هالة فؤاد تكتب: حصــــار

هالة فؤاد
هالة فؤاد

وحيدة عشت يتيمة الأم ، تركتنى ومازلت على أعتاب الشباب، أذكر تفاصيل ذلك اليوم الحزين، تفاصيله الموجعة محفورة فى روحى، لم تبارحنى آلامها رغم مرور السنين، ندوب مؤلمة تزداد حدتها مع الزمن لتكذِّب من قالوا إن الحزن يولد كبيرا ثم يتضاءل شيئا فشيئا حتى يصبح مجرد ذكرى تمر عابرة لا تترك فينا نفس قدر الآلام التى داهمتنا وقت الرحيل.

مازال حزنى على أمى يسكننى بنفس القدر من الوجع والألم،  كانت هى جنتى وملاذى، أختبئ فى حضنها الدافئ فتملؤنى السكينة والراحة وأتبرأ من كل الأحزان، كانت منبعا للحنان الذى يفيض من كل كلمة تقولها وكل لمسة وكل نظرة وكل طبطبة تهوِّن أى وجع وتفتح آفاقا للأمل وتبث القدرة على تجاوز أى أزمة مهما بدت فى عيونى عصية على الحل.  
«طول ما أنا على قيد الحياة لاتحملى للدنيا هما»، تأتى كلماتها الأثيرة لتقوينى وتشد من أزرى وتمدنى بقوة عجيبة تجعلنى أكثر ثقة وثباتا وتحديا للصعاب.

لم يكن حنانها هو أكثر ما يميزها، لكنها تلك القوة التى تسم شخصيتها دون ادعاء، قوة تنطق بها مواقفها الثابتة بهدوء وبلا تكلف أو رغبة فى  إثبات تفوقها على غيرها أو ممارسة ضغوط من خلالها، قوة أقرب للنعومة منها للصلابة، نجحت من خلالها فى  تحقيق أحلامى البسيطة رغم معاندة أبى عصبى المزاج المتشبث برأيه، المتسلط دوما، العنيد الرافض لأى حوار أو مناقشة أو اعتراض لأىٍ من قراراته المسلطة دوما على كل حياتنا دون هوادة.  

لم يكن يهوِّن من قسوة أبى وتسلطه سوى قلب أمى الطيب وقوتها الناعمة لإدارة أمور حياتنا بشكل يرضينا ويقبله أبى، كانت تمارس دوما دور الوساطة الذكية لتقريب وجهات نظرنا، وتهوين كل مشاكلنا التى يضخمها أبى بعناده المعروف.  

وبقدر ما كان وجودها فى حياتنا داعما وعظيما، بقدر ما كان فقدها موجعا ومؤلما وباعثا للضعف والإحساس بالوحدة وقلة الحيلة، ورغم أنها تركتنى زوجة وأما لى حياتى وبيتى وأولادى إلا أن رحيلها ترك آثاره الحزينة بقوة، كانت وحدها من تهوِّن علىّ كل ما أعانيه من مشاكل. ليس فقط بسبب تعنت أبى وقسوته ولكن من تعنت وقسوة وجبروت حماتى.

يبدو أن هناك شيئا ما فى شخصيتى يجذب أولئك المتسلطين الراغبين فى التحكم فى الآخرين الفارضين آراءهم بقوة، المتلذذين فى  تحويل غيرهم لدمى فى أيديهم تتحرك وفق إرادتهم وكما يشاءون. 

حاولت أمى، قدر ما تستطيع بحكمتها وعقلها، مساعدتى للتعامل مع حياتى الجديدة بكل تفاصيلها الغريبة، نجحت أحيانا فى  عبور أزمات ومشاكل وفشلت كثيرا، وكانت قدرتى وطاقتى أضعف كثيرا من قوة وجبروت وسيطرة حماتى، وكان لضعف شخصية زوجى العامل الأكبر الذى يحول دون الحد من سيطرة أمه وتدخلها فى  كل شئون وتفاصيل حياتنا.
بعد رحيل أمى توهمت أن معاملة أبى ستتغير وأنه سيكون أكثر إحساسا بى وتعاطفا مع مشاكلى، فالأب دوما سند وعون لابنته، لكننى للأسف لم أشعر بأنه سند أو عون لى لا فى  حياة أمى ولا بعد رحيلها.  

