محمود صالح يكتب: بين إحياء «السُنّة» وإماتتها.. يُقال مولد «أبا»

محمود صالح
محمود صالح

بينما يتجادل الناس سنويًا حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وهل هو جائز أم بدعة، وبينما يذهب البعض لتحريمه من قبيل أن في مراسم الاحتفال خروجًا عن هدي السنة، وبينما يجيزه البعض من قبيل أن فيه إحياء لذكرى مولد نبي الخلق وسيدهم؛ هناك احتفال مغاير، لا يشبه في مراسمه أي أحتفال أخر.

في قرية آبا، أكبر قرى مركز مغاغة شمال محافظة المنيا، يُقام احتفال سنوي بمناسبة المولد النبوي الشريف، لكن هذا الاحتفال بعيدًا كل البعد عن الذكرى العطرة التي أقيم من أجلها، وقريب كل القرب من كل ما هو منافٍ للدين في والأخلاق.
 
المحتفلون وهم يرددون بعض الأناشيد الدينية، في أيديهم زجاجات خمرة، يتجرعونها وهم في حالة نشوة ظاهرة، سُكارى بين غياب العقل وحضوره، بين غياب طالته أثار الكحول، وحضور يغلبه التعبد، والتدين، وفي الحالتين شكل مظهرهم واقع ثالث، واقع يشبه الذي استأنس الشيطان فآنسه، فأنساه لذة الدين وطغت عليه لذة الدنيا.

يبدأ الاحتفال عقب صلاة الظهر، ويستمر حتى آذان المغرب، والاحتفال عبارة عن مسيرة كبيرة، في شارع دائري داخل البلدة، يسير فيه الناس بأي طريقة، بعضهم على حماره، يشبه في مظهره ما تقوله الآية الكريمة "كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًاۚ"، وبعضهم على دراجات نارية، تفنن فيها مالكوها ونزعوا عنها "الشكمان" ولم يتركوا فيها إلا "الماتور والتَنك"، وهذه جعلها تصدر أثناء قيادتهم أصوات مفزعة تصم الآذان.

وآخرون يمتطون خيول وجمال، يسيرون داخل الحلقة ويرتدون من الثياب آرثاها، ومع كل هذه يخرج أصحاب المهن المختلفة في تجمعات كلا في مهنته، حدادون وبناؤون وفلاحون ونقاشون وسباكون وسائقون، إلى آخره. 

واحتفالهم يشبه صنعتهم، الحدادون مثلا يحملون في أيديهم أسياخ من الحديد يتلاعبون بها، والبنائون كذلك يحملون مواد البناء من طوب وخلافه ويتلاعبون بهم، وعلى هذه الألعاب يتغنون "إحنا البنايين.. احنا الحدادين".

ووسط هذه الاحتفالات يكاد لا يذكر فيها اسم من تجمع كل هؤلاء الناس للاحتفال بمولده، وإحقاقًا للحق، فقط شرائط من القماش معلقة على رؤوسهم، مكتوب عليها "يا حبيبي يا رسول الله.. فداك يا رسول الله".

هذه الاحتفالات لا تخلو مراسمها من بعض المآسي. سرعة خارقة لدراجة نارية فاصطدمت وأصيب من فيها أو مات، حركة خاطئة لحصان وأودت بحياة طفل كان يشاهد الاحتفالات، أو سيارة اختل سائقها عن التحكم في مقودها فدهست الناس، أو مشاجرة بالعصي والأسلحة البيضاء وانتهت ما بين مصاب وقتيل. حتى أنه مع اقترب موعد المولد النبوي يضع الأهالي أيديهم على قلوبهم خوفًا من ما يحدث في المولد، ومن كم الضحايا الذين يتساقطون فيه. 

حُكي لي أن هذه الاحتفالات بدأت بطرق صوفية عدة احتضنتها القرية، وفي هذا اليوم يخرجون ويتناشدون حبًا في النبي وآل البيت، وشكلوا تلك المسيرة الموجودة حتى الآن، لكن أصحاب هذه الطرق وشيوخها ماتوا، وأبنائهم قد فرقتهم الطرق ولم يسلكوا مسلك آبائهم، وتكالب على مراسم هذه الاحتفالات أناس آخرون، أخذوا يحرفون ويحرفون في طريقتها. وانحرفوا بها حتى وصلت إلى ما عليه الآن.