سمير الجمل يكتب: ابن الباشوات .. الاشتراكى

سمير الجمل
سمير الجمل

بقلم: سمير الجمل

هكذا كان الفن يحارب لأجل البلد، قبل أن يتحول بعد ذلك إلى سلاح يحارب به البعض تقاليد وأعراف وأصول البلد، قال إيه شعبى.. وقال إيه مهرجانات.. وقال إيه «نمبر زيرو».. يادى الخيبة.!

أعلن الجيش البريطانى وقت احتلاله لمصر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عن بيع مليون فردة حذاء بعشرين جنيها فقط لا غير، لأنها كلها كانت «شمال» فقط..! ولم يتقدم إلى هذه الصفقة سوى رجل أعمال مصرى مغامر يعرف كيف يحول التراب إلى ذهب.. فقد رأى بحسه التجارى أن الجلد المصنوع منه نصف الحذاء الشمال من النوع المفتخر.. وبعد أن دفع واستلم بدأ يتحرى عن حكاية هذه البضاعة، وعرف أن المصانع التى أنتجت تلك الأحذية وضعت «الفرد الشمال» على مركب و«اليمين» على أخرى، قيل إنها غرقت فى البحر وهى قادمة إلى الموانئ المصرية.. ولم يبلع رجل البزنس الشاطر هذا الخبر، وواصل تحرياته فى المواقع التى يتواجد بها الجيش الإنجليزى، حتى سمع أن هناك صفقة لبيع مليون فردة «يمين» فى فلسطين بمبلغ مائة جنيه ولا تجد من يشتريها.. وكأنها تناديه وتلاغيه، فأسرع إليها وراح يتفاوض فى الثمن دون أن يخبرهم بأنه يمتلك الشمال، ونجح فى تخفيض ٤٠ جنيها من القيمة، وعاد بها لكى يجتمع الشمل بين الفردتين، وكسب رجل الأعمال الآلاف منها بصنعة لطافة.. والحكاية رواها الكاتب الكبير مصطفى أمين عام ١٩٦٠ فى الاحتفال رقم ١٦ لتأسيس «أخبار اليوم» وذلك اعترافاً بدعم رجل الأعمال محمد شتا، نجم الصفقة للمؤسسة الصحفية بمبلغ ٥٠ ألفاً بدون فوائد، ولأنها كانت مغامرة من الأخوين أمين، لم يقبلا العرض خوفاً من ضياع هذا المبلغ، وهو بحسبة أيامها ميزانية وزارة. وشتا المغامر الناجح الذى بدأ من الصفر أو ما هو أدنى منه، موَّل فيلم أم كلثوم «نشيد الأمل» عام ١٩٣٦، فقد كان صديقاً لطلعت حرب باشا، الذى عرض عليه ذلك بعد نجاح فيلمها الأول «وداد». ولم يكن الجد الباشا الذى احتفلت به (الأخبار) يعرف أن حفيده سوف يحترف الكتابة الصحفية والأدبية والفنية، ويعمل بمؤسسة (الأهرام)، ويصبح وكيلاً لوزارة الثقافة للشئون الخارجية، ورئيسا لاتحاد كتَّاب مصر، ومن أبرز نجومها فى هذا الميدان.. وقد دارت به الأيام وعليه أيام السادات ليجد نفسه ينام على «البورش» فى زنزانة مظلمة، ويصادق بعض المجرمين وسجناء الرأى، ويصبح رقماً فى لائحة السجون، متهماً بأنه من المحرضين على ثورة الجياع عام ١٩٧٧.

