د. محمد سميرعبد السلام يكتب: المعطوب وآكلو الورق: العبور إلى الفضاءات الأدبية الممكنة

 المعطوب وآكلو الورق
المعطوب وآكلو الورق

يطرح الروائى السعودى مصطفى الحسن فى روايته «المعطوب وآكلو الورق»، الصادرة عن منشورات تكوين بالكويت، إشكالية المزج الإدراكى الإبداعى بين الخيال الذاتي، وإمكانية تجدد العلامات، والشخصيات، والأفكار المتضمنة فى الكتب، والأوراق فى فضاءات محتملة، أو ممكنة، تتدرج من حضور شخصيات الماضى ضمن تمثيلات ذهنية فائقة فى المشهد اليومى حتى غياب الشخصية الواقعية فى عالم الحكاية السحرى ضمن بنية حضور أخرى مغايرة.

وتظل قيد التجدد الحلمى فى وعى الآخر؛ يجمع السارد فى خطابه – إذا – بين إمكانية تجدد فانتازيا الحكايات القديمة؛ مثل حكايات كليلة ودمنة فى سياق فعلى / ثقافى تجريبى ويعيد إنتاج أثر الحكاية فى بنية الحضور الإشكالية، ويكشف عن مساحات الحضور الطيفى الممزوج بالاختفاء فيما وراء الفضاء الفيزيقي، أو فى فضاءات يمتزج فيها الواقع بالممكن، بفضاءى الذاكرة.

والحلم الذهنيين؛ فالمعطوب، ومريم مثلا قد عاينا غرابة مصيرهما الخاص من جهة، والشخصيات التى التهمت الورق بصورة أدائية – وجودية؛ مثل ابن الروعة، وعمر من جهة أخرى؛ ومن ثم يصير الفضاء المرئى – لدى من شهدوا حالات آكلى الورق – قابلا للتمثيلات الذهنية التى تجمع بين التجسد الفيزيقي، والتجسد الطيفى الممكن، والأفق المرئي، وفضاء المكتبة الذى يوحى بالزيادة المستمرة فى إنتاج الشخصيات، وتضاعفها فى الفضاءات الممكنة، فضلا عن التداخل المحتمل بين رؤية بنات آوى فى المشهد اليومي.

وحضورها العاقل الآخر، وما ينطوى عليه من حكمة، وغيرة، وبهجة، وحزن، وتفكك فى حكاية كليلة ودمنة، والأسد والثور مثلا؛ فكل شخصية تقبل التضاعف الفني؛ مثلما ينطوى فضاء الموقف الفعلى للتواصل على الاتساع العالمى / الكوني، أو يختلط بفاعلية المكتبة الخيالية عبر فعلى القراءة، والالتهام الوجودى الأدائي، أو ضمن إنتاجية علامات الذاكرة، والحلم، وتمثيلاتهما الذهنية المضافة، أو المكملة للمشهد.

يؤسس السارد لخطابه الموجه إلى المروى عليه – فى نموذج التواصل الأول فى الرواية – على تلك الغرابة المتضمنة فى تحولات سياق الموقف الفعلى المحتملة؛ فالمعطوب ينتقل من بهجة حياته البسيطة الأولى إلى عالم الرق، ثم معاينة شخصيات آكلى الورق فى الجزيرة، وتنتقل مريم من عنف مجتمعها الخاص إلى فضاء آخر عبر رجل أعور تجتمع فى وجهه ملامح الشيطان، والملاك، وينتقل ابن الروعة من فضاء الغرفة إلى عالم كليلة، ودمنة الحلمي، أو الفانتازي، أو السحرى عبر التجريب المتدرج فى المراجع المكانية لموقف التواصل؛ ويتحول عمر من كراهية تجسدات الكتب إلى التهام الورق، ويمارس ذلك الإغواء الممتد نفسه، دون اكتشاف للعلاج، ويتوافق عبد التواب مع الطابع الأدائى الوجودى لهذا الفعل، ثم يتحول إلى التجسد الطيفى فيما وراء روايات القتل، أو الاختفاء مع آكلى الورق، وبنات آوى / شخصيات كليلة ودمنة فى الفضاء الخيالى الممكن؛ تتشكل وحدة الخطاب – إذاً – من ارتكاز السارد على تحولات السياق، وغرائبية تلك التحولات من خلال أفعال كلامية تمثيلية.

