تمر في شهر سبتمبر الذكري التاسعة والتسعين على بدء العمل في أول مصري خالص، وأقول “مصري خالص” لأنه العمل السينمائي الروائي الأول الذي يكتبه وينتجه ويصوره فنانا مصريا وعلى أرض مصر.
في عام 1923 بدأ الرائد الحقيقي للسينما المصرية الفنان محمد بيومي تصوير فيلمه غير الناطق “برسوم يبحث عن وظيفة”، الذي وصفه بأنه أول فيلم “وطني” ويقصد أن الفيلم ليس انتاجا أجنبيا، أو بتمويل خارجي، وهو كذلك فيلما واقعيا عن حياة المصريين في ذلك العصر.
غير أنه وصف “وطني” يتجاوز المقصود بمصريته الخالصة، فالقضية الوطنية حاضرة بقوة وفي كل تفصيلة في في ذلك الفيلم النادر، مثلا نجد علم ثورة 1919 الذي يحمل الصليب والهلال متداخلان على صفحته الخضراء في منازل الأبطال، ونجد صورة لزعيم الأمة معلقة على جدار غرفة الشيخ متولي، وشعار “يحيا الارتباط” مكتوبا على جدار فرفة برسوم أفندي، كذلك كان اختيار البطلين مقصودا “برسوم” المسيحي و”الشيخ متولي” المسلم، في تمجيد مقصود للصداقة والقرب المتينة بين عنصري الأمة، المبدأ الذي احتفت به وعمقته ثورة 1919 والتي كان قد مر على اندلاعها خمسة أعوام حينما بدأ محمد بيومي العمل في فيلمه، وكانت لا تزال الثورة وزعماءها حاضرة في قلوب ووجدان المصريين.
وبالطبع، فإن قصة الفيلم ساطع فيها موقف محمد بيومي السياسي والفني وانحيازاته أيضا، فالبطلين على اختلاف ديانتيهما يلفهما الفقر العنيف، وكذلك كل من حولهما من الجيران وغيرهم ، فلا يوجد في منزل برسوم أفندي سوى رغيف خبز يابس، يدخل طفلا فقيرا يرتدي ما يشبه الملابس بسبب تمزقها ويحاول سرقة الرغيف الوحيد، لكن الشيخ متولي يمسك به خارجا من غرفة صديقه النائم، و يحصل على الرغيف المسروق، لكنه يأكله بسبب جوعه!
وقد قام محمد بيومي الذي كان مولعا بالتصوير، قبل حتى دخوله عالم السينما بوقت طويل، بتصوير الفيلم في شوارع القاهرة وليس في بلاتوه مغلق، وقدم لنا مشاهد الفقر والبؤس في أحياء القاهرة البعيدة عن سكنى الخواجات والباشوات، كما كانت تصورها كروت البوستال والأفلام الوثائقية التي سبقت فيلمه، ونجد “برسوم” مثلا حينما يجد إعلانا عن وظيفة يذهب إلى الموعد جريا في الشوارع لأنه لا يمتك أجرة الحنطور! أما صديقه “الشيخ متولي” فإنه يتشعلق خلسة في حنطور ونجد لوحة كتب عليها المخرج “كرباج ورا يا أسطى” بالعربية والفرانكو.
يشبه فيلمنا المصري الأول “برسوم يبحث عن وظيفة” أفلام شارلي شابلن، فهو غير ناطق كما أن حركة الممثلين حركات مسرحية بالأساس في مواجهة الكاميرا، فضلا عن السخرية اللاذعة في فيلم مصنف كعمل كوميدي لكنه شديد الواقعية والغضب أيضا مما يحدث في ذلك العصر.
تقوم قصة الفيلم الذي لا يزيد وقته عن 16 دقيقة، حول صديقين هما “برسوم” وبقوم بدوره الفنان عادل حميد والذي لا توجد أي معلومات حول حياته فيما بعد، و”الشيخ متولي” ويقوم بدوره الفنان بشارة واكيم، يعانيان الفقر والجوع ويرتدي كل مهما أسمالا بالية لستر الجسد وما تبقى لديهما من كرامة، وبحيلة دن حيله يدفع “الشيخ متولي” صديقه “برسوم” ليتقدم إلى وظيفة في أحد البنوك، ويحتال كل مهما على مدير البنك ويخدعاه ليحصلان على الطعام، وهكذا يجدا نفسيهما في منزل المدير الثري الذي قام بدوره الفنان عبد الحميد زكي، ويجلس برسوم ومتولي على سفرة فاخرة ويأكلان طعاما ربما لم ولن يذوقاه في حياتهم على الإطلاق، وما يلبث المدير أن يكتشف الخدعة، ويطردهما من منزله فيمشيان في الشوارع وقد أصابتهما التخمة بسبب الشراهة، وينامان من الكسل على أحد الأرصفة، حتى يقبض عليهما عسكري دورية بتهمة التسكع ويصحبهما في المشهد الأخير إلى كراكون البوليس.
في عام 1995 شارك فيلم “برسوم يبحث عن وظيفة” في احتفالية اليونسكو بباريس بالعيد المئوي، كأول فيلم مصري روائي قصير، وباعتباره أيضا أول فيلم محلي في أفريقيا. وقبل فيلم محمد بيومي كانت الأفلام التي تعرض في دور السينما في مصر منذ العرض الأول في عام 1896 كلها إما أفلاما أجنبية أو وثائقية تسجل أعمال الملوك والسلاطين، أو تقدم ما يشبه الجريدة المصورة للأحداث العالمية الكبرى.
وكان أول فيلم وثائقي يصور زيارة السلطان حسين كامل للإسكندرية، وسبق “برسوم أفندي يبحث عن وظيفة” أفلاما لمحمد كريم عام 1917 كأول ممثل مصري يظهر في السينما، لكنها كانت أفلاما أجنبية إنتاجا وإخراجا وصناعة، لكن فيلم محمد بيومي كان كما كتب على أول لوحة في التيتر “أول فكاهة سينما فوتوغرافية مصرية وضع وتصوير محمد محمد بيومي”، أما محمد بيومي نفسه فهو قصة كبيرة لها كتابة أخرى لإنصاف أول صانع أفلام مصري.