هذه هى الحقيقة
«محمد سلماوى» الكاتب الكبير فى مذكراته «يوماً أو بعض يوم» لا يتجمل ولا يحتاج إلى ذلك، فكل ما يذكره عن عائلته ونسبه وتاريخه يرويه بوقائع مرتبطة بأسماء وتواريخ شاهدة عليه، بل إنه بلغ من الصراحة فى أمور خاصة ما لم يبلغه غيره من أصحاب المذكرات التى صاغها بأسلوب سهل وعميق، تختلط فيه أحوال أسرته الصغيرة بأحوال الوطن الكبير.. الأمر الذى يجعلك تعيش مع أكثر من ٤٠٠ صفحة فى قعدة واحدة، إلا من فواصل ضرورية ترجع بعدها لتواصل وتبحث عن الجزء الثانى، فقد توقف فى الأول عند حادثة المنصة، وما جرى قبلها وبعدها وحولها، وجاء الثانى بعنوان (العصف والريحان) وهى اختيارات ذكية وكاشفة لمجريات الأمور الصحفية والاقتصادية والفنية والسياسية، وقد قيل عنها الكثير بأقلام شخصيات كبيرة، لذلك رأيت أن أصطاد منها بعض الحكايات التى لم أستطع أن أمر عليها مرور الكرام، فتصبح قطعاً من البازل إذا جمعتها مع غيرها تشكلت أمامك الصورة وتجسد المنظر، خاصة أن سلماوى رغم معرفتنا به كاتباً وصحفياً له وزنه واسمه، لكننا ندخل بيته لأول مرة ونقلب فى دفاتره القديمة على راحتنا. ونعرف على سبيل المثال صلة النسب بينه وبين توفيق الحكيم، عندما تزوجت شقيقته هداية بالمرحوم إسماعيل ابن توفيق، وكان موسيقياً وعازفاً خطفه الموت فجأة، كما أن زوجته هى السيدة نازلى مدكور، الفنانة التشكيلية المعروفة. سلماوى ابن ڤيكتوريا كوليدچ مدرسة الأكابر، لعب الموسيقى ومارس الرياضة، وأتقن الإنجليزية والفرنسية، ولعب أدواراً تمثيلية فى روائع البرنامج الأوروبى الإذاعية من تراث شكسبير وشو وعمالقة المسرح العالمى.. وفى كل هذا انحاز إلى الفقراء واشتراكية عبدالناصر، وأهله من الإقطاعيين، وبينما يحق له الانتفاخ والعنطزة وعنده ما يسمح بذلك، تراه دائما البسيط المتواضع الذى يجيد فن الإصغاء كما يقدر تماماً على الخطابة والكلام وهو من صناعه.. وغيره من الفارغين يتحول إلى بالون أو قل إلى منطاد سرعان ما يرتد إلى الصفر كما كان.. وعرف المسرح من الدكتور رشاد رشدى وتتلمذ على يديه، لكنه انفتح على المدارس الأخرى، حتى كانت له شخصيته الخاصة. وفى كل سطر من مذكراته يختلط الخاص بالعام، والمؤلم بالمفرح، والمكسور بالمنصور.. وعندما اختاره نجيب محفوظ واصطفاه دون غيره لكى يمثله وينوب عنه فى استلام أهم جائزة أدبية على وجه البسيطة، كان يعرف جيداً أن هذا الشاب خير السفراء أمام دنيا تتابع وتسمع وترى وتقرأ عن وصول عربى إلى هذا الموقع الفريد لأول مرة.

آلو يا أمم
سأله محمد حسنين هيكل: هل تعرف الأمم المتحدة؟ وهل زرتها من قبل؟.. وكانت إجابته لا.. قالها وقد تقدم بطلب إلى رئيس مجلس إدارة الأهرام لكى يحضر الجمعية العامة عام ١٩٧١ وكان عمره لا يتجاوز سنة كمحرر للشئون الخارجية.

أبدى هيكل دهشته من هذا الشاب الذى يريد السفر، والأهرام لها مندوبها الدائم هناك ومحررها الدبلوماسى الأول حمدى فؤاد سيكون أيضاً فى قلب الحدث مع خبير ثالث فى أمريكا يراسل الأهرام ويكتب له، ورابعهم الكبير أحمد بهاء الدين.. فماذا ستفعل «يا ابن امبارح» بين هؤلاء الأكابر فى محفل عالمى؟! وأعلن أنه سيسافر على نفقته الخاصة.. وإذا نجحت رحلته وجاء بما لم يأت به غيره تدفع له الأهرام، وإذا فشل يشربها من الألف إلى الياء. ودرس الأمر جيداً، وعرف أن كل واحد من الأساتذة له دائرة هى عين اهتمامه، وفتش لنفسه عن ركن يعلن من خلاله عن تصدره، وكانت المؤسسة العالمية تستعد لاختيار سكرتيرها العام الجديد.. إذن هذا هو الهدف ولا شيء غيره.. توكلنا على الله، ومع انشغال الجمعية العامة بحرب الهند مع باكستان، واعتراضات العرب على قرار ٢٤٢. كان قد انفرد بحدث مهم جدا لمندوب بريطانيا السابق فى الأمم المتحدة وصاحب القرار.. يعنى هناك مؤشرات على فصاحة الديك. كان مقدراً لرحلة التحدى أن تكون عشرة أيام، فإذا بها تستمر لمدة شهرين، والحسابة بتحسب، ومن جيبه الخاص حتى كان صيده السمين بأول حديث يدلى به السكرتير العام الجديد للصحافة، وانفردت به (الأهرام) دون غيرها من جرائد الدنيا، وعرفنا الناس فى بلادى بالنمساوى (كورت فالدهايم) وكان سلماوى قد دار على كل الأسماء المرشحة وجمع عنها ما استطاع حتى تحقق له ما أراد. وكان هذا السبق يكفيه كى يفوز بثقة هيكل، وما أدراك ما هيكل، وقد فاز رغم تماحيك المنافسة والغيرة من هذا الشاب الذى طب عليهم فى أمريكا بغير ميعاد.

