«مويان» في محاورة مع «مارتن فالزر»: كل كاتب يصف نفسه أولًا

 مى ممدوح تكتب : مويان فى محاورة مع مارتن فالزر:  كل كاتب يصف نفسه أولًا
مى ممدوح تكتب : مويان فى محاورة مع مارتن فالزر: كل كاتب يصف نفسه أولًا

 مى ممدوح

 

مويان: آخر ما يواجهه كل كاتب حتما هو الذات، فما يطلق عليه إعادة النظر لدى الكاتب، وإعادة التقييم فى الأدب، ينعكس فى نهاية الأمر فى تحليل الكاتب لروحه

مويان: لا أكتب عن مصير الآخرين بقدر ما أكتب عن مصيري، ولا أصرخ بشان الآخرين، وبشأن المزارعين بقدر ما أصرخ لأجلى. ذلك أننى أدرك على الدوام بأعماقى أننى مزارع

الزر: أكره بالأساس أسلوب الكتابة الذى يكون واضحًا أنه رواية بينما يرتدى زى قصيدة الشعر، بينما أمكننى من خلال الترجمة أن أرى مويان يصف قوة الطبيعة


مويان: أحاول نقل تجاربى الخيالية المستقاة من مشاهدة الأفلام والقراءات المتعددة، وكذلك تجاربى الواقعيةالمحدودة لشخصى، ونقلها إلى حيز كتابة الرواية

من الصعب التمييز بين الشخصيات الايجابية والأخرى السلبية فى رواياتي، كانت رواياتنا فى الماضى ترسم الشخصيات الإيجابية خالية تمامًا من النواقص

مويان: إذا طال مسار الكاتب الإبداعي، فستنضب سريعًا تجربته الشخصية، وقصص أفراد عائلته، حينها ستستمر تجربة الكاتب 
فى التوسع

احتفل الكاتب الألمانى مارتن فالزر هذا الأسبوع بعيد ميلاده الخامس والتسعين. ويعد مارتن فالزر روائيًا وكاتبًا مسرحيًا ألمانيًا بارزًا، ولد فى فاسبروج بالقرب من بحيرة كونستانس بألمانيا، وهو أديب مخضرم، يشغل مكانة بالوسط الأدبى الألمانى تعادل ما للأديبين زيجفريد لنس، وجونتر جراس.
أشاد مويان بكتابات فالزر واصفًا إياها بأنها «ذكية ومفعمة بالفلسفة»، بينما وصفه الكاتب «لى أر» بأنه أعظم كاتب ألمانى خلف «توماس مان»، وبأنه «جوته المعاصر». واليوم سيشارك «نادى قراءة مويان» حوارًا يجمع بين السيد مويان ومارتن فالزر، عندما يتواصل كاتبان من طراز عالمى، ويصطدمان، ما نوع شرارة الحكمة التى ستتولد عن هذا اللقاء؟

مويان: يحفل رصيد مارتن فالزر بالعديد من الكتب، لكننى وللأسف لم أقرأ منها سوى ثلاثة كتب فحسب؛ وهي: «موت ناقد«، و«جواد هارب»، و«زيجات فى فيلبس بورغ» قال السيد أكرمان بضرورة أن أقرأ عمله «نبع فوار»، فاستقللت دراجتى صباح اليوم وتوجهت إلى المكتبة الضخمة بحى شيدان، وبحثت عن هذا الكتاب على الكمبيوتر، كان ثمة نسخة وحيدة، ركضت بسرعة حيث عمود الأدب الأجنبى بالطابق الرابع، لكننى وجدت أن ذلك الكتاب قد صار بالفعل بحوزة فتاة صغيرة، ومن ثم كان على أن أطالع تعريف لبعض الفصول على الإنترنت.


ثمة صعوبة فى نطق اسم «نبع فوار»، ماذا عن تسميته «نبع متدفق«؟ سأشترى هذا الكتاب حتمًا، ذلك لأن توقعاتى بالنسبة له مرتفعة للغاية. تحكى الرواية عن صبى صغير يدعى جون إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية، امتدت خبرته الحياتية لخمسة عشر عامًا. يمكننى أن أرى تجربة السيد فالزر وقد توارت خلف شخصية البطل جون.


