آنى إرنو: «السترات الصفراء» عائلتي وشبابي

آنى إرنو
آنى إرنو

منذ ما يقرب من عقد، عندما نشرت آنى إرنو عملها «السنون»،استخدم النقاد فى مراجعاتهم الباريسة أوصافًا مثل «وقح» و«غير لائق». تقول إرنو إن هذه النعوت لم توصم فحسب الكتب التى تناولت حياتها الجنسية، مثل «عاطفة بسيطة»، الذى يتناول علاقتها برجل متزوج، وأكسبها لقب «Madame Ovary» فى مجلة فرنسية، بل استخدمت أيضًا لوصف يومياتها «لم أخرج من ليلي»، حين كانت والدتها فى المراحل الأخيرة من مرض الألزهايمر.

عبر الهاتف، من منزلها فى سيرجى بباريس، صرحت بأن «هذه الأوصاف هى المهيمنة عندما يتحدث الناس عن كتبى»، وأضافت: «سيرى الناس الفُحش فى كل أعمالى»، ثم توقفت لحظة وأكملت: «فى الواقع إنها أوصاف تستهدف النساء فقط».


كان الوقت حليفًا لإرنو. الآن، قلة فى عالم الأدب الفرنسى هم من ينتقدون أعمالها، كما يُنظر الآن إلى العديد من أعمالها - يبلغ جملة ما أنتجته منذ عام 1974 وحتى الآن، 22 كتابًا - على أنها كلاسيكيات، وقد ترجمت إلى 36 لغة، أحدثها «ذاكرة فتاة».


مؤخرًا، وصفت لى ناشرة فرنسية صديقة «آنى إرنو» بالتى «لا يمكن المساس بها»، وبالـ»الأسطورة الحية»، بعد أن كانت توصف بالتى «اعتادت أن تكون محتقرة»، و»المعلمة الصغيرة من المقاطعة»، و«المرأة التى تكتب عن نفسها». الآن، هى مثل «مارجريت دوراس» تمامًا، إن كتبت قائمة البقالة الخاصة بها، فسيجدها الجميع رائعة».


«إنها مهارة اكتسبتها بطول حياتي، من خلال العمل بإصرار على عملية استدعاء الذكريات وتمديدها نحو منطقة جديدة». تقول إرنو إن «الضرورة، وليس المتعة» هو ما يعيدها إلى ماضيها،  لتشريحه مثل خبير الطب الشرعى يفحص مسرح الجريمة». 


يلقى كل كتاب ضوءًا جديدًا على الأحداث الشخصية الصادمة فى بعض الأحيان، مثل الإجهاض الذى مرت به وهي23 عامًا ، وتتحدث عنه فى (الحدث)، و(الخزانات الخاوية)، وكذلك وفاة والديها، أو أول لقاء جنسى كارثى لها فى (ذاكرة فتاة).


تقدم إرنو  طوال الوقت صورة ساحرة لفرنسا ما بعد الحرب، وقت اضطرابات الشباب والنساء على وجه الخصوص. غالبًا ما تعود إلى طفولتها، وتمد يدها إلى الحلوى بالبقالة العائلية فى بلدة نورماندي، تتحدث عن شعورها بالعار لأنها أدركت أنها صارت تنتمى إلى الطبقة «المهيمنة»، ثم عن وصولها إلى الجامعة، وهى خطوة تقول إنها جعلتها منشقَّة ومتمردة، وعن تجربتها كامرأة فى فترة الصحوة النسوية.


‏تعتبر «الخزانات الفارغة»(1974)، أول كتاب لإرنو، نموذجًا «للرواية الذاتية» قبل أن يصوغ الكاتب الفرنسى سيرج دوبروفسكى المصطلح عام 1977 لوصف روايات السيرة الذاتية، إذ كان يمثل اجترار شابة لذكرياتها حول نشأتها فى الطبقة العاملة ثم خضوعها لعملية إجهاض غير قانونية.