كواليس باريس
جاء (برونو كوكاتريكس) مالك ومدير مسرح أوليمبيا فى باريس، لكى يتفق مع «ثومة» على إحياء حفل كبير هناك فى أهم المسارح الأوروبية، فى وقت كانت تجمع فيه المال للمجهود الحربى من كل مكان.. سألها عن الأجر الذى تطلبه، فسألته هى بدورها عن أكبر الأجور التى دفعها ولمن؟.. وأخبرها أنها لنجمة فرنسا الخالدة (إديث بياف) وهو ١٠ ملايين فرنك، فطلبت الرقم مضاعفاً إلى جانب تذاكر السفر والإقامة لها ولفرقتها فى فندق چورچ الخامس.. وما دار بين «برونو» والست حكاه لصاحبه سلماوى، ودعاه لحضور الحفل هناك، وكان ثمن التذكرة ٣٠ ألف فرنك.. ثمن الكرسى الذى تركه صاحبه لكى يبحث عما يدور فى كواليس الحفل الذى تحول إلى مظاهرة عربية عالمية ضد هزيمة مصر العسكرية التى وقعت قبل أشهر قليلة من هذا الحفل.. واختلطت آهات «الست» فى الأطلال مع تقاسيم البهجة والرغبة فى تجاوز المحنة بأغنية «إنت عمرى» وفى ذلك عرفنا أن الفنان المخرج أحمد فهمى قد سجل آهات ثومة كلها على شريط زمنه حوالى ساعتين فيما يشبه المعجزة، وبعد الوصلة جاء «برونو» يهمس إلى صاحبه سلماوى بأن «مدام أم» ـ يقصد أم كلثوم ـ فقد كان يظن أن هذا هو اسمها وأن كلثوم هو اسم أبيها أو لقب العائلة، وذهب إليها فى الكواليس ومعه سلماوى، وأبدى اعتراضه لأن مذيع الحفل قدمها بطريقة فيها الكثير من السياسة والقليل من الفن.. كانت أم كثلوم جالسة، وبدا الغضب عليها فى موقعها، وقبل أن يترجم سلماوى كانت «ثومة» عرفت ما يريد، وقالت للمدير يهودى الأصل: «لا يا سيدى الحفل سياسى، وإذا كنت معترضاً فاعتبر الاتفاق كأن لم يكن»، وأشارت لأعضاء فرقتها وكانوا حولها: «اجمعوا الآلات يا ولاد.. وهيا بنا!». وترجم لها سلماوى ما كاد معه أن يتوقف نبضه وقلبه، لأنها كارثة لم يحسب حسابها.. واعتذر وتوسل. وفى الوصلة الثانية كان صوت جلال معوض، مقدم الحفل يجلجل: «أم كلثوم الليلة فى باريس وغداً بإذن الله تغنى فى القدس المُحررة رغم أنف برونو ويهود فرنسا وأمثالهم فى أرجاء أوروبا!».. وكان الحفل على الهواء، والإيراد للجيش المصرى والمجهود الحربى.

هكذا كان الفن يحارب لأجل البلد، قبل أن يتحول بعد ذلك إلى سلاح يحارب به البعض تقاليد وأعراف وأصول البلد، قال إيه شعبى.. وقال إيه مهرجانات.. وقال إيه «نمبر زيرو».. يادى الخيبة.!

وراء القضبان
ابن الناس وجد نفسه فى سجن القلعة.. لا نوم ولا دمع ولا أكل ولا شرب ولا نقطة ضوء، إلا من جدران كالحة موحشة كئيبة اللون والرائحة.. لكنه يحولها إلى ساعة حرية ومدد يضاف إلى خزائن تجاربه، ليتأكد أن المصرى يعيد اكتشاف نفسه وطاقاته المجهولة فى الأزمات والمحن، فقد تحول سطح «أم حسن» إلى كابينة تليفونات يقف أهل السجين عليه، بينما يرفعه زملاء الزنزانة إلى أعلى حتى يبلغ قضبان الشباك فيمسك بها ويكلم أهله، وتتداخل المكالمات بين من تطلب الطلاق ومن تلعن أيامه، وبين من تمنحه شيئاً من الصبر والقوة وقد جاءت بعياله معها.. وبين الرجاء والشتم والدموع والغضب.. تتشابك الأصوات فى سيمفونية عنوانها (إنت فين وأنا فين)؟.. حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً.. وفى مفكرته الحمراء رصد سلماوى الأيام الباقية من عمر لابس البدلة الحمراء الذى كان ينتظر حبل المشنقة.. ويتمنى أن يقابل وجه الكريم وهو صائم، ولأنه لا يعرف الميعاد لا يملك إلا الصيام والدعاء والانتظار الذى يتفوق على الموت نفسه، حتى تفتح الزنزانة أبوابها ذات صباح ويكون الزائر هو عشماوى.. وقد كتب سفاح الجيزة كلمة سجلها زميله:
«أحب أعرفكم يا إخوانى، إن أخوكم أحمد نازل يتمرجح على المرجيحة، ويموت موتة جدعان، وآدى آخرة الشقاوة يا حلاوة، والعين ما تبكيش غير ع الشجعان».
هذا وعند سلماوى فى «العصف والريحان» ما هو أكثر.