زقاق المدق.. بين الرؤى والرؤية « 1»

أ.د.إلهــــام سيــــف الدولــــة حمــــدان
أ.د.إلهــــام سيــــف الدولــــة حمــــدان

لقد‭ ‬طافت‭ ‬بذهني‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار؛‭ ‬وأنا‭ ‬أشاهد‭ ‬العرض‭ ‬المسرحي”زقاق‭ ‬المدق”‭  ‬المأخوذ‭ ‬عن‭ ‬رائعة‭  ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬؛‭ ‬وبإخراج‭ ‬الفنان‭ ‬د‭.‬عادل‭ ‬عبده‭ ‬رئيس‭ ‬البيت‭ ‬الفني‭ ‬للفنون‭ ‬الشعبية‭ ‬والاستعراضية؛‭  ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المخرج‭ ‬الملهم‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يترجم‭ ‬عبارات‭ ‬الأديب‭ ‬العالمي‭ ‬إلى‭ ‬لوحات‭ ‬استعراضية‭ ‬مُبهرة؛‭ ‬مع‭ ‬استخدام‭ ‬التقنيات‭ ‬الحديثة‭ ‬بشاشات‭ ‬العرض‭ ‬السينمائي‭ ‬التي‭ ‬تحتل‭ ‬خلفية‭ ‬الأحداث‭ ‬المتلاحقة؛‭ ‬فأطوف‭ ‬معه‭ ‬ــ‭ ‬مع‭ ‬توالي‭ ‬الأحداث‭ ‬والحوادث‭ ‬ــ‭ ‬في‭  ‬القاهرة‭ ‬الفاطمية‭ ‬بشارع‭ ‬المعز‭ ‬لدين‭ ‬الله‭ ‬الفاطمي؛وأدلف‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬الصنادقية‭ ‬وخان‭ ‬الخليلي‭ ‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ .. ‬بـ‭ ‬“الحنطور”‭ ‬تارة”‭ ‬وسيرًا‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭ ‬بين‭ ‬صاحبات‭ ‬البراقع‭ ‬واليشمك؛‭ ‬وبين‭ ‬جموع‭ ‬العربجية‭ ‬والمساطيل‭ ‬شاربي‭ ‬“قرعة‭ ‬البوظة”‭ ‬التي‭ ‬تأخذ‭ ‬المرء‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬خياله‭ .. ‬هروبًا‭ ‬من‭ ‬أظافر‭ ‬وأنياب‭ ‬الفقر‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬في‭ ‬الزقاق‭ ‬الضيق‭ ‬المكتظ‭ ‬بالفقراء‭ ‬أصحاب‭ ‬المهن‭ ‬الدنيا؛‭ ‬تلك‭ ‬المهن‭ ‬التي‭ ‬تتأرجح‭ ‬بين‭ ‬“القهوجي”‭ ‬و”‭ ‬الحلاق‭ ‬“‭ ‬و”‭ ‬العطار”‭ ‬و‭ ‬“بائع‭ ‬البسبوسة”‭  ‬و‭ ‬“زيطة‭ ‬“‭ ‬الذي‭ ‬ينقل‭ ‬أحداث‭ ‬أهل‭ ‬الزقاق؛‭ ‬و‭ ‬“‭ ‬كرشة‭ ‬“‭ ‬و‭ ‬“الشيخ‭ ‬درويش‭ ‬“‭  ‬الذي‭ ‬لايملك‭ ‬سوى‭ ‬الدعوات‭ ‬والحوقلة‭ ‬طوال‭ ‬الوقت؛‭ ‬وشخصية‭  ‬“‭ ‬الخاطبة‭/‬أم‭ ‬حميدة‭ ‬“‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬“‭ ‬علشان‭ ‬أكل‭ ‬العيش”‭ ‬مقابل‭ ‬الأجر‭ ‬الزهيد‭ ‬بمحاولات‭ ‬“‭ ‬توفيق‭ ‬راسين‭ ‬في‭ ‬الحلال‭ ‬“‭ ‬بين‭ ‬بنات‭ ‬الزقاق‭ ‬وشبابها؛‭ ‬وبين‭ ‬الشخصيات‭ ‬الهُلامية‭ ‬والهامشية‭ ‬كـ‭ ‬“‭ ‬عبيط‭ ‬الزقاق”‭ ‬الذي‭ ‬لاعمل‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬أننا‭ ‬نراه‭ ‬“يرقص‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬زفة”‭ ! ‬