حينما رأيت والدة جون وقد أجبرتها ضغوط الحياة على الانضمام لقوات الأمن الخاصة، اعتقدت أن والدة فالزر قد أُجبرت هى الأخرى من أجل لقمة العيش على المشاركة فى بعض أنشطة قوات الأمن.

عندما تتداخل تجربة الكاتب الشخصية مع التجربة التاريخية والاجتماعية بمقدار ما، يقودنى ذلك للتفكير فى روايتى كاتبين ألمانيين آخرين، إحداهما هى رواية «طبل الصفيح» لجونتر جراس، والأخرى هى رواية «حصة اللغة الألمانية» للكاتب زيجفريد لنس. 


أعتقد أن الأعمال الثلاثة «طبل الصفيح»، «حصة اللغة الألمانية»، و«نبع فوار» تمثل انعكاسًا لتلك الفترة التاريخية المظلمة من منظور طفل. كان لمنظور الكتابة هذا تأثير كبير على الأدب الصينى المعاصر، بل امتد تأثيره إلى العديد من الكتاب الصينين.

بما فى ذلك كتاباتى شخصيًا. تعكس أجزاء كثيرة من كتاباتى حقب تاريخية من منظور طفل. أعتقد أن عمل السيد فالزر «نبع فوار» لا يشكل تأثيرًا على الكتاب الصينين فحسب، بل يتخطاه ليثير تفكير القراء الصينين العاديين ويدفعهم للتأمل مرة أخرى.


قال السيد فالزر فى خطابه ب أكاديمية العلوم الاجتماعية قبل يومين، أن كتاباته فى النقد الاجتماعى وإن كانت موجهة لانتقاد المجتمع، فهى فى الوقت ذاته، تهدف فى المبتدألانتقاد نفسه كذلك، وهذا ينسجم تمامًا مع أفكاري.  لقد كتبت أنا الآخر روايات فى النقد الاجتماعي، مثل رواية «أغنيات الثوم» التى قرأها السيد فالزر.ولهذه الرواية نموذجها الحقيقى فى الحياة الواقعية.


فى مقاطعة بالقرب من مسقط  رأسي، وبسبب فساد الموظفين المحليين، تعذر على المزارعين بيع كميات كبيرة من الثوم، ما أدى إلى تعفنها، حاصر المزارعون الغاضبون مقر حكومة المقاطعة، وحطموا مكتب رئيسها.

وهو ما أسفر عن حدوث ضجة فى عموم الصين. بعدما طالعت هذا التقرير، توقفت على الفور عن مواصلة كتابة سلسلة روايات «الذرة الرفيعة الحمراء» وعكفت على كتابة رواية فى وقت تجاوز الثلاثين يومًا قليلًا.

ربما تشكك العديد من النقاد بشان جودة العمل بعدما سمعوا أننى قد كتبته بهذه السرعة الخاطفة، بينما كتبته بمثل هذه السرعة، نظرًا لما شعرت به من كلمات كثيرة للغاية تتدفق داخلي، ما تطلب منى كتابتها بسرعة، لأزيح عنى ما اعتمل فى نفسى من ضيق. وأثناء الكتابة وجدت أننى قد نقلت القصة حيث بيئتى المألوفة. فهناك القرية الصغيرة التى عشت بها، والأقارب الذين عايشتهم. وفى النهاية ولجت عالم هذه الرواية بنفسي.


لا أكتب عن مصير الآخرين بقدر ما أكتب عن مصيري، ولا أصرخ بشان الآخرين، وبشأن المزارعين بقدر ما أصرخ لأجلي. ذلك أننى أدرك على الدوام بأعماقى أننى مزارع.

وهذا ليس نفاقًا أو اصطناعًا، فأنا أعلم أننى لست إلا واحدًامن العوام العاديين. مزارع يقطن المدينة. يكمن الفرق بين رواياتى والأعمال الأدبية الصينية فى الماضى فى كتابتى للأشخاص الطيبين كأشخاص أشرار.

