محمد زين يكتب: سرقة

صوره أرشيفية
صوره أرشيفية

بعد عشرين سنة أنا الذي سرقتها..تسللت إلى حجرة المدرسين بعد الحصة الخامسة مباشرة.. أعرف أين يحتفظ بأشيائه.. أعلى الرف الثالث على يسار الباب.. في ثوان سحبتها ورميتها من الشباك.. سقطت في الممر الخلفي بين البناية والسور حيث مقاعد مكسرة وصناديق مهملة..لم يرنى أحد.. عدت إلى الفصل.. كانت لا تزال تبكي وتحضن كفيها.. مرت ساعتان ودموعها لم تجف..

كان قاسيا عليها.. كنت أحبه قبل ساعتين.. الآن أنا أبغضه..غدا سأشعر بالزهو.. على الأقل بينى وبينى..بعد انتهاء اليوم الدراسى تسللت إليها.. أخفيتها فى ملابسى.. عدت إلى البيت.. تواريت عن الناس.. شممتها لأطول وقت.. حيث رائحة أصابعها.. احتفظت بالرائحة فى أنفى.. سحبتها كمدخن متمرس إلى رئتى ولم أخرجها..عند الغروب وضعتها فى كيس نايلون ولففتها بورق سيلوفان ودفنتها فى مكان لا يعرفه سواى..تلك الليلة لم أعرف النوم.. فى الصباح لم أرتد الزى المدرسى.. أردت أن أكون مختلفا كما اليوم سيكون أيضاً مختلفاً.. عاقبنى المشرف بالضرب ومر الطابور بطيئا.


بدأت الحصة.. مرت دقائق خمس ولم يحضر.. هذا أمر نادر الحصول.. دائما يأتى فى موعده.. تسربت قطرات الزهو إلى روحى.. عند منتصف الحصة وصل.. وجهه حزين.. ذلك الحزن الذى يشيعه الموت.


جلس على مقعده.. خلع نظارته.. وضع أشياءه أمامه.. كلها موجودة إلا غنيمتى.. دفاتره.. أقلامه.. طباشيره.. جريدته..مرت دقائق.. جاهد لكى يخرج صوته كعادته واثقا متزنا لكنه فشل..قال إنه ورثها عن أبيه الذى ورثها عن جده.. قال إن عمرها أكثر من تسعين سنة.. قال إنه يعتنى بها كأحد أولاده.. قال كلاما كثيرا لم نفهم منه شيئاً وخرج ولم يعد مرة أخرى.. عرفنا أنه استقال. لم أشعر نحوه بأى شفقة.. بالعكس شعرت بالانتصار.


كنت كلما أحسست بالرائحة تزول من أنفى.. أخرجها من مكانها لتبيت فى حضنى ليلة كاملة قبل أن أعيدها فى الصباح.. الآن مرت عشرون سنة.. أعمل مدرسا فى نفس المدرسة.. آخذها معى كل يوم.. لا أحد يذكر القصة.. لم أستعملها.. فقط أحملها مع دفاترى وأقلامى وطباشيرى وجريدتى.. كابتسامة تمنح الروح لصورة قديمة.الأمس فقط اضطرتنى لاستعمالها.. حذرتها مرة واثنين وثلاثاً ولم تنته.
كنت قاسيا عليها
احتضنت كفيها وبكت
أكملت الحصة دون ضجيج وذهبت..
فى طريقى إلى المنزل تذكرت نظرة الولد الجالس فى آخر الصف.. نظرت فى ساعتى.. جريت إلى حجرة المدرسين.. كانت الحصة الخامسة قد انتهت.. وكان الولد هناك.

اقرأ أيضا | آنى إرنو: «السترات الصفراء» عائلتي وشبابي