هالة فؤاد يكتب: الاخـتيار المــر

هالة فؤاد
هالة فؤاد

بقلم: هالة فؤاد

أحيانًا يقدم الإنسان على خطوة لم يكن يتصور يوما أن يخطوها.. ويتخذ قرارا لم يتخيل يوما أن باستطاعته اتخاذه ويتجرع مرارة اختيار لم يدر يوما بخلده أنه يقدم عليه بمحض إرادته..
وقتها يشعر أنه غريب عن نفسه، تائه.. مغيب كأنه شخص آخر لا يعرفه.. أو على الأدق هو إنسان جديد ولد من رحم الأحزان والقسوة والنكران والإهانة..

رحلة شاقة لم تكن فيها محطات لالتقط فيها أنفاسى المتعبة..سنوات زواجى التى قاربت العشرين مرت عجافا ثقيلة. تحملت فيها فوق ما يتحمله بشر..زوج بخيل أنانى لا يعرف قلبه الرحمة.. ظهرت طباعه المنفرة الغليظة من الأسبوع الأول فى شهر العسل.. يبدو الأمر بالفعل غريبا. لكننى عشت وقائعه المدمرة..لم يجهد زوجى نفسه لتمالك أعصابه وإخفاء عصبيته من بداية زواجنا..كان يثور على أتفه الأسباب.. وكانت ردود أفعالى المصدومة تجعله يراجع نفسه ثم لا يلبث أن يعتذر. لكن مع مرور السنوات تمادى فى عصبيته وإهانته وتجريحه وتطاوله وتجاوزاته بأريحية تامة وبنفس غير لوامة وبروح قاسية اعتادت على التجبر وسحق وقهر الآخر.

لا أبرئ نفسى من الخطأ فمن المؤكد أننى ساهمت فى وصول علاقتنا لتلك الحالة. بسبب ردود أفعالى الهادئة.. كنت أحاول نسيان التجاوز وتبرير مايحدث بأنه خارج عن شعور زوجى بل وكنت أحمل نفسى السبب أحيانا فى عصبيته وأن هدوئى كان مثيرا لاستفزازه .هكذا كنت أفعل مثل أى زوجة بلهاء تحاول أن تلتمس لزوجها عذرا حتى وإن كان غير منطقى وغير مقبول.

عشت ورضيت بقسمتى وحاولت تنفيذ وصية الجدات بأن الزوجة العاقلة لا تخرب بيتها بنفسها وأنها يمكن بحكمتها ترويض زوجها وامتصاص غضبه وتحسين طباعه.
تحملت من أجل أبنائى كما أوصانى الجميع..عشت فى بيتى مثل أى سجين محكوم عليه بالمؤبد ويحمد الله فى سره ليل نهار أنه لم ينفذ فيه حكم بالإعدام..
ضممت أطفالى فى حضنى ورأيت فيهم كل نعم الحياة.. وأيقنت أن وجودهم وحده هو ما يمنحنى السعادة والسكينة والقدرة على التحمل.

من أجل عيونهم رضيت الحياة مع رجل نجح فى استنزاف كل طاقتى وقدرتى على التحمل وسحب من رصيد الحب الذى أحببته له حتى رحل عن قلبى وصار فؤادى بعده هواء.
لم أكن أتصور يوما أن تصل مشاعرى لتلك الحالة من الجفاء بل والكراهية لكن أفعاله هى التى قادتنى لتلك النهاية.. بعدما تجاوز بإهانته لى كل الحدود وأصبحت تجاوزاته أمام الجميع أهلى وأهله والأخطر أولادنا..شعور بالانكسار والقهر والمهانة لم أتخيل يوما أن أصل إليه بعدما تكررت إهانته لى أمام أبنائى..لم أستطع تحمل المزيد.. فقدت قدرتى على الصفح والتجاوز والتجاهل. لم أعد مقتنعة بتلك المبررات الغبية التى حاولت بها تهوين كل أفعال زوجى.. تمردت على نصائح جدتى وسخطت على كل الأعراف التى تدفع الزوجة لتحمل ما لا يجب تحمله تحت شعار حماية الأسرة من التفكك والأولاد من الانحراف.. فأى تفكك يمكن أن يواجه أسرة تتعرض الزوجة فيها لأقسى أنواع الظلم والإهانة. وأى حماية للأولاد يمكن أن تمنحها أم مكسورة مقهورة ممزقة الروح؟..