بعد سنوات، قررت إرنو التخلى عن الخيال، وكذلك عن الاستعارات وغيرها من الزخارف فى كتابها (المكان)، الذى تناولت فيه قصة والدها، وحصل على جائزة Renaudot، أرقى جائزة فرنسية بعد جونكور. كان ذلك نقطة تحول فى مسيرة إرنو التى دافعت عن أسلوبها الجديد باعتباره نهجًا «سياسيًا» يتبنى الكتابة المسطحة التى تفتقر إلى العاطفة والحركة، لتبقى موضوعية قدر الإمكان فى تصوير جذورها من الطبقة العاملة، لكن بالنسبة لبعض النقاد الباريسيين المؤثرين، كانت هذه بدعة أدبية وقد وصفوها بأنها «بائسة» و«شعبوية».


تقول إرنو إن «كونكِ امرأة يعنى أن الهجمات كانت أكثر ضراوة»، وتضيف: «فى فرنسا، الأدب هو عالم الرجل. جميع الجوائز ، كل شىء يتحكم فيه الرجال. الآن يقول الناس إننى أمتلك شرعيتى ككاتبة، لكن كان على الانتظار حتى أتجاوز الخمسين». وتضيف: «لا أهتم قط بتلك الشرعية، ولا أشعر  بها، وفى الوقت نفسه أنا مثابرة؛ فالنساء يحتجن إلى مزيد من القوة للكتابة».


خفت حدة النقد مع «السنون»، وهى قصة سيرة ذاتية امتدت 60 عامًا تمزج بين التفاصيل الشخصية والحقائق التاريخية والملاحظات الاجتماعية. «السيرة الذاتية الاجتماعية» هى الطريقة التى تصف بها «إيزابيل شاربنتييه»، أستاذة علم الاجتماع فى جامعة «أميان»، الكتاب الذى نُشر باللغة الإنجليزية فى عام 2018 ، وحصل على العديد من الجوائز، وترشح لجائزة مان بوكر الدولية العام الماضى.


إنتاجها الأدبى الممتد عبر أكثر من 60 عامًا، واعترافاتها الصادمة فى سيرتها الذاتيةجعل من إرنو نموذجًا يحتذى به جيل جديد من المؤلفين. ينجذب البعض، بمن فيهم إدوارد لويس، إلى أسلوبها المتقشف وحساسيتها لمفهوم الطبقة، وهو الموضوع الذى عاد إلى الواجهة مع احتجاجات السترات الصفراء.


إرنو التى تقول إنها من الناحية السياسية تقف على أقصى  اليسار، أكثر من وقوفها فى الجانب الأيمن»، انحازت إلى جانب «السترات الصفراء» ضد الرئيس إيمانويل ماكرون. «تمثل لى السترات الصفراء عائلتى وشبابي. ما يهم هو العالم الذى نشأت فيه. وقد اكتشفت أن الأمور لم تتغير».


تقول الروائية ماتيلد فورجيت إنها تحتفظ بكومة من كتب إرنو أمامها عندما تكتب. «إنها رائدة، وتحظى بالاحترام، وتُظهِر أن هناك مكانًا للكاتبات اللاتى يستخدمن قصصهن الشخصية، فعندما تكتب امرأة عن تجربتها، يُنظر إليها على أنها أقل صلة بالعالم. ثمة رفض للاعتراف بأن التجارب الشخصية يمكن أن تنتج معرفة عالمية،إرنو تحارب هذه الفكرة» . أرسلت ماتيلد فورجيت روايتها الأولى إلى إرنو، وكانت منتشية لتلقى ردّ طيب منها. واكتشفت لاحقًا أن إرنو تقرأ  كل ما تتلقاه.


تقول إرنو، التى تحتفظ بمسافة بعيدًا عن المشهد الأدبى الباريسي، ورفضت الجلوس فى لجنة تحكيم الجونكور: «هذه كتب أحتاج حقًا إلى كتابتها. أنا أعانى حين أكتب، وخاصة حين يكون النص طويلًا جدًا، مثل «السنون». لدى فكرة مسيطرة، وهى لا تنم عن عجرفة: أنا فقط من تستطيع كتابة هذا». تأثرت بـ سارتر، الذى قرأت له قبل كتاب «الجنس الثانى» لـسيمون دو بوفوار، وهنا كان كشف آخر؛ هو كيف أنظر إلى حياتى كامرأة؟ كنت أقف أمام سيمون وكتابتها الجريئة الرائعة غير المهادِنة. لقد فهمت أن العالم من صنع الرجال، ومن أجلهم».


