عاجل

«الرُّشد».. فضيلة إنسانية غائبة

علاء عابد رئيس لجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب
علاء عابد رئيس لجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب

يرتبط مفهوم «الرُّشد» ارتباطًا عضويًا بالنسيج الحضارى للإنسان، لذلك فإن المجتمع البشرى فى أمس الحاجة إليه فى عصرنا الراهن، الذى يبدو أنه فقد بوصلته، حتى راح يتخبط على غير هدىً، فى نزاعات وسجالات وحروب أرهقت الجنس البشري، وأدت به إلى الاقتراب يومًا بعد يوم من حافة الهاوية.

وما أصاب البشرية كلها اليوم من تخبط وتشتت، إنما سببه فى المقام الأول هو بُعدها عن الرُّشد، فعمت الفوضى وفشا الفساد، ولا مخرج لها مما هى فيه إلا بعودتها إلى رُشدها.

والرُّشد، اصطلاحًا، هو الرأى الصائب الموافق للحقيقة والواقع، ولذلك يُسمى الإنسان الذى تكون أغلب آرائه صائبة، «الإنسان الرشيد»، فالرُّشد هو صواب الرأي، ويقابله الغي، وهو الضلال وعدم الإصابة، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ أي: تبين الصواب من الضلال.

والإطار العام الذى يحده مفهوم «الرُّشد» لغويًا وقرآنيًا، هو حدود الهدى والحق والصواب والصلاح والنفع والعلم والبلوغ العقلى وسلامة الوجدان. وهذه العناصر لازمة لشخصية الإنسان المستخلف فى الأرض، وتعكس حالة الفطرة التى يولد عليها الإنسان.

وأولت نظريات علم النفس الحديث اهتمامًا كبيرًا بمرحلة الرُّشد فيما يتعلق بالجانب العقلى للإنسان، أى جانب نمو الإدراك والوعى البشري، والتى تعرف بأنها ذروة الإنتاج الإنساني، وتمتد من سن 21 - 40 عامًا، وتتسم هذه المرحلة بالاستقرار والاستقلالية واتخاذ القرارات المهمة فى حياة الفرد، كما أنها ترتبط بالنمو المتكامل فى الجوانب الأخلاقية والصفات الاجتماعية والعقلية والفسيولوجية. وتكوين الهوية والقيم الرئيسة لحياة الإنسان.

وتمثل مرحلة الرُّشد نقلة مهمة فى نمو الإنسان، سواء الجسمى أو الاجتماعى أو العقلي، وهذا الأخير هو أهم ما يميز مرحلة الرُّشد، وتوجد مقاييس مختلفة يقاس بها نضج الفرد وانتقاله من مرحلة الطفولة والمراهقة إلى مرحلة الرُّشد، والتى أهم ما يميزها هو النضج العقلي.

وبذلك، تتضح أوجه التلاقى بين مؤشر الجانب العقلى لمرحلة الرُّشد حسب علم النفس، والمعنى القرآنى الذى يقيم مرحلة الرُّشد حسب القدرة على التصرف فى المال، وسداد الرأى فى أمور الحياة، والتى تتطلب نمو القدرات العقلية لدى الفرد ليتحقق النضج المناسب فى السلوك القويم.

والرُّشد هو الحكمة، علمنا العهد الجديد أن أول 7 شمامسة كانوا رجالا مملوئين بروح الحكمة واستفانوس لم يستطع الشعب أن يقف أمام حكمته.

و«أَمَّا الْحِكْمَةُ النَّازِلَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَهِيَ نَقِيَّةٌ طَاهِرَةٌ، قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ. وَهِيَ أَيْضاً تَدْفَعُ صَاحِبَهَا إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالتَّرَفُّقِ. كَمَا أَنَّهَا مُطَاوِعَةٌ، مَمْلُوءَةٌ بِالرَّحْمَةِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، مُسْتَقِيمَةٌ: لَا تُمَيِّزُ وَلا تَنْحَازُ وَلا تُنَافِقُ». (رسالة يعقوب 3 :17).

وقيل «رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ. وَالعَامِلُ بِها ذُو فِطْنَةٍ شَدِيدَةٍ. تَسْبِيحُ الرَّبِّ دَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ.» (مزمور 111 :10).

