«الأمراض النفسية بإفريقيا»..هل يموت سكان القارة السمراء من الحزن؟ | تقرير

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

لم تنعم القارة السمراء بالاستقرار أبدا، قدر لإفريقيا أن تعيش بين الحروب الأهلية والأزمات الداخلية، أن تنتشر بها الأوبئة القاتلة ويسقط الملايين من أبنائها بين قتلى ومصابين في صراعات، أن تنتشر بها المجاعات..الخ.


ومع ازدياد الأزمات التي عصفت بالكثير من أساسيات الحياة، أصبح من يستيقظ يجد طعامه وأمنه هو الناجي بحق، دون الاكتراث لما هو أهم وأعمق، وهي الصحة النفسية التي لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية.


الكثير من الأبحاث والدراسات أكدت أن قدرة الإنسان على تجاوز أزمات حياته والتعافي منها يتطلب الاستعانة بالدعم النفسي، فالألم النفسي قاتل يحتضن صاحبه وقد يدفع به نحو الهاوية، فتنتهي حياته وهو حي، وأما عن الأسباب فجميعها تجتمع في إفريقيا.


خلال تقرير من 3 حلقات، سلطت صحيفة لوموند الفرنسية، الضوء على غياب الدعم الفرنسي في القارة السمراء بل وصل الأمر إلى اعتباره أحد التابوهات "المحظورات" التي لا يتجرأ أحد نحو الاقتراب منها.

اقرأ أيضا: لسوء التغذية..اليونيسف تحذر من وفيات غير مسبوقة بين الأطفال بالصومال


بدأت الصحيفة الفرنسية تقرريها بطرح سؤال، "هل يمكن لمواطن إفريقي أن يموت من الحزن؟"، ففي 2014 كتب المؤلف الساخر الكيني تيد مالاندا، بأن الرجل يشنق نفسه لأن زوجته تركته، أو أنه عاطل عن العمل أو لأنه قبض عليه، أما أن تقتل نفسك لأنك مصاب بالاكتئاب فهو أمر لا يؤمن به في إفريقيا، فالأمراض النفسية يعتقد الأفارقة أنها لا تصيب سوى الأغنياء والطبقات الوسطى وذوي البشرة البيضاء الذي يستطيعون تحمل ترف طلب الاستشارات النفسية.


جاءت كلمات الكاتب الكيني في مقال ساخر كتبه بعد فترة وجيزة من انتحار الممثل الأمريكي روبن ويليامز، والذي أثار موته حالة من الدهشة تلخصت في سؤال واحد "كيف لرجل أضحك الملايين أن تكون نهايته بهذا القدر من الألم؟"، وهل يمكن لهذا الأمر أن يحدث في إفريقيا وأن يثير حالة من الاهتمام حول دراسة أسبابه؟، الإجابة بنسبة كبيرة لا فالاكتئاب والاضطرابات العقلية يساء فهمها هناك بل يوصم صاحبها حتى من قبل أسرته، ولا يجد دعم أو تعاطف من أحد حتى من قبل الدول ووسائل إعلامها.


وعن العاصمة الكينية نيروبي، كتب مالاندا بأنها ليست الأقل ثراءً في إفريقيا، وبالرغم من ذلك في 2020 كان لدى سكانها البالغ عددهم 53 مليون نسمة حوالي 8000 متخصص فقط يعمل في مجال الصحة النفسية، أما عن مالي التي يبلغ عدد سكانها بالكاد نصف هذا العدد، فبها 46 متخصص فقط، بالنسبة لإفريقيا بأكملها، يمارس طبيب نفسي واحد عمله في المتوسط مع حوالي ، 500 ألف نسمة، وهو رقم أقل 100 مرة من التوصيات الدولية لمنظمة الصحة العالمية.


