ناصر كمال يكتب : قصص قديمة للبيع

قصص قديمة للبيع
قصص قديمة للبيع

مريرهو ذلك الواقع الذى كنت أعيشه طفلا..هؤلاء الأطفال الذين يميلون إلى الشجار دائما..ينعتوننى بأقبح الألفاظ فإذا لم أجبهم بشىء انهالوا علىَّ ضربا لذلك كنت أختبئ فى غرفتى الصغيرة.. أعيش عالمى الخاص بين صفحات الكتب وأحلام اليقظة والخيال..كانت هوايتى الوحيدة هى تدوين تلك القصص التى أنسج خيوطها فى هذا العالم على الورق وهكذا أصبحت كاتبا للقصة فى تلك السن الصغيرة..أنتجت الكثير والكثير منها حتى غدت تلالا من الورق..وجدت أنه من المناسب أن أحتفظ بما كتبته فى صندوق من الورق المقوى بجانب مكتبى..كنت القارئ الوحيد لها وكانت قراءتها تمثل لى متعة خاصة..كنت أسترجع معها كل المواقف السابقة، ولكن بإحساس مختلف، وهوأننى المتحكم فى الأحداث، وأوجهها كيفما أشاء..هكذا استمر الحال حتى غادرت منزلنا فى القرية إلى الجامعة..فتركت تلك القصص فى غرفتى، رغم أننى أعتبرها جزءا منى إن لم يكن كيانى كله، وفى أول زيارة لى إلى المنزل، هرعت إلى غرفتى لأعانق أوراقى، وقصصى التى افتقدتها كثيرا، ولكنى لم أجد شيئا..صرخت حتى سمعت القرية كلها صوت الصرخة:

 • أين صندوقى الذى بجوار المكتب؟

أجابتنى والدتى بصوت يحمل مزيجا من الخوف مما أصابنى والغضب الشديد من صراخى المبالغ فيه:

 • لقد تخلصت من كل القمامة يا بنى، واستخدمتها فى إشعال الفرن.

صمت لحظات أنظر لها بغضب، ثم سرعان ما هدأت حيث تحولت تلك النظرات إلى حب، وأنا أتذكر مقدار التضحية التى بذلتها تلك المرأة من أجل أن أكمل تعليمى فى الجامعة،وأحصل على كل ما أردته من كتب ومجلات وصحف.. كانت توفر لى القروش القليلة من أجل ذلك، ففى الحقيقة هى المالك الأصلىلتلك الأوراق؛ لذلك قلت لها وأنا أقبل رأسها:

 • أرجوك يا والدتى! اتركى أغراضى لأننى أحتفظ بها ليس من أجل الفرن بل لأنها شىء مهم يخصنى.

تأسفت؛ لأنها أغضبتنى قائلة بلهجتها القروية المحملة بعبق التاريخ، وكل حنان الأرض الممتزج بتضحية الأم:

 • يقطعنى يا ابنى.

تركتنى، فرُحت أحاول صياغة تلك القصص من جديد، لقد وجدت فيما فعلته أمى منحة قدرية لصياغة تلك القصص من جديد..كتبتها بطريقة أكثر احترافية ورممت ما بها من نقص؛ فبدت مكتملة الأركان وجيدة بشكل يؤهلها للنشر، لكنى رغم ذلك كنت أنشر كل جديد أكتبه، وأحتفظ بتلك القصص معى أينما ذهبت حتى لا يكون مصيرها كسابقتها فى جوف الفرن..لم أفكر يوما فى نشرها، كانت بالنسبة لى قطعة من نفسى، وسرا لا أبغى الكشف عنه لأحد.

مضت الآن عشرون عاما منذ أن تخرجت فى الجامعة..طبع لى خلالها أربع مجموعات قصصية، ونشرت فى معظم المجلات والصحف العربية، فغدوت معروفا لدى المثقفين والكتاب والأدباء، وكنت ضيفا على العديد من الندوات، بل وظهرت فى الكثير من البرامج الثقافية فى التلفاز، ورغم كل ذلك لم أجنِ يوما جنيها واحدا مما كتبته..كنت أعيش من راتبى البسيط كموظف فى الدولة الذى كان بالكاد يكفى احتياجاتى اليومية، وعندما أحس بعدم جدوى الكتابة فى تغيير حياتى للأفضل، وتحقيق مطالب أبنائى التى لا تتوقف؛ كنت أخرج قصصى القديمة التى كتبتها وقت الطفولة، وما زلت أحتفظ بها فى خزانتى؛ لأذكر نفسى بأن الكتابة هى من أنقذتنى فى يوم ما، وجعلتنى أستمر فى تلك الحياة البائسة، حتى جاء اليوم الذى مرضت فيه ابنتى الصغيرة والوحيدة، وهى بالنسبة لى الزهرة الجميلة فى أرض هذه الدنيا الجرداء، والأمل والدافع الذى من أجله أتمسك بالبقاء حيا حتى الآن، ولم أستطع توفير نفقات علاجها ..ظللت أبيع كل ما أملك من أجلها، فباعت والدتها ذهبها، وبعت أنا بعض الأجهزة، ولكن كل هذا لم يكن يكفى..أخبرت أصدقائى المقربين بمشكلتى فساعدنى البعض منهم على قدر استطاعته، وذات يوم فاجأنى صديق ما، وكان يعمل صحفيا قائلا:

 • أنا أعلم أنك تملك كنزا من القصص التى لم تنشر من قبل.

تعجبت مما قال، وجاوبته بسؤال آخر عن علاقة قصصى القديمة بما أنا فيه، فأخبرنى بأن أحد المؤلفين الكبار للسينما يشترى تلك القصص بمقابل مادى كبير وينسبها لنفسه..أصابتنى صدمة مما قال، ورفضت بشدة؛ كيف لى أن أبيع ما لم أستطع حتى نشره! لأنه بالنسبة لى لحم من لحمى وعظم من عظامى.. كيف أسمح لأحد مهما علا شأنه أن يسرق منى لحظات عشتها وحفظتها على الورق بعيدا عن أعين الجميع!..ظل صديقى يجادلنى، ولكنى أبيت أن أوافق، فتركنى مع حيرة وغضب..مضت الأيام ثقيلة، وأنا أرى ابنتى تبتعد كثيرا عن وعيها بتأثير المرض، وتقترب كل يوم من الموت، وأنا عاجز عن توفير نفقات المستشفى والعلاج لها..لم يكن هناك مفر من ذلك..نهضت وأخرجت بعضا من الأوراق من الخزانة.. اتصلت هاتفيا بصديقى لأخبره أننى قررت أن أبيع له قصصى القديمة.