تتضمن توصيف حالة تحول السياق الواقعى فيما يشبه العلاقة بين عالمين ممكنين فى حالتى المعطوب، ومريم؛ فهما ينتقلان بين عالمين واقعيين، ولكنهما محتملان أيضا؛ لوجود مساحات من الحلم، والالتباس فى علامات الواقع، وأصواته نفسها؛ ومن ثم فتحولهما إلى الفضاء الواقعى الآخر الممكن سيمهد لتحول آخر فانتازى فائق تنتقل فيه الشخصية من الواقعى الممكن إلى فضاء التطور الحلمى للحكاية، وصيرورة علاماتها فيما وراء الواقع فى مصائر شخصيات ابن الروعة، وعمر، وعبد التواب، ويوحى الخطاب بفعل كلامى تعبيرى متضمن، يعزز فيه السارد من ذلك الانتقال إلى غرائبية الفضاء الواقعي، وأصواته، وشخصياته، أو الانتقال إلى الفضاء الأدبى الحلمى الممكن؛ والذى يقترب بالبهجة، والانبعاث، وتجاوز مآسى الحكاية الأولى؛ فقد مارس كل من كليلة ودمنة اللعب عند الشجرة العتيقة الحلمية، وتجاوزا مأساتهما فى الحكاية، وإن استمرت سماتهما الفنية فى مدلول هويتهما السردية وفق تعبير ريكور؛ فالشخصية تحمل هنا مدلول تاريخها السردي، وتمارس صيرورة أدائية أخرى مع ملتهم الورق، أو الحالم، أو القارئ، ويتضمن الخطاب فعلا كلاميا توجيهيا للمروى عليه بأن يقوم بتخييل شخصية فى كتاب ذى صلة بوعيه الخاص وفق الإعلاء من أهمية تأثير سياقى أو استدلال، أو علامة من الذاكرة وفق منظور ويلسون وسبيربر الإدراكى لمبدأ الصلة.

وأن يعيد قراءة مرجعه المكانى وفق علاقته بالشخصية؛ وقد تتحقق قوة فعل الكلام فى ذلك التواصل التداولى / الإدراكى حين تتجسد الشخصية فى بنية حضور متجددة تحمل أثر الحكاية، وقد يتحقق لازم فعل الكلام التوجيهى فى تخييل حوارية إبداعية تحمل مدلول هوية الشخصية الفنية السردية مع إمكانية تجدد الحوار الخيالى الإبداعى فى بنية الحضور، وفى المستقبل.

ومن ثم يضمر الخطاب أيضا إمكانية استبدال الحوار مع كليلة، ودمنة بحوار ممكن آخر قد يقوم به المروى عليه مع ستيفن فى عوليس لجويس، أو رودا فى الأمواج لفرجينيا وولف، أو طيف هوراشيو فى هاملت، أو طيف آرييل فى العاصفة لشكسبير، ولا يتحقق لازم فعل الكلام التوجيهى إلا باتساع الفضاء اليومى / الخيالى الممكن، والذى ينطوى على فضاء المخطوطات، أو المكتبة فى حالة حلمية فاعلة فى تمثيلات القارئ الذهنية؛ ويتضمن الخطاب أيضا تأكيد تحولات الشخصية فى الفضاء المحتمل عبر الالتهام الذى ينطوى على قوتى النقص.

والزيادة؛ فنقص التجسد الفيزيقى للورق يتضمن نوعا من الزيادة الافتراضية فى تضاعف الأماكن، والشخصيات الخيالية، ويذكرنا بمنظور فرويد لغريزتى الموت، والحياة، وعلاقتهما المتداخلة بين التفكك، والتجميع؛ وكأن تمزق الأوراق، أو اختفائها ينطوى على انبعاث خيالى أدائى للشخصية فى تكوين حكائى آخر فى بنية الحضور؛ ومن ثم قد يضمر الخطاب أيضا انحياز سارد مصطفى الحسن إلى فعل القراءة بوصفه فعلا لتشكيل الكينونة، أو بوصفه مدلولا للهوية السردية – التاريخية لمن قام باتهام الورق، أو من عاين تلك التجارب مثل المعطوب، أو الانحياز للقراءة بوصفها نوعا من التحولات السيميائية / الإدراكية / التمثيلية؛ فهى تنتج نوعا من الحوارية والتفاعل مع طيف الشخصية الفنية، والذى يؤثر فى تكوين طيف تمثيلى داخلى لدى القارئ فيما وراء رمزية فعل القراءة، وغموضه الإبداعى الإشكالى فى عبوره للزمكانية.