ضربت بكل المبررات الواهية عرض الحائط، طلبت الطلاق ورحلت غير آسفة على أيامى معه بل كل أسف على تباطئى فى اتخاذ قرار تأخر لعقود وليس سنوات..
أخيرا وجدت نفسى..ردت إلى روحى .استعدت كبريائى الجريح وكرامتى المهدرة..عشت أجمل سنوات حياتى حرة بلا قيود قاسية مجحفة تطبق على الروح وتخنق النفس..
ضممت أولادى ووجدت فى حضنهم خير عزاء عن سنواتى عمرى المهدرة .

ظننت أننى نجوت من شر ابتلاء .لم أدرك أن ابتلاءات الحياة لا تتوقف وما إن نجتاز إحداها حتى يفاجئنا آخر ربما لا يقل شرا وأذى لأرواحنا..
حقيقة لم أكن أعرف وأنا أفتح قلبى لرجل آخر أن ما أقدم عليه له ثمن باهظ على تحمله..لم أفكر بعدما ذقت لأول مرة طعم السعادة أن على دفع فاتورة تلك الراحة والسكينة مضاعفا..لم أتوقع أن تتربص بى الدنيا وكأنها تثأر منى على ذنب لا أعرفه ولا أظن أننى ارتكبته.

كل ما حلمت به هو قدر من الهدوء والسعادة والحب ولا أنكر أن زوجى الثانى منحنى أكثر ماتمنيت من كل تلك المشاعر.. حنون لأقصى حد. متفانٍ.. مجامل .داعم ومشجع وسند حقيقى فى كل الأزمات..كان أبا حنونا لأولادى وعوضا ببنوته لهم حرمانه من الإنجاب.
عشت وأولادى أجمل أيام حياتنا وكأن الله أراد تعويضنا عن تلك السنوات العجاف.

لكن يبدو أن تلك السعادة أشعلت نيران الغيرة فى قلب زوجى فأخذ يمارس ضغوطه وتحكمه وسيطرته على الأولاد لإجبارهم على تركى والحياة معه..بدافع من الخوف وعدم الرغبة فى الحرمان من احتياجاتهم وتكاليف معيشتهم ودراستهم استجاب الأولاد لطلبه.. لم يكن هذا هو مايسعى إليه فقط بل اتضح أنها خطوة أولى بعدها يحاول إجبارى على طلب الطلاق من زوجى والرجوع إليه.
لم أتردد بالطبع فى اتخاذ قرارى بعدم العودة إليه.. لكن لقرارى ثمن صعب على دفعه.. استمرارى مع الرجل الذى أحببته والذى أعاد البريق إلى روحى وأعاد لنبضى الحياة معناه أن أفقد فلذات أكبادى.. سيحرمنى منها ذلك الرجل غليظ الطباع والقلب.
يبدو أننى منذورة للألم وليس من نصيبى أن أحيا حياة هادئة مستقرة سعيدة كأننى وهبت للتعاسة والشقاء.

لصاحبة هذه الكمات أقول :
ليس هناك إنسان منذور للشقاء. والسعادة لا تمنحها الدنيا بل الشاطر من يغتصبها منها رغما عنها.

يجب أن ندرك أن جزءا من شقائنا نتحمله بقراراتنا الخاطئة..ومن المؤكد أنك أدركت ذلك باعترافك أن قرار انفصالك جاء متأخرا جدا وأنك تحملت من الإهانة مايفوق إنسان، وكان بوسعك وضع نهاية حاسمة وسريعة من البداية، خاصة وأن زوجك السابق لم يجهد نفسه كثيرا فى إخفاء طباعه الغليظة كما حكيت.

أدركت فداحة الجرم الذى ارتكبته فى حق نفسك بعدما التقيت برجل آخر عوضك بحنانه كل سنوات عمرك الصعبة.. وأعتقد أن رجلا يمتلك كل هذه الصفات التى وصفتها لن يتركك فى أزمتك ولن يتخلى عنك وسيكون لك عونا لعبورها والبحث عن مخرج لها. ورأيى أن عناد زوجك السابق وجبروته يستمد جزءا كبيرا من ضعفك وتهاونك وتجاوزك عن إهاناته ومن المؤكد أن شخصيتك الجديدة القوية المتماسكة المتوازنة ستكون صادمة له وستردعه وتوقف جبروته وجبره .فلا يفل الحديد إلا الحديد.. كونى قوية وتمسكى بحقك ودعمى أولادك للتمسك بحقوقهم فى الحياة معك. ولاأظن أن رجلا أنانيا قاسيا يمكنه تحمل مسئولية أولاد. فقط هو العناد مايحركه. فلا تستسلمى لضغوطه وقاومى لاجتياز تلك المحنة كما اجتزت الأصعب منها.. وسيكون النجاح حليفك دوما ما لم تكفى عن المعافرة.. فبعد العسر دوما يأتى اليسر والرحمة.. وأنت خير دليل على ذلك .