فى «ذاكرة فتاة»، كشفت إرنو عن التداعيات المدمرة للقاء جنسى وحشى لفتاة كانتها عام 1958، تتحدث عن حالة ذهولها وفقدان كرامتها، ثم محاولة الحفاظ على توازنها النفسي. كانت الحادثة بمثابة حافز انبثق من داخلها ودفعها إلى التحول إلى «كائن أدبي» لمراقبة النفس، والقول لنفسها بأنه «يمكن استخدام كل شىء».


تقول إرنو: «الكتابة لا تأتى بسهولة. يبدو الأمر كما لو أننى لم أكتب أى كتاب من قبل». بالنسبة إلى «ذاكرة فتاة»، لم تكن الكلمات هى ما يصعب العثور عليه، ولكن كانت الصعوبة فى طريقة العودة إلى الماضى لإعادة بنائه».


هذا صراع أدبى تشاركه مع القراء: «أنا لا أحاول أن أتذكر، أحاول أن أكون داخل هذه الزاوية فى مسكن الفتاة»، لقد كتبت فى هذا العمل «إننى أبحث عن حقيقة، حقيقة لم تعد ظاهرة، يجب أن أكتشفها»،إلى جانب حقيقة أن والدتها دمرت مذكراتها، كان التحدى يتمثل فى أن تَصَوُّر إرنو صدمتها النفسية وما تغير إلى درجة دفنه ونسيانه تقريبًا.


«هل ما أحسست به كان شيئًا ينتمى إلى حقبة ماضية؟ هل الفتاة التى تمارس الجنس مع فتى، فى أول ليلة تعارف بينهما، تعتبر عاهرة؟ اليوم هى ليست كذلك، لكن فى عام 1958، يمكننى أن أخبرك أن ذلك ما كان يُطلَق عليها، بغض النظر عن كيفية حدوث ذلك، وبغض النظر أيضًا عن وجود منطقة رمادية فى المجتمع كانت توافق وتسمح بذلك».


تعتبر المادة الخام لإرنو هى الماضي، لكن هذا لا يعنى أنها ليست متاحة أيضًا فى الوقت الحاضر؛ فقد كان الإغلاق التى تسبب به فيروس كورونا، فترة وجدت «إرنو» أنها «رائعة للعيش فيها»، على الرغم من عدد الوفيات. لقد اتخذت موقفًا ضد ماكرون من خلال إدانتها لسياساته فى خطاب مفتوح.

 

وفى هذا الصدد تقول: «إذا استمرت الحياة خلال الوباء، فهذا بفضل أولئك الذين اعتقد ماكرون أنهم لا شىء». وتضيف أن «ماكرون لن يفهم أبدًا مغبة عدم المساواة الاجتماعية، لأن النسيان سمة متأصلة فى الطبقة الحاكمة».


تابعت إرنو بشغف شديد هاشتاج #MeToo، لكنها أشارت إلى أن الإنجازات التى ما زال يتعين على النساء الفوز بها «أقل وضوحًا» مما كانت عليه خلال فترة شبابها، عندما كان الأمر يتعلق بالحق فى التصويت، أو الإجهاض (الذى تم تقنينه بعد حوالى عقد من تعرضها لتلك التجربة)، أو الالتحاق بأعلى كليات الهندسة فى فرنسا. 


تقول: «الأمر لم ينته. الهيمنة الذكورية لا زالت طاغية، والخُطى التى نتخذها بطيئة جدا».ولا تكشف إرنو عما إذا كانت الموضوعات الحالية، والطافية على السطح، ستلهم كتابتها القادمة أم لا. إنها قدرية بشأن كتاباتها، لذا فهى تفضل عدم التلميح بأى شىء.

اقرأ أيضا | بعد فوزها بجائزة نوبل l آنى إرنو: أكتب عن العنف الاجتماعي