ممدوح رزق يكتب: النوم بعين واحدة مفتوحة: إشارات الذات المرجأة

ممدوح رزق يكتب : النوم بعين واحدة مفتوحة:  إشارات الذات المرجأة
ممدوح رزق يكتب : النوم بعين واحدة مفتوحة: إشارات الذات المرجأة

متى تصبح حركة الجسد البشرى فى الواقع إيماءات للذات «الكونية» كلية المعرفة، التى لا يهددها الألم ولا يحكمها الفناء، والمعطلة عن التجسد؟ الكينونة «المطلقة»، المحتجزة فى صمت الغيب ومؤجلة التمثل دائمًا حيث الحياة والموت ليسا إلا دفع ثمن قهرى لانعزالها المحصّن؟ متى يصبح الوجود فى العالم خربشات متلصصة لذلك الغياب الكامن وراء العين الواحدة المفتوحة؟
«داخل بطانياتى إلى الأبد
 ومنسى. 
غرفتى رطبة وباردة، 
بأثر القمر 
وغريبة الرعشات 
تنغسل عليّ 
 تهز عظامى 
 أطرافى الرخوة 
 ترتخى 
 وأتمدد نائمًا بعين واحدة، 
 متأملًا ألا شيء، 
 لا شيء سيحدث».
الخربشات التى بقدر ما تحاول أن تكون ـ على الأقل ـ خدوشًا فعلية بقدر ما تكافح لرسم صورة دالة على تلك الذات المجهولة والمرجأة ولو ظل كل ما ينجم عن سعيها ليس سوى «شخبطة»؟.. يصبح الأمر كذلك حينما يتم اكتشافه.. فى اللحظة المتدرجة ربما التى ينتبه خلالها الوعى بشكل واضح لهذه القرينة.. اللحظة التى قد تُسمّى بكامل امتداداتها وتحولاتها وآثارها بالشعر.
«فى حقل 
 أنا الحقل الغائب 
 هكذا الحال دوما. 
 حينما أكون 
 أكون 
 ما ليس فى مكانه. 
 حينما أمشى 
 أفرّق الهواء 
 وعلى الدوام 
 يملأ الهواء 
 المساحات الشاغرة 
لمرور جسدي. 
 لكل منا أسبابه 
 ليتحرك. 
 أما أنا فأتحرك. 
 لأبقى الأشياء كاملة».
فى قصائد الشاعر الأمريكى «مارك ستراند»، الذى صدرت مختارات من شعره بعنوان «النوم بعين واحدة مفتوحة» عن منشورات المتوسط بترجمة سامر أبو هواش؛ فى هذه القصائد لا تصف الأنا نفسها وإنما تشير إلى حضورها كأثر لاختفاء جوهرها، أى أنها لا يمكنها البرهان على وجودها إلا بواسطة التأكيد على فقدان حقيقتها.

الفقدان الذى يسبق تكوّنها كأثر.. تجسد الأنا غياب أصلها من خلال التدليل على «طبيعتها المؤقتة» كسراب متأرجح داخل «طبيعة أزلية» قادرة على إثبات التجانس بين تفاصيلها المتعيّنة: «الحقل.. الهواء.. الأشياء».. الجوهر المستبعد غيبيًا إذن يخوض تلك المجابهة الهزلية مع الحضور المتناغم للواقع باستعمال الأنا المنذورة للتبدد.

الأنا الأشبه فى حركتها بتلويحة طائشة تتأمل عماءها.. استغاثة ساخرة تراوغ اليأس.. تعلن الحقيقة عن إبهامها مستخدمة جسد غريب، متنافر مع هيمنة المشاهد السادية المتجانسة.. بصمة بشرية متلاشية لا تثبت اختفاء أصلها «المطلق» وحسب وإنما تؤكد أيضًا ذلك التناغم «الكابوسي» بين أشباح الحياة الموت.. كان هذه الحركة القسرية للأنا هى ما تخلق العالم لحظة بعد أخرى.


«أفرغ نفسى من أسماء الآخرين. أفرغ جيوبى 
أفرغ حذائي، وأتركها كلها على قارعة الطريق. 
ليلًا، أعيد عقارب الساعة إلى الوراء؛ أفتح ألبوم العائلة، لأرى نفسى صبيًا. 
أى نفع يتأتى من ذلك؟ الساعات قد أدت عملها. 
ألفظ اسمي. أقول وداعًا. 
الكلمات تطارد بعضها فى الريح. 
أحب زوجتي، لكننى أخرجها من الغرفة. 
ينهض والديّ عن عرشيهما 
إلى حجرات الغيوم الحلبية. كيف لى أن أغنى؟ 
الوقت يخبرنى بماهيتي. أتغيّر وأبقى أنا. 
أفرغ نفسى من حياتي، وتبقى حياتى».
فى محاولتها للتجرد مما يُشكّل يقينًا «إنسانيًا» مخادعًا لها؛ تومئ النفس إلى احتجابها.. إلى سرها المقيّد فى عتمة أبدية خارج الزمن.. كأن كفاحها للتخلص من كل ما يكوّن ظلًا حسيًا متوهما لها هو  وسيلتها «المكرهة» لخدش العالم.. لمراقبة ما قد ينتج عن هذا السعى لـ «خربشة» ملامحها الملغزة فى الفراغ.. التجرد الذى يطارد طفولة اليقين رغبة فى استرداد اللحظات البدائية من عُمر الخداع.