وأرى أن خطاب سارد مصطفى الحسن يتضمن حجتين رئيسيتين؛ الأولى هى الحجة الخبرية التى تتشكل وفق التماسك المنطقى الداخلى لرواية التهام ابن الروعة للورق؛ وينتج مثل هذا التماسك المنطقى لحكاية الالتهام فرضية أخرى تتعلق بالتمازج بين الصور، والأفكار، والأداء التمثيلي، وتكوين الورق الذى يقع بين النقص، والزيادة الفيزيقية، واللاواعية فى آن؛ ومن ثم تصير النتيجة إمكانية ولوج الذات لعالم الحكاية بوصفه عالما إدراكيا ممكنا.


أما الحجة السردية الأخرى فهى حجة استدلالية تبدأ بتأكيد الخطاب لفرضية أسبقية فعل القراءة زمنيا على فعل حكايات آكلى الورق؛ ففضاءات المخطوطات، والمكتبات، والإحالة المرجعية لحكمة كليلة، ودمنة كانت متواترة عبر التطور الزمنى لحضارات الهند، وفارس، والعرب؛ ومن ثم سيؤكد الخطاب فاعلية تلك الصور، والأفكار، والشخصيات كفرضية ثانية سوف تؤدى إلى نتيجة إمكانية حدوث تمثيلات طيفية أدائية للشخصيات فى سياق يومى / ثقافى ممكن مغاير، ومتجدد. 


ويمكننا قراءة علاقات التداخل بين الفضاءات الذهنية المتنوعة – فى خطاب سارد مصطفى الحسن – وفق علاقات التشابه الإدراكى بين الفضاءات الذهنية لدى فوكونير، والاستعارة الإدراكية لدى لاكوف، وإنتاجية فضاء المزج الإدراكى الإبداعى فى نموذج مارك تيرنر الإدراكي؛ فالخطاب يؤسس لعلاقة تشابه بين غرفة ابن الروعة التى تحوى الكتب، والمخطوطات، وفضاء حكاية كليلة ودمنة الذى يحوى ابن آوى كشخصية عاقلة لها حكمة خاصة؛ فكل من الفضاءين الذهنيين يحوى حياة أخرى للشخصية الفنية فى علاقتها بالقارئ المحتمل، أو الشخص المبدع الأكثر ميلا للفانتازيا؛ ومن ثم سوف تتشكل الاستعارة الإدراكية من مستويين للإدخال فى النموذج ؛ وهما فضاء الغرفة، وفضاء الحكاية؛ أما المحاور المشتركة بينهما فتتمثل فى حضور ابن آوى / دمنة أو كليلة العاقل، وإمكانية تجدد الأطياف عبر فعل القراءة المحتمل / الالتهام، وإمكانية وجود صيرورة للشخصية؛ ففضاء الحكاية الثانى يقبل الحوار، والإكمال، وفضاء الغرفة يقبل الاتساع الفانتازى التجريبي، وإمكانية إقامة حوار آنى مع الشخصية الفنية؛ وسوف يتشكل فضاء المزج الإدراكى الإبداعى من غرفة واسعة منفتحة فعليا على مشاهد من كليلة، ودمنة، وتتضمن تمثيلا ذهنيا فائقا لبنات آوى كشخصيات فنية متجددة بصورة مجازية آنية.


ويتضمن الخطاب تشابها آخر بين فضاء ابن الروعة الحلمى الممكن، وفضاء الحكاية الأولى لكليلة، ودمنة، وينطوى على تكرار صوتى كليلة ودمنة بين الحكاية الأولى، وتضاعفها الممكن فى عالم ابن الروعة الخيالى خارج المأساة، ومعايشة بهجة اللعب ضمن الحكاية وخارج بنيتها الأصلية.

واستشراف مصير خيالى مشترك بين ابن الروعة، وكليلة ودمنة؛ وسيصير فضاء المزج الإدراكى / الإبداعى تكوينا مركبا من عالم حكاية كليلة ودمنة الأولى بروحه الأصيلة، وأصواته القديمة نفسها، وبينما يتجسد هذا التكوين بصورة تقبل التضاعف، وإدخال شخصية من زمن آخر، وإقامة تواصل مغاير من خلال بنيتى الأصالة، والسياق الآنى المحتمل.


