مقبلة على صدام داخلى قد يصل إلى حرب أهلية وعقب هذا التقرير خرج الرئيس الأمريكى فى كلمة للأمة أعلن فيها أن أمريكا تواجه تهديدًا حقيقيًا من داخلها سيؤثر على وجودها.
لم يكن الخارج بعيدًا عن هذا التحرك النخبوى الأمريكى فسنوات ترامب الأربع وعامين من حكم المعولمين بإدارة بايدن حولت السياسات الأمريكية الخارجية إلى نوع من ألعاب السيرك السياسى ولم يعد العالم يعرف ماذا تريد أمريكا ومن هو صديقها أو عدوها ؟ والأكثر خطورة أن هذه السنوات الست أدخلت أمريكا فى أزمات دولية تكاد تشعل حربًا عالمية ثالثة مع كل من روسيا والصين غير أن منطقة الارتكاز الأمريكى فى الشرق الأوسط تنتهى لصالح منافسيها وبسبب العداء مع القوى الإقليمية المؤثرة والحقيقة أن أغلب القرارات الأمريكية الخارجية فى سنوات ترامب والمعولمين كانت إما غريبة أو مجنونة وغير مفهومة الأهداف بالنسبة للمصالح الأمريكية ولأصدقاء الولايات المتحدة أو حتى أعدائها.
هناك دائمًا خلاف مع تطبيقات سياسات الولايات المتحدة الخارجية خاصة فى منطقتنا لكن الكارثة الأكبر أن تكون قوة بحجم الولايات المتحدة تمتلك كل هذه الإمكانيات بلا سياسات أو تطلق العنان لمجانين السياسة فيتحكمون فى قرارها ، لكن يبدو أن النخبة الأمريكية استدركت الأمر سريعًا قبل الكارثة خاصة مع توافق هذه النخب حول الرجل القادم إلى البيت الأبيض فى يناير. 2025