‭ ‬ولأن‭ ‬الزمان‭ ‬الذي‭ ‬تتوالى‭ ‬فيه‭ ‬فعاليات‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬“زقاق‭ ‬المدق”؛‭ ‬هو‭ ‬مابعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين؛‭ ‬وبيان‭ ‬انعكاس‭ ‬تأثير‭ ‬تلك‭ ‬الحرب‭ ‬وتداعياتها‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬المصريين؛‭ ‬قد‭ ‬اختلف‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬الزمان‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين؛‭ ‬ولكن‭ ‬يظل‭ ‬“الإنسان‭ .. ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه”‭ ‬بطموحاته‭ ‬ـ‭ ‬وأطماعه‭ ‬ـ‭ ‬وتطلعاته‭ ‬إلى‭ ‬محاولة‭ ‬تغيير‭ ‬الواقع‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬“الشرنقة”‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬يكون‭ ‬“فراشة”‭ ‬تحلق‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الدنيا‭ ‬البراح‭ .. ‬ولكن‭ ‬مصير‭ ‬هذه‭ ‬الفراشات‭ ‬دائمًا‭ ‬هو‭ ‬الاحتراق‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬النور‭ .. ‬والنار‭!‬

وهنا‭ .. ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬تحكُم‭ ‬وتتحكَّم‭ ‬في‭ ‬المساكين‭ ‬الفقراء‭ ‬أهل‭ ‬الزقاق؛‭ ‬وهو‭ ‬صاحب‭ ‬الوكالة‭ ‬والثروة‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬المعلم‭ ‬سليم‭ ‬علوان‭ .. ‬الذي‭ ‬يتطلع‭ ‬“‭ ‬بفلوسُه‭ ‬وأملاكُه”‭ ‬إلى‭ ‬مداعبة‭ ‬خيال‭ ‬بنات‭ ‬الزقاق‭ ‬الحالمات‭ ‬بالخروج‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الزقاق‭ ‬الضيق‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬الحرية‭ ‬والبراح‭ ‬والملابس‭ ‬الفخيمة‭ ‬والذهب‭ ‬والقصور‭ ‬التي‭ ‬تليق‭ ‬ـ‭ ‬في‭ ‬رأيهن‭ ‬ـ‭ ‬بجمالهن‭ ‬ورشاقتهن؛‭ ‬وبخاصة‭ ‬“حميدة‭ ‬“‭ ‬التي‭ ‬تُعد‭ ‬بطلَة‭ ‬قصة‭ ‬“‭ ‬زقاقُ‭ ‬المدق”‭ ‬والتي‭ ‬انتهت‭ ‬حكايتها‭ ‬بين‭ ‬أحضان‭ ‬الضباط‭ ‬والجنود‭ ‬الإنجليز؛‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬فشل‭ ‬خطبتها‭ ‬ـ‭ ‬بمساعدة‭ ‬الأم‭ ‬ـ‭ ‬على‭ ‬صاحب‭ ‬الوكالة‭ ‬السيد‭ / ‬سليم‭ ‬علواني؛‭ ‬الذي‭ ‬استعد‭ ‬للاقتران‭ ‬بـ‭ ‬“‭ ‬حميدة”‭ ‬بتناول‭ ‬“صينية‭ ‬حمام‭ ‬بالفريك‭ ‬مخلوطة‭ ‬بأشياء‭ ‬أخرى‭ !‬”‭ ‬ليسقط‭ ‬صريعًا‭ ‬وتفشل‭ ‬الخِطبة‭ .. ‬ويا‭ ‬“‭ ‬فرحة‭ ‬ماتمِّت”‭ !‬؛‭ ‬ومرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬نوبة‭ ‬من‭ ‬نوبات‭ ‬التمرد‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬ورفضها‭ ‬الاقتران‭  ‬بـ‭ ‬“عباس‭ ‬الحلو”‭ ‬حلاق‭ ‬الزقاق‭ ‬الذي‭ ‬يرحل‭ ‬ليعمل‭ ‬في‭ ‬“الأورنس‭ ‬“‭ ‬عند‭ ‬جنود‭ ‬الاحتلال‭ ‬في‭ ‬معسكرات‭ ‬التل‭ ‬الكبير؛‭ ‬ليحاول‭ ‬تدبير‭ ‬“تحويشة‭ ‬المهر”‭ ‬ليقدمه‭ ‬إلى‭ ‬محبوبته‭ ‬“حميدة”؛‭ ‬ولكنه‭ ‬يعود‭ ‬بعد‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭!‬؛‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬لعب‭ ‬الشيطان‭ ‬“فرج‭ /‬القواد”‭  ‬الذي‭ ‬لعب‭ ‬دوره‭ ‬باقتدار‭ ‬الفنان‭ ‬مجدي‭ ‬فكري‭ ‬؛‭ ‬الذي‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬إغواء‭ ‬حميدة‭ ‬في‭ ‬ارتياد‭ ‬درب‭ ‬الرذيلة‭ .. ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المال‭ ‬والشهرة‭ .. ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬النقود‭ ‬الملوثة‭ !‬

ولإننا‭ ‬ـ‭ ‬بكل‭ ‬الحُب‭ ‬ـ‭ ‬ننشد‭ ‬دائمًا‭ ‬محاولة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الكمال‭ ‬ــ‭ ‬والكمال‭ ‬لله‭ ‬وحده‭ ‬ــ‭ ‬؛‭ ‬وبخاصة‭ ‬بعد‭ ‬رؤيتنا‭ ‬لتلك‭ ‬الطفرة‭ ‬الهائلة‭ ‬المبشِّرة‭ ‬بعودة‭ ‬المسرح‭ ‬الاستعراضي؛‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬المخرج‭ ‬المتمكن‭ ‬د‭.‬عادل‭ ‬عبده؛‭ ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أنه‭ ‬يمتلك‭ ‬الرؤية‭ ‬الصائبة‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬التقنيات‭ ‬الحديثة‭ ‬؛‭ ‬فقد‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يفجِّر‭ ‬الطاقات‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ( ‬طاقم‭ ‬العمل‭ )‬؛‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬بطلة‭ ‬العرض‭ ‬الفنانة‭ ( ‬دنيا‭/‬حميدة‭ )‬؛‭ ‬والفنانة‭ ( ‬بثينة‭ ‬رشوان‭/‬أم‭ ‬حميدة‭ )‬؛‭ ‬وبقية‭ ‬الشباب‭ ‬والشابات‭ ‬ممن‭ ‬لعبوا‭ ‬أدوارهم‭ ‬وأدوارهن‭ ‬بكل‭ ‬التمكن‭ ‬والاقتدار؛‭ ‬فإنني‭ ‬كنت‭ ‬أنتظر‭ ‬إعطاء‭ ‬الفنان‭ (‬عبدالله‭ ‬سعد‭ /‬سليم‭ ‬علوان‭) ‬ــ‭ ‬وهو‭ ‬شخصية‭ ‬محورية‭ ‬ــ‭ ‬مساحة‭ ‬أكبر‭ ‬داخل‭ ‬العمل؛‭  ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعطاء‭ ‬ـ‭ ‬المشاهدين‭ ‬ـ‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬تعميق‭ ‬فكرة‭ ‬سيطرة‭ ‬وقوة‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬على‭ ‬جموع‭ ‬الفقراء‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الزقاق‭ ‬بمداعبة‭ ‬أحلامهم‭ ‬بالرفاهية‭ ‬وكسر‭ ‬“ناب‭ ‬الفقر”‭ ‬الذي‭ ‬ينهش‭ ‬في‭ ‬جموعهم‭ ‬ومجتمعهم‭ !‬