أما المزج الإدراكى الثالث المتضمن فى وحدة الخطاب ، فيقع بين فضاءى الغياب المحتمل، والحكاية الممتدة بين بنيتى الحضور، والمستقبل فى فضاء ممكن كونى خيالي، وتتضمن العلاقة بين الفضاءين الذهنيين، أو مستويى الإدخال تشابه مصائر الفني، والحقيقي؛ فالرواية التى تؤكد مقتل عمر، وعبد التواب، تتوافق مع مصير دمنة المأساوى فى حكاية الثور، والأسد بينما يتوافق كل من كليلة، ودمنة، وابن الروعة، وعمر، وعبد التواب فى بهجة اللعب، والحضور الخيالى الآخر، وسنجد أن اقتراب الشخصيات من الفضاء الممكن يتعلق بذاكرة المعطوب.

وميله لمعاينة المصائر الغرائبية؛ أما فضاء المزج الإدراكى فسيصير ضمن تطور حكايات الشخصيات الفنية والواقعية فيما وراء الغياب فى سياق آخر يتصل بأحلام المعطوب المحتملة بين المرئي، والممكن.


وإذا تأملنا خطاب ابن الروعة حول التهامه للورق؛ سنجد أنه يكرر بأنه لا يدرى كيفية حدوث ذلك، وارتكازه وفق نظرية الصلة طبقا لسبيربر وويلسون على أهمية تجربة معاينته الخيالية لصوت الأصفهانى ومحتوى كتابه الأغاني.

ومعرفة ما فيه كأنما كان يحدثه مباشرة؛ وكأن التجانس فى بنية خطاب ابن الروعة تكمن فى البداية فى الإحالة الخارجية إلى كتاب الأغانى للأصفهاني؛ أو استخدام التأشير الخارجى / الإكسوفورا؛ وكأنه يستدعى أثر كتاب الأغانى من فترات زمنية أسبق؛ وسيتوافق هذا الأثر مع الالتهام الاستعاري، والأداء التمثيلى لما فى الكتاب من روايات، وصور، وأفكار، وأطياف، وعودة لصوت الأصفهانى القديم المتجدد فى سياق الموقف الآني.


وإذا أعدنا قراءة المحادثة بين ابن الروعة ودمنة فى الفضاء التجريبى الممكن وفق مبدأ بول جرايس التعاوني، وأفعال الكلام وفق تصنيف سيرل، ومبدأ الصلة الإدراكى لدى سبيربر وويلسون؛ سنجد أن المحادثة تتسم بالهارموني، أو التوافق حول العبور، وإمكانية التنقل من سياق إلى سياق آخر، والانحياز لاتساع الحيوات، والفضاءات الخيالية الممكنة.

ورغم الزيادة الكمية فى خطاب دمنة؛ والتى تؤول هويته التمثيلية وتجدد حيواته فى فعل القراءة فإن الحالة الذهنية الممثلة فى معتقد ابن الروعة حول فاعلية العلامات، والأصوات الخيالية، ورغبته فى معايشة تلك الخبرة التمثيلية الأدائية قد أسهما فى جريان المحادثة بصورة توافقية رغم وفرة الأسئلة، ويتضمن خطاب دمنة حجة أهمية وجود قناة للتواصل؛ كى تتسع حيواته الكونية والفنية الأخرى، ومن ثم يؤكد صحة نتيجة وجوده ضمن عالم ممكن واقعى أو حلمي.

ومن حيث الصلة يتوسع دمنة فى فكرة التجدد؛ كأنه يمهد لحكايات أخرى مضمرة فى الخطاب أو قيد التشكل فى المستقبل، وينتظم أسلوب دمنة فى تمثيلاته الاستعارية المتعلقة بالمصائر التى تقع دائما بين الحكاية، وزمن القراءة الآني، وطابعه العالمى / الكوني؛ وقد غلبت فئة التوجيهات / الأسئلة على خطاب ابن الروعة.

وتضمن أيضا الانحياز لعالم كليلة ودمنة الخيالى المتجدد، بينما غلبت التمثيلات السردية على خطاب دمنة، وتضمن الانحياز إلى تعددية الحيوات، والفضاءات الفنية الممكنة، وتوجيه ابن الروعة بفتح قنوات لاستعادة الشخصية الفنية ضمن سياقه الإبداعى الخاص؛ والوعد بمواقف أخرى للتواصل الفانتازي؛ ومن ثم يعيدنا الخطاب إلى التساؤل حول الحكايات الأخرى الكامنة فيما وراء الغياب المحتمل الممزوج بفضاءات ممكنة وسحرية أخرى تحمل نغمات الماضى المتحولة.

اقرأ أيضا | أحمد الزناتى يكتب: مقاصد الأسفار بين تابوكى ودو بوتون وصمويل بيكيت