لقد طافت بذهني هذه الأفكار؛ وأنا أشاهد العرض المسرحي”زقاق المدق” المأخوذ عن رائعة نجيب محفوظ ؛ وبإخراج الفنان د.عادل عبده رئيس البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية؛ وأرى أن هذا المخرج الملهم استطاع أن يترجم عبارات الأديب العالمي إلى لوحات استعراضية مُبهرة؛ مع استخدام التقنيات الحديثة بشاشات العرض السينمائي التي تحتل خلفية الأحداث المتلاحقة؛ فأطوف معه ــ مع توالي الأحداث والحوادث ــ في القاهرة الفاطمية بشارع المعز لدين الله الفاطمي؛وأدلف معه إلى الصنادقية وخان الخليلي في أربعينيات القرن الماضي .. بـ “الحنطور” تارة” وسيرًا على الأقدام تارة أخرى بين صاحبات البراقع واليشمك؛ وبين جموع العربجية والمساطيل شاربي “قرعة البوظة” التي تأخذ المرء إلى عالم آخر من صنع خياله .. هروبًا من أظافر وأنياب الفقر الذي يعيشه في الزقاق الضيق المكتظ بالفقراء أصحاب المهن الدنيا؛ تلك المهن التي تتأرجح بين “القهوجي” و” الحلاق “ و” العطار” و “بائع البسبوسة” و “زيطة “ الذي ينقل أحداث أهل الزقاق؛ و “ كرشة “ و “الشيخ درويش “ الذي لايملك سوى الدعوات والحوقلة طوال الوقت؛ وشخصية “ الخاطبة/أم حميدة “ التي تعمل “ علشان أكل العيش” مقابل الأجر الزهيد بمحاولات “ توفيق راسين في الحلال “ بين بنات الزقاق وشبابها؛ وبين الشخصيات الهُلامية والهامشية كـ “ عبيط الزقاق” الذي لاعمل له سوى أننا نراه “يرقص مع كل زفة” !
ولأن الزمان الذي تتوالى فيه فعاليات الشخصيات في “زقاق المدق”؛ هو مابعد الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن العشرين؛ وبيان انعكاس تأثير تلك الحرب وتداعياتها على حياة المصريين؛ قد اختلف كثيرًا عن الزمان في القرن الواحد والعشرين؛ ولكن يظل “الإنسان .. هو الإنسان نفسه” بطموحاته ـ وأطماعه ـ وتطلعاته إلى محاولة تغيير الواقع والخروج من “الشرنقة” إلى حيث يكون “فراشة” تحلق في سماء الدنيا البراح .. ولكن مصير هذه الفراشات دائمًا هو الاحتراق في دائرة النور .. والنار!
وهنا .. نعود إلى الشخصية التي تحكُم وتتحكَّم في المساكين الفقراء أهل الزقاق؛ وهو صاحب الوكالة والثروة المتمثل في شخصية المعلم سليم علوان .. الذي يتطلع “ بفلوسُه وأملاكُه” إلى مداعبة خيال بنات الزقاق الحالمات بالخروج من عالم الزقاق الضيق إلى حيث الحرية والبراح والملابس الفخيمة والذهب والقصور التي تليق ـ في رأيهن ـ بجمالهن ورشاقتهن؛ وبخاصة “حميدة “ التي تُعد بطلَة قصة “ زقاقُ المدق” والتي انتهت حكايتها بين أحضان الضباط والجنود الإنجليز؛ وذلك بعد فشل خطبتها ـ بمساعدة الأم ـ على صاحب الوكالة السيد / سليم علواني؛ الذي استعد للاقتران بـ “ حميدة” بتناول “صينية حمام بالفريك مخلوطة بأشياء أخرى !” ليسقط صريعًا وتفشل الخِطبة .. ويا “ فرحة ماتمِّت” !؛ ومرة أخرى في نوبة من نوبات التمرد على الأوضاع السائدة في المجتمع ورفضها الاقتران بـ “عباس الحلو” حلاق الزقاق الذي يرحل ليعمل في “الأورنس “ عند جنود الاحتلال في معسكرات التل الكبير؛ ليحاول تدبير “تحويشة المهر” ليقدمه إلى محبوبته “حميدة”؛ ولكنه يعود بعد فوات الأوان!؛ بعد أن لعب الشيطان “فرج /القواد” الذي لعب دوره باقتدار الفنان مجدي فكري ؛ الذي نجح في إغواء حميدة في ارتياد درب الرذيلة .. من أجل المال والشهرة .. والمزيد من النقود الملوثة !
ولإننا ـ بكل الحُب ـ ننشد دائمًا محاولة الوصول إلى الكمال ــ والكمال لله وحده ــ ؛ وبخاصة بعد رؤيتنا لتلك الطفرة الهائلة المبشِّرة بعودة المسرح الاستعراضي؛ على يد المخرج المتمكن د.عادل عبده؛ ومن الواضح أنه يمتلك الرؤية الصائبة في استخدام التقنيات الحديثة ؛ فقد استطاع أن يفجِّر الطاقات الكامنة في ( طاقم العمل )؛ بداية من بطلة العرض الفنانة ( دنيا/حميدة )؛ والفنانة ( بثينة رشوان/أم حميدة )؛ وبقية الشباب والشابات ممن لعبوا أدوارهم وأدوارهن بكل التمكن والاقتدار؛ فإنني كنت أنتظر إعطاء الفنان (عبدالله سعد /سليم علوان) ــ وهو شخصية محورية ــ مساحة أكبر داخل العمل؛ من أجل إعطاء ـ المشاهدين ـ الهدف من تعميق فكرة سيطرة وقوة رأس المال على جموع الفقراء من أهل الزقاق بمداعبة أحلامهم بالرفاهية وكسر “ناب الفقر” الذي ينهش في جموعهم ومجتمعهم !
إننا ونحن جلوس في مقاعد المتفرجين .. فإنني أؤكد أن البعض منهم ـ وبخاصة جيل الوسط ـ كان ينتظر : كيف سيعالج المخرج د.عادل عبده نهاية الأبطال المحوريين في رائعة “نجيب محفوظ “؛ وهم المتمردة “ حميدة “ والفقير المُحب بلا أمل “ راجي عفو الخلاَّق “.. الأسطى ( عباس الحلو/الحلاق )” ؟ فالرؤية السينمائية عند “حسن الإمام “ هي “مقتل حميدة” وهو “الحدث “ ــ في رأي النقاد ــ الذي كان له أكبر الأثر على جوهر فكرة الرواية التي تدور حول نهاية حتمية وفق مسار البناء الدرامي الذي برع فيه نجيب محفوظ وهي نهاية درامية لبطل ساذج دفعه حبه الأعمى لفتاة أُمّية إلى التهور والموت .
ولكن سيطرة بريق الأمل على معالجة د.عادل عبده؛ جعله يؤثر وضع “نهاية مفتوحة “ بفراق الأبطال والحفاظ على حياتهم لاستكمال المسيرة في دروب الحياة ــ برغم عودة حميدة إلى طريق الصواب ـ وعدم قبول الحبيب بالعودة إلى استكمال المشوار مع “حميدة” التي طالما حذره الحكيم عم كامل( القديرأحمد صادق) بائع البسبوسة لأنها في نظره لم تعد بالنقاء الذي كان يتطلع إليه في الحب العذري الذي كان يمارسه طيلة الوقت ...
وللحديث بقية