كما أن «تحرى الرُّشد» مقصد نبه إليه القرآن. حيث إن العناية بالمفاهيم القرآنية عنصر محورى فى بناء الحداثة الراشدة، فمن ناحية البناء القيمى يرتبط الرُّشد بأصل الدين نفسه وطبيعة مسئولية الاختيار الإنسانى الأول لنظامه القيمي، بين الرُّشد والغي، بين الحرية والإكراه.

ويتفرع عن ذلك، مفهوم «الرُّشد الاقتصادي»، إذ إن الفرد رشيدٌ بطبعه؛ أى أنه فردٌ عقلانى يتدبر أموره، ويتصرف على نحوٍ يرضى الله.

ولا جدال أن فى تحقيق «الرُّشد الاقتصادي» حماية للمستهلك، فهو يحميه أولًا: من نفسه، فيلبى حاجاته، وحاجات من يعول من أفراد أسرته باعتدال، بعيدًا عن الإسراف أو التبذير، ويحسن التصرف فى ماله، بضبط نفقاته الاستهلاكية وفق سلَّم أولويات محدد، كما يحميه أيضًا من المنتج والتاجر: بضبط تصرفاته الاقتصادية وتوجيه سلوكه الاستهلاكى نحو الأفضل دائمًا؛ ليحصل على ما يستهلكه من سلع ومنتجات بأسعارٍ معقولة، وجودةٍ متميزة، وفى كل الأوقات، حفاظًا على سلامة بدنه، وصونا لما له من الضياع.

وبهذا المعنى، فإن «المستهلك الرشيد» هو الذى يراعى مبدأ الرُّشد والعقلانية والاعتدال فى مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه، وسائر نفقاته، حماية لنفسه ولأسرته، لتحقيق موازنة معقولة بين دخله المالى وحدود نفقاته الاستهلاكية. وهو كذلك الذى يراعى قرارات الشراء والاستهلاك، بحيث تكون فى الوقت المناسب، ومن المكان المناسب، وللحاجة المطلوبة، وبالسعر المناسب، وبالجودة المطلوبة، وبالقدر اللازم فقط.

والمستهلك الذى يراعى كل ذلك فى إنفاقه الاستهلاكى يمكن أن يحقق الرُّشد الاقتصادي، بحيث لا يقع فريسة سهلة للتلاعب والاستغلال من طرف التجار. والمستهلِك الرشيد هو الذى يحقق التوازن فى إنفاقه الاستهلاكي، بحيث لا يبذر، ولا يبخل، بل ينفق دخله المتاح من أجل تحقيق التوازن البيولوجى والحضاري، فلا يسرف أو يبذر، ولا يقتر أو يبخل، وإنما يكون وسطًا معتدلًا فى إنفاقه.

وقد دعانا الإسلام إلى ترشيد الاستهلاك، وحثنا على الاقتصاد والاعتدال فى سائر الأمور الحياتية، ولم يطلب من الإنسان إلا الموازنة بين كل الأمور التى يراها نصب عينيه، وعدم الإسراف فى المأكل والمشرب وغيره، واستخدام كل ما هو مباح له إلى حد الشبع، وليس بالقدر الذى يدفعه إلى الهلاك، فنهانا الله عن الإسراف.

أخيرًا، وليس آخرًا، فإن ترشيد استخدام الموارد المتاحة، وتجنب الإضرار بالآخرين، يتطلب ليس فقط مراعاة مصالح أبناء الجيل الراهن من الناس، بل الأجيال القادمة منهم، باعتبار أن الإنسان لمّا كان مستخلفًا فى هذه الأرض، فإنه من حقه الانتفاع بمواردها، بشرط تقيده بالاستخدام الرشيد لهذه الموارد، وعدم الإسراف والمبالغة فى تبذيرها، للحفاظ عليها من الإهدار.

وجاء فى دستور 2014 المعدل فى 2019، «المادة 32: موارد الدولة الطبيعية ملك للشعب، تلتزم الدولة بالحفاظ عليها، وحُسن استغلالها، وعدم استنزافها، ومراعاة حقوق الأجيال القادمة فيها».