قد تكون الاحتياجات اليومية ضخمة، لكن الاضطرابات النفسية تظل العائق تجاه تحقيق سياسات الصحة العامة حيث وصفت بالآباء الفقراء للصحة العامة للمواطن الإفريقي، وكما يؤكد عالم الأنثروبولوجيا الكاميروني بارفيت أكانا أن تجوال المرضى في المدن الكبرى في القارة هو "أمر ثابت في التحضر الأفريقي"، حيث أكد قائلا "منذ طفولتي، أرى الناس عراة في الشارع، أراهم يأكلون من صناديق القمامة، يتغوطون في وسط الطريق، يتدحرجون في الوحل، يتجاذبون في الأماكن العامة، يهاجمون المواطنين. أسمع أيضًا قصصًا عن حالات اغتصاب جنونية وجرائم قتل جنونية لأغراض طقسية. هؤلاء المرضى هم فقط موضوع اهتمام حقيقي خلال الأحداث الكبرى".


وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تخصص الدول الأفريقية في المتوسط 0.46 دولار للفرد لرعايتها "أقل بكثير من 2 دولار للفرد الموصى به للبلدان منخفضة الدخل".. هذا النقص في الاستثمار، المرتبط بالعديد من الأزمات التي تمر عبر القارة، دفع أفريقيا إلى تسجيل أعلى معدل للوفيات بالانتحار في العالم، كما أوضحت منظمة الصحة العالمية في بيان صحفي في 6 أكتوبر، داعية "لإنهاء الانتحار ووضع حد للأزمات الصحية المرتبطة بالاضطرابات العقلية في أفريقيا".


من جهتها قالت فلورنس بينجانا، المستشارة الإقليمية للصحة العقلية والإدمان في منظمة الصحة العالمية، بأن تلك الظروف تؤثر بشكل خاص على الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 70 عامًا، إن "هذه ليست سوى غيض من فيض"، داعية إلى زيادة ميزانية تمويل برامج الوقاية. 


وحتى وإن وجدت الإمكانيات المالية، فإنه يظل الجزء الأكبر من الموارد واهتمام المانحين مركّزًا على الأمراض المعدية الفتاكة للغاية، مثل الملاريا، والإيدز، والسل، والحصبة، والإيبولا، أو مؤخرًا كوفيد -19، وتخصيص الباقي للبرامج المخصصة لمكافحة الإدمان على المخدرات، فالقليل من الشركاء الدوليين لديهم أموال مخصصة للاضطرابات النفسية في إفريقيا.

 

وأمام تلك التحديات، في السنوات الأخيرة ، وضعت العديد من البلدان الأفريقية الأمراض العقلية على جدول أعمالها السياسي، ففي عام 2021، تم التصويت على خطط عمل مدتها خمس سنوات في كينيا وأوغندا ، بينما تعمل غانا وزيمبابوي مع منظمة الصحة العالمية لتطوير عروض الرعاية الصحية الخاصة بهما. 


ووفقا للصحيفة الفرنسية، لم يكن هذا هو الحال دائما في إفريقيا لطالما كانت السنغال دولة رائدة في غرب إفريقيا تحت قيادة الطبيب النفسي الفرنسي هنري كولومب وزميله السنغالي موسى ديوب - مؤسس مجلة علم الأمراض النفسية الأفريقي والذي صنع مركز ومستشفى جامعة فان في داكار، كما ظهر توماس لامبو، أول طبيب نفسي في نيجيريا، أرادت "مدرسة داكار" الانتباه إلى البيئة الاجتماعية والثقافية للمرضى والانفتاح على الأدوية التقليدية، امتد الفكر نفسه في الستينيات والسبعينيات، إلى البلدان الأخرى الناطقة بالفرنسية مثل بوركينا فاسو أو كوت ديفوار.


تم اتخاذ نقطة تحول في عام 2019 لتدريب "العاملين في مراكز الصحة الأولية على التعرف على الأمراض مثل الفصام أو الاكتئاب أو الاضطرابات ثنائية القطب، كما تم إطلاق برنامج توعية وتدريب "للفاعلين المجتمعيين" ، ولا سيما من الجمعيات.


لفتت صحيفة لوموند إلى أن العديد من دول غرب إفريقيا، لا تزال إدارة المرضى عقليًا تعتمد إلى حد كبير على الجمعيات المرتبطة بالكنائس، وبالتالي فإن الكنائس الخمسينية المهيمنة في مدغشقر والتي تنظم "معسكرات صلاة"، تقوم على سبيل المثال بربط "ممن فقدوا عقلهم" بالسلاسل ، الظاهرة التي لا تزال موجودة على نطاق واسع في خليج غينيا.