وكذلك كتابة الأشرار من زاوية كونهم أناسًا طيبين. صيغت شخصيات الطيبين فى الأدب الصينى خلال ردح من الدهر فى صورة ملائكية؛ تتسم بكمال يخلو من النقائص، فليس ثمة عيب على الإطلاق.

وكذلك رسمت شخصيات الأشرار بلا ميزة واحدة. بينما أعتقد أن الجميع بشر فى النهاية، لذا، حاولت أن أقف على ارتفاع يجاوزنى المصالح الطبقية، لأكتب الجميع باعتبارهم بشر. وفى خطوة تالية، أكتب نفسى باعتبارى آثمًا.


آخر ما يواجهه كل كاتب حتما هو الذات، فما يطلق عليه إعادة النظر لدى الكاتب، وإعادة التقييم فى الأدب، ينعكس فى نهاية الأمر فى تحليل الكاتب لروحه. فلو أمكن الكاتب تشريح الشر فى روحه، فسوف تتغير نظرته للمجتمع وللآخرين بشكل جذري.

وكذلك يمكنه تحقيق النقطة الأخرى التى ذكرها السيد فالزر فى خطابه: ينبغى للكاتب أن يحب شخصيات رواياته، حتى تلك الشخصيات التى لا يحبها القراء. يجب علينا معشر الكتاب أن نكن لهم الحب أيضًا، فلا يمكننا التعامل مع الشخصية التى يمقتها القراء من منظور أنها سيئة، ومن ثم نشوهها بلا أدنى رحمة، بل يتعين علينا أن نكتب عنها باعتبارها بشر.


فالزر: عندما يسافر المرء فى لغة أخرى، كمؤلف، أحتاج إلى الاعتماد كليا على المترجم. هذا الشعور بالاتكالية يكون قوى للغاية بحيث لا يمكن مقارنته بما عداه، إنه يفوق شعور المرأة فى اعتمادها على الرجل. فهو يتخطى كل شعور بالاتكالية دونه.


إنه لشرف عظيم أن ألتقى بك مويان، وأن أحصل على نسختين من أعمالك باللغة الألمانية. حتى أننى قد تجاهلت العديد من الفاعليات لأتمكن من قراءة رواياتك.

لقد قرأت «الذرة الرفيعة الحمراء»، انتقيت عددًا كبيرًا من الاقتباسات من هذا الكتاب، لأكتشف لاحقًا أننى بحاجة لاستخراج الكتاب بأكمله تقريبًا، ومن ثم توقفت عن الاقتباس.


لم أكن أعلم أن اللغة الصينية يمكنها أن تصف مثل هذه الصورة، «ثمة نسائم تهب من ثنايا الأرض الزرقاء الأرجوانية، ومن أعلى صفحة النهر» فى  وجود لون يتسم بذوق خاص، يصعب الوصول لقمة الوصف فى لغة قوية ومعبرة كهذه، «يرتفع القمر فى كبد السماء»، أكره بالأساس أسلوب الكتابة الذى يكون واضحًا أنه رواية بينما يرتدى زى قصيدة الشعر، بينما أمكننى من خلال الترجمة أن أرى مويان يصف قوة الطبيعة.


عندما قرأت هذه الفقرة، تولدت لدى فجأة مشاعر الغيرة، ففى هذا العمل الذى يتناول حقبة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم، أمكن الكاتب الاحتفاء بالتاريخ وكذلك امتداحه وانتقاده باستخدام مثل هذه اللغة، دون أن يحدث ذلك شكلًا من أشكال الانفصال عن التاريخ.


يختلف الأمر عن الطريقة التى نتعامل بها مع التاريخ الألماني. طوال فترة حرب المقاومة ضد اليابان، كانت شخصيات الروايات جميعها بمثابة دليل، بينما لم تكن شاهدًا بسيطًا على حرب المقاومة. ففى ذات الوقت الذى تمارس فيه هذه المقاومة، كان الصينيون يخوضون صراعُا وحشيًا فيما بينهم. اندهشت بشدة من قدرة الرواية على إنتاج مثل هذا السرد البديع من خلال حبكة كهذه.