رجاءً لنجاة مبكرة «إعجازية» من المشيئة التى جعلت ظلًا بشريًا متوهمًا بديلًا لـ «النفس».. الظل الذى يتقمص النفس ولا يكونها.. يساير فقط حتمية أن يكون هذه النفس بما يلائم تطوّحه العابر فى جحيم الحياة والموت.

ينتهى ذلك الكفاح للتخلص من الأقنعة المتحجرة دائمًا إلى رثاء الكينونة المحتجزة فى الغيب.. إلى الإقرار باستحالة تمثلها؛ حيث العودة إلى الطفولة لا تعنى سوى الرجوع إلى الوداع الذى يستبق كل بداية.. وداع الجسد لنفسه العالقة فى سجنها الكوني.. كل لحظة تمر فى ذلك العمر «المصطنع» هى دليل على ماهية غامضة تعيش طوال الوقت مقصية عن تبدلات اللعنة.. كأن التجرد من «الدنيا» يضاعف تجذرها فى الغياب.
«إنه المكان المنشود. الكراسى بيضاء. الطاولة تلمع. 
الجالس هناك يحدق فى المشمّع البراق. 
الريح تقلّب الهواء. مرة بعد مرة، 
وكأنها تفسح المكان. تفسحه لي، يفكر الرجل. 
لطالما أحب طقس الوداع، 
الوداع، إذ يرتب نفسه، بحيث تمكن قراءة الحزن، 
بما فى ذلك أكثر أنواعه سرية، عن بُعد. 
سرب غيوم طويل فى السماء المفتوحة 
والشمس، التى اختفت ملامحها تغرق خلفها ـ نسخة كئيبة من القصة 
التى تُروى مرة فحسب، إن كانت صحيحة، ودومًا بعد فوات الأوان. 
النادلة تجلب له الشراب. يرفع الكأس فى الضوء الباهت 
ولبرهة، تنعكس لطخة حمراء على قميصه. 
السماء، ببطء، تغرق فى العتمة، الريح تلين، المنظر يتلاشى. 
القرمزى الذى يغلّف المنظر، يبدو فى هذا المساء الوداع، 
أكثر من سبب ليكون المرء هناك، ليراه، 
وكأن ذلك فى حد ذاته نوع من السعادة، 
وكأن الواقع الصرف يكفي، 
ويمكن أن يدوم».
لا تتمعن الأنا فى اختفاء جوهرها عبر الجسد وحركته فحسب وإنما فى مشاهد «الطبيعة الأزلية» أيضًا «الريح ـ الغيوم ـ السماء ـ الشمس» ذلك لأن حقيقتها المفقودة لا تتعلق بمجرد جسد مؤقت وإنما بالحضور «الكوني» لذلك الجوهر والذى  بالضرورة ـ يكمن فى الموجودات المتجانسة «غير المتبددة».. المناظر الراسخة كأثر لسلطة الغيب التى تتجاوز حركة الأنا أو تلويحاتها واستغاثاتها المتنافرة مع التناغم الكابوسى بين أشباح الحياة والموت.

نلاحظ أن مارك ستراند يخلق هذا التلازم بين الأداءات الجسدية التى تصوّر وعى الأنا بغياب أصلها وبين الحركة «المجازية» للطبيعة والتى  لكونها كذلك ـ تتحوّل إلى أصداء عارية لهذه الأداءات، تتخطى ثبات التفاصيل المشهدية لتكشف عن اختفاء الجوهر الذى تشير إليه حركة الأنا.. فى تلك اللحظات فقط تتم إزاحة التنافر بين «الجسد» و»الطبيعة».

وتوطيده فى الوقت نفسه.. كأنه فى تلك اللحظات فقط  تعثر الأنا على ما يجعلها أكثر قربًا من حقيقتها عبر التوحد مع جحيمها.. كأنه نوع من الامتلاك الهازئ للمطلق.. الانتشاء بما أصبح تجسيدًا للأنا بوصفه أبديتها المضادة.
«سنشعر بالغرابة 
 إذ نعرف أخيرًا أنه لن يدوم إلى الأبد، ذلك الصوت المحدد الذى يقول لنا، مرة بعد مرة، 
 أن شيئًا لن يتغيّر. 
 وأن نتذكر أيضًا، 
 إذ يكون كل شيء قد انتهى حينها، 
كيف كانت الأشياء، وكيف بددنا الوقت / وكأن ليس لدينا ما نفعله. 
 حين، فى لمح البصر، يتبدّل الطقس، 
 والهواء القائم يغدو ثقيلًا، لا يُحتمل، 
 تصبح الريح بكماء تمامًا 
 وتستحيل مدننا رمادًا، 
 وأن نعرف أيضًا، ما عرفناه دومًا على وجه اليقين، 
 أنه شيء يشبه الصيف 
 وكان فى غالبه أغسطس، بيد أن الليالى كانت أدفأ 
 وبدت لمعة فى الغيوم، 
 وحتى حينئذ، 
 لأننا لن نكون قد تغيرنا كثيرًا، نتساءل 
 إلام ستؤول الأشياء، ومن سيبقى 
 ليعيد الأمر برمته، 
 ونحاول على نحو ما، 
 ومع ذلك، يبقى الجواب مستغلقًا علينا: 
أى خطأ رهيب وقع؟ 
 أو لماذا نحتضر؟».
إن الأمر يبدو فى المقابل كما لو أن ما يُشكل اليقين الإنسانى هو فقط ما يمتلك وجودًا حيث أن «النفس المحتجبة» هى الخداع.. حيث لا سر مقيّد فى العتمة الأبدية خارج الزمن.. يبدو الأمر كما لو أن وجوهنا ليست ظلالًا لملامح غائبة وإنما مجرد «أشياء» تمر وتفنى دون أوهام.

كأن العالم ليس إلا عقابًا جنونيًا على الإيمان بوجود هذه «النفس».. جزاءً بديهيًا لا يفسر حكمته على الاعتقاد بأن ثمة كينونة محتجزة فى الغيب وراء «أقنعة» الحياة والموت.. هذا ما يمكن أن تصوّره مشيئة الجحيم للوعي.. ما تعيشه ليس عُمرًا مصطنعًا وإنما بداية ونهاية لبعض الوقت فحسب.

أما اللعنة فهى الظن بأن ثمة ماهية حية متجذرة فى فراغ ما «غير دنيوي».. رتابة ثابتة للحظات لا تعنى شيئًا أكثر من حدوثها المتطاير دون إمكانية لأحد أن يتحوّل لاستثناء.. تكرار يتهكم على الاستفهامات نفسها كما لو أن هناك سببًا للحضور أو فرصة لعدم الزوال.. ذلك أرق «الأنا» المستقر بينما تجاهد لنثر خربشاتها.


«الغروب يعتم إلى مساء. رجل يسقط أعمق فأعمق فى دوامة النوم، فى انجرافه، فى امتداده، عبر ما يبدو ضبابًا، ويصل أخيرًا إلى باب مفتوح، يعبره دون أن يعرف السبب، ثم دون أن يعلم أيضًا، يدلف إلى غرفة، حيث يجلس، وينتظر شاعرًا أن الغرفة تنغلق عليه.

والعتمة تصير أكثف عتمة، عرفها فى حياته، وشيء ما يتشكل فى داخله دون أن يكون واثقًا من ماهيته، لكن سيطرته عليه تتزايد، وكأنه قصة على وشك أن تًروى، وفيها شخصيتان، المتعة والألم، ترتكبان الجريمة نفسها، جريمته هو، التى سيعترف بها مرة بعد مرة، حتى لا تعود تعنى شيئًا».


يفكر مارك ستراند فى الشعر باعتبار الغفلة هى كل ما يملك، البديل للذات المرجأة سواء كانت محتجزة حقًا أو مفترضة الوجود فحسب.. الغفلة التى لا تحدق فى «الظواهر» وإنما تجتاحها.. تخدش العتمة وتخطها فى نفس الوقت.

كأنه يبحث عن الأسباب ولكنه يقاومها فى الحقيقة.. يراوغ الإيمان بهيمنة الدوافع.. الأسباب مجرد إلهامات.. مكوّنات لعزلة متنقلة.. لجسد يفكك براهين حضوره.. الماهية إذن ليست سوى أن تكون ما حُرمت منه ولكن بطريقة مناقضة.. أن تخلق المتعة والألم ولكن كما يليق بتقويض الحكمة «المطلقة».. كجريمة «بشرية» عادلة حتى ولو لم تُخلص العالم من نفسه أو على الأقل تضع حدًا ثأريًا له.

اقرأ ايضا | عزت عمر يكتب : بار ليالينا: صراع وجودى فى الهوامش