لم يزعجنى كثيرا موقف أبى، ربما كنت أتوقعه ولم أتوهم بتغير حاله حتى بعدما ذقت مرارة فقد الأم، كنت أدرك أننى يتيمة الأم والأب رغم أن الأخير مازال على قيد الحياة.  
ولم يكتفِ أبى بكل مرارات الوجع والحزن والوحدة التى أعيشها، بل زادها بقراره العجيب الزواج من حماتى الأرملة المتسلطة، لا أعرف لماذا اختارها هى بالذات دون أخريات، ربما يفقنها جمالا ويصغرنها سنا، أشعر أن ما يحرك أبى سوى رغبة فى إحكام مزيد من الحصار الخانق علىّ، ويزداد خنقى بمشاعر مضاعفة من أب متسلط وحماة متجبرة.  

لم أسئ الظن بهما، بعدما تحولت حياتى بعد زواج أبى إلى جحيم، ديكتاتورية وتسلط حماتى صارت مضاعفة يدعمها أبى المؤيد دوما لرأيها بعدما كان لا يتدخل فى شئوننا ولم يساندنى يوما فى أى مشكلة، صار العكس وإن صب فى النهاية تدخله فى غير صالحى.  

عام مر على زواجه الثانى ذقت فيه الأمرين، بينما يقف زوجى بسلبيته المعهودة يبرر كل مواقف والدته ويتقبلها برضا محاولا التهوين منها وإقناعى بها، صحيح أنه لا يدخر وسعا لإرضائى وتطييب خاطرى، لكنه فى النهاية يضيِّع بسلبيته وضعفه حقوقى وكرامتى المجروحة بسبب مواقف أمه وكلماتها الجارحة التى  تصل أحيانا حد التطاول والإهانة.  

أشعر بالتوهة وبالضياع وبقلة الحيلة بعدما فقدت الثقة فى نفسى بفعل حصار محكم لا أرى منه سبيلا للخلاص والفرار.
لصاحبة هذه الكلمات أقول:
ليس هناك حصار يمكن لأحد أن يفرضه على حياتنا دون أن نكون قد ساهمنا دون أن ندرى فى  إقامته وتثبيته، أعرف أن لقسوة الأب وتسلطه آثارها السلبية فى  نفوس الأبناء، من المؤكد أنها هزت ثقتك فى  نفسك رغم كل محاولات أمك دعمك ومساندتك، وربما ارتكنت أنتِ دون أن تدرى لهذا الدعم فأصابكِ قدر ما من الاتكالية واعتمدتِ على والدتك فى  حل كل مشاكلك،  تكرر نفس الشيء بعد زواجك وصارت علاقتك مع حماتك بنفس الطريقة التى كانت عليها حياتك مع والدك، الاستسلام الكامل والخضوع للسيطرة والتحكم دون محاولة النقاش وإبداء الرأى، وبعد رحيل الأم وزواج الأب بالحماة صارت بالطبع الأزمة أشد والواقع أمر والحصار كما وصفتِه أكثر خناقا ووجعا، لم يستطع الزوج بسلبيته تخفيفه فزادت حدة آلامك، لكن دعينى أصارحك أن طباع الأب والحماة المتسلطة وسلبية زوجك ليست وحدها السبب فيما وصلتِ إليه، لأن هناك قدرا من المسئولية يقع عليك، لأنك ببساطة تعاملتِ بسلبية مع كل مشاكلك، آثرتِ عدم مواجهتها وتعودتِ على أن هناك آخر دوما يقوم بتلك المهمة، عليك أن تعتمدى الآن على نفسك، تضعى النقاط على الحروف، تواجهى مشاكلك بقوة وذكاء وحكمة من المؤكد أنك حملتِ جيناتها من أمك أو اكتسبتِها من مواقف مرت ورأيتِ كيف كانت تدير فيها الأمور،  ابحثى عن نقاط قوتك وادعميها لا تفقدى ثقتك فى نفسك، فأنتِ تملكين الكثير، وافعلى نفس الشيء مع زوجكِ، لتستعيدا زمام أمور حياتكما، الأمر يبدو أمامكِ صعبا الآن لكن فيما بعد ستدركين أنه ليس مستحيلا، ومادمنا على قيد الحياة فيجب علينا ألا نكف عن المعافرة لتصبح حياتنا أهدأ وأجمل قدر ما نستطيع.