إننا‭ ‬ونحن‭ ‬جلوس‭ ‬في‭ ‬مقاعد‭ ‬المتفرجين‭ .. ‬فإنني‭ ‬أؤكد‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬منهم‭ ‬ـ‭ ‬وبخاصة‭ ‬جيل‭ ‬الوسط‭ ‬ـ‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ : ‬كيف‭ ‬سيعالج‭ ‬المخرج‭  ‬د‭.‬عادل‭ ‬عبده‭ ‬نهاية‭ ‬الأبطال‭ ‬المحوريين‭ ‬في‭ ‬رائعة‭ ‬“نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬“؛‭ ‬وهم‭  ‬المتمردة‭ ‬“‭ ‬حميدة‭ ‬“‭ ‬والفقير‭ ‬المُحب‭ ‬بلا‭ ‬أمل‭ ‬“‭ ‬راجي‭ ‬عفو‭ ‬الخلاَّق‭ ‬“‭.. ‬الأسطى‭ ( ‬عباس‭ ‬الحلو‭/‬الحلاق‭ )‬”‭ ‬؟‭ ‬فالرؤية‭ ‬السينمائية‭ ‬عند‭ ‬“حسن‭ ‬الإمام‭ ‬“‭ ‬هي‭ ‬“مقتل‭ ‬حميدة”‭  ‬وهو‭ ‬“الحدث‭ ‬“‭ ‬ــ‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬النقاد‭ ‬ــ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أكبر‭ ‬الأثر‭ ‬على‭ ‬جوهر‭ ‬فكرة‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬نهاية‭ ‬حتمية‭ ‬وفق‭ ‬مسار‭ ‬البناء‭ ‬الدرامي‭ ‬الذي‭ ‬برع‭ ‬فيه‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬وهي‭ ‬نهاية‭ ‬درامية‭ ‬لبطل‭ ‬ساذج‭ ‬دفعه‭ ‬حبه‭ ‬الأعمى‭ ‬لفتاة‭ ‬أُمّية‭ ‬إلى‭ ‬التهور‭ ‬والموت‭ .‬

‭ ‬ولكن‭ ‬سيطرة‭ ‬بريق‭ ‬الأمل‭ ‬على‭ ‬معالجة‭ ‬د‭.‬عادل‭ ‬عبده؛‭ ‬جعله‭ ‬يؤثر‭ ‬وضع‭ ‬“نهاية‭ ‬مفتوحة‭ ‬“‭ ‬بفراق‭ ‬الأبطال‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬حياتهم‭ ‬لاستكمال‭ ‬المسيرة‭ ‬في‭ ‬دروب‭ ‬الحياة‭  ‬ــ‭ ‬برغم‭ ‬عودة‭ ‬حميدة‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬الصواب‭ ‬ـ‭ ‬وعدم‭ ‬قبول‭ ‬الحبيب‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬استكمال‭ ‬المشوار‭ ‬مع‭ ‬“حميدة”‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬حذره‭ ‬الحكيم‭ ‬عم‭ ‬كامل‭( ‬القديرأحمد‭ ‬صادق‭) ‬بائع‭ ‬البسبوسة‭ ‬لأنها‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬بالنقاء‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتطلع‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬العذري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يمارسه‭ ‬طيلة‭ ‬الوقت‭ ...‬

وللحديث‭ ‬بقية