الحرب ليست الغرض من الكتابة
مويان: ثمة مقولة فى الصين مفادها: «العجول حديثة الولادة لا تخشى النمور» أعتقد أننى كنت على هذه الحالة، وأنا بصدد كتابة «الذرة الرفيعة الحمراء»، كان ذلك فى العام 1985.

وقد كان الأدب العسكرى الصينى لا يزال خاضعًا للكثير من القواعد واللوائح. رغبت فى كتابة حربا من مخيلتى تختلف عما يكتبه الآخرون.


لقد ولدت فى عام 1955، وبالطبع، يحتاج شخص لم يخبر الحرب على الإطلاق، بينما يرغب فى كتابة رواية تدور فى سياق الحرب، أن يشحذ خياله. اعترض الكثير من كتاب الجيل الأكبر سنًا على أفكاري.قالوا لقد قابلنا العدو بأسلحة حقيقية تحت وابل من الرصاص.

وأنتم أيها الأطفال كيف يتسنى لكم كتابة روايات عن الحرب، دحضت قولهم؛ بأنه على الرغم من أننى لم أقتل إنسانًا بيدي، إلا أننى بالتأكيد قد قتلت الدجاج عدة مرات، وسوف أستعين بخبرتى هذه وانتقل منها لوصف قتل الأشخاص.


أحاول نقل تجاربى الخيالية المستقاة من مشاهدة الأفلام والقراءات المتعددة، وكذلك تجاربى الواقعيةالمحدودة لشخصي، ونقلها إلى حيز كتابة الرواية. وبناءً على ما أثبته الواقع لاحقًا، لم يشكك أحد ،

أو يقل أن الحرب التى كتبتها كانت مغايرة، ولم يقل أحد أن ما نسجته من مشاهد عن أناس يقتلون  بعضهم البعض بوحشية لم تكن واقعية، بل ثمة من خال مويان كاتبًا عجوزًا، قد عايش بنفسه هذه المشاهد.  لدى رأى أخر، يتمثل فى أن الحرب لم تكن بالأساس هدف الكتابة، بل يجب على الكاتب أن يصف شخصياته بشتى الطرق المتاحة.


ربما تكون فكرتى أكثر تحفظًا وتقليدية، بينما يجب أن يكون معيار جودة الرواية متمثلًا فى رسم صور لا تُنسى للشخصيات. لم تبرز مثل هذه الصور فى روايات الماضى قط، يمكن أن ترى العديد من الشخصيات المتماثلة فى الحياة، ولو أمكنك أن ترى روايتك فى هذه الشخصيات، فتلك هى الرواية الجيدة . وبطبيعة الحال يتطلب الأمر كذلك توفر اللغة والبنية الجيدتين.


يمكن أن نأخذ رواية السيد فالزر «جواد هارب» كمثال، بعدما انتهيت من القراءة، كنت قد نسيت الحوارات التى دارت بين الشخصيات، بينما لم تغب عن ذهنى الشخصيات الأربعة، التقى اثنان من زملاء الصف القدامى بصحبة زوجتيهما.

كان أحدهما متفوقًا بالصف، لكن صارت حياته فوضوية وعلى غير ما يرام، أما الآخر والذى كان مشاغبًا مثيرًا للمتاعب آنذاك، فقد غدا ناجحًا وثريًا، غالبا ما يحدث مثل هذا الوضع فى واقع الصين.

وفى النهاية شهدت حياة الأزواج الأربعة الكثير من الصراعات النفسية الدقيقة، بدت حياة كل زوج متناغمة ظاهريًا، بينما غط داخلها فى صراعات حادة، ومر بمنعطفات شديدة، وفى نهاية المطاف عادت الحياة سيرتها الأولى.


كان من الصعب أن أنسى صورة هذين الزميلين، فقد جعلانى أتواصل مع العديد من زملاء الصف آنذاك، كان ثمة شعور رقيق يغمر قلبي، فى مرات كثيرة ألتقى فيها بزملائي. يكمن الغرض من الكتابة فى سياق الحرب، فى رغبتنا استخدامها كمختبر، يكون بمثابة موقعًا نجرى به التجارب العلمية، حيث نضع الناس فى بيئة خاصة نختبر فيها أرواحهم.


فى أوقات السلم، يمكن للطبيعة البشرية أن تتطور فى مسارها الطبيعي، دون أن يظهر جانب الشر فى الناس، بينما فى البيئة الخاصة بالحرب، ينكشف الخير والشر الكامن فى نفوس الجميع، تعد الحرب بالفعل ظاهرة فريدة من نوعها، وغير معقولة كذلك فى مسيرة التاريخ البشري.


أردت استبعاد مفاهيم الطبقية، والعدالة، والظلم فى الحرب، فالحرب تعنى الرغبة فى القتل،وكلما ازدادت أعداد القتلى، كلما زادت البطولة، وبشكل عام، يعد هذا النوع من السلوك المشجع على القتل أمرًا منافيًا للعقل، لكن فى مراحل تاريخية معينة، يكون لدينا حروب عادلة، وأخرى ظالمة، وطبقات متقدمة وأخرى متخلفة، أعتقد أن التصنيف هكذا فوضوى للغاية. عندما كنت بصدد كتابة هذه الرواية، استبعدت الوصف المحدد للحرب، وجردتها لتصبح بمثابة تجربة، تكشف مواطن الخير والشر لدى البشر.


فالزر: لدينا  أيضًا دجاج، بينما لم أقتل دجاجة بنفسى قط، ثمة أشخاص أكبر سنًا يقومون بذلك. نلمس مثل هذه المشكلة عند قراءة كتب مويان، ذلك لأنه يصف العنف والقسوة. أعتقد أن ذلك ينطوى على نوع من التكامل.


بادئ الأمر، يكون مفهوم الخير والشر واضح للغاية فى شخصيات الرواية، لكنه يتجاوز هذا النوع من الخير والشر، يمكنه دائما الاستفادة من الوقوف بالموضع الصحيح، إذا كنت بالموضع الصحيح، فلا سبيل أمامى لوصف الآخرين، أليس كذلك؟
على سبيل المثال، عند ما يصفها كاتب يابانى من منظور آخر، فسوف يصف وجوب التوبة عنها ومشاعر الحزن جراءها، يمكن للجميع إبداء مشاعر القسوة كما يتراءى لهم، فأى شيء قابل للحدوث، دائما ما يقول اليابانيون أن عليهم التوبة عن الحرب بأكملها.

فلا يمكن لكاتب يابانى على الإطلاق تبنى وجهة نظر كاتب صينى فى الكتابة، يتعلق الأمر بوجهة النظر. فالقسوة العادية التى تتبدى جميلة وشاعرية، تحدث  من أجل الخير، لكنها تكتب فى الروايات الألمانية بغية وصف الشر، ومن ثم، تُوصف من زاوية مختلفة تمامًا.


على الرغم من أننى قد عايشت سنوات الحرب، إلا أننى لم أكن بحاجة قط لكتابة رواية عن الحرب، وبطبيعة الحال، تنتمى رواية «نبع فوار» إلى هذه الفئة، فقد ضغطت الشخصية المحورية قدر الإمكان، فكتبت عنه باعتباره كاثوليكيًا، التحق بالجيش، واستخدمت بعض الكلمات المموهة فى الحديث، ومن ثم، يمكن الحديث بهذا الشأن انطلاقًا من منظور هذه اللغات.


لم أرغب فى الكتابة عن حربنا، وثمة من انتقدنى لأننى لم أُعِد تقييمها. يوجد مثل هذا التعبير، الرواية المعادية للفاشية. لم أفكر مطلقًا فى كتابة الرواية الفاشية أوتلك المعادية للفاشية، كما لا أرغب فى استخدام هذه الصفة لوصف التاريخ، لم يواجه مويان مثل هذه المعضلة باعتباره كاتبًا صينيًا.ستفشل حتمًا .


الكتابة على طريقة كافكا
مويان: تماست رواياتى اللاحقة مع الحرب بين حزب الكومينتانغ والحزب الشيوعى الصيني، والتى سببها الإصلاح الزراعي، يعود بنا ذلك إلى المرحلتين اللتين تحدثت عنهما للتو، كان لزامًا على أن أتخذ موقفًا متساميًا عن كلا الفريقين عند تأليف هذه الكتب، فلم أكتب الروايات لتمجيد الحزب الشيوعي.

ولا لانتقاد حزب الكومينتانغ، ككاتب يجب أن أقف على المنظور الإنساني، لأصف الشخوص المنتمين لكلا الحزبين وأبحث فى دواخلهم باعتبارهم أناسي، فلا تزال الحرب بين الحزبين فى نهاية كل شيء قتالًا طرفاه أبناء الفلاحين.


على سبيل المثال، انضم الابن الأكبر لأسرة الجيران إلى صفوف حزب الكومينتانغ، وانضم الأصغر إلى الحزب الشيوعى الصيني. أعتقد أن حربًا كهذه بمثابة مأساة كبرى، فمن تدمرهم رحى الحرب هم أبناء الفلاحين، وما يتدمر من ثروة هى ملك للوطن، فى اعتقادي، ينبغى أن تكون هناك طريقة أكثر ذكاءً لحل المشكلة.


من الصعب التمييز بين الشخصيات الايجابية والأخرى السلبية فى رواياتي، كانت رواياتنا فى الماضى ترسم الشخصيات الإيجابية خالية تمامًا من النواقص، لم يكن الأمر قاصرًا على صوابية أفكارها فحسب، بل تخطاه لملاحة الوجه الذى تزينه العيون الواسعة والحواجب الكثيفة.

والبنية القوية،بينما انحصر رسم الشخصيات السلبية على وصمها بدناءة الأفكار، وانحطاط الأخلاق، إضافة إلى قبح  المظهر الشديد، كأن تتسم بالعوار، ووجود البثور بالوجه، وفقد الأذن أو تشوهها، حيث يستشرى القبح فى الداخل ويفيض للخارج.

تصف رواياتى شخوصها جميعًا بأنهم بشر، فهذه الشخصية تنتمى لحزب الكومينتانغ، غير أنها تتسم بالبطولة الشديدة، كما لا تخلو الشخصيات المنتمية للحزب الشيوعى أيضًا من الأمور السلبية، وهكذا يتوافق الوصف بشكل أكبر مع الواقع التاريخي.

وحقيقة الحياة. فسير حياة الشخصيات التاريخية التى تتناقلها ألسنة الأجداد كانت على هذه الشاكلة. يعد أدب الماضى نتاجًا لأسباب تاريخية، أبرز الشكل الذى كتب به هذا النوع من الروايات خلال حقبتى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى أن ثمة تغيرًا هائلًا قد طرأ على المجتمع الصيني.


كان من المستحيل نشر رواياتى قبل ثلاثين أو أربعين عامًا، وبالنسبة للعلاقة بين الإبداع الأدبى وتطور المجتمع التاريخى بأكمله، ثمة عوامل شاملة تحدد شكل النوع الأدبى الذى يظهر خلال فترة زمنية محددة، حتى لو خطرت لى أفكار كهذه، ولو كتبت رواية وفقًا لها فى ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي، لأُلقى القبض علي، وزُج بى فى غياهب السجن قبل أن انتهى منه كتابتها.


فالزر: بالحديث عن العلاقة بين الكاتب والمجتمع، وكيفية إقامة صلة مع التاريخ ، أعتقد أن هناك شيئًا واحدًا مهمًا فى ظل أهم الظروف، وهو ما يؤكد أيضًا على أن كل كاتب يصور نفسه أولاً.

حيث يبحث عن نوع من التصوير الذاتي، بالنسبة لي، لم تتوفر لدى النية لفعل ذلك فى هذا الوقت، يمكننا القول على سبيل المثال، أن كتابة مثل هذه الرواية، تهدف للحكم على التاريخ بشكل صحيح، أو كيفية وصفه بشكل أكثر استقلالية، لكن وباعتبار الكاتب مشاركًا فى العصر، فهو يصوره بشكل طبيعي، ليكتب بتطرف هذا الشكل أو ذاك.


تمامًا مثلما قال مويان باستحالة النشر فى الصين قبل ثلاثين أو أربعين عامًا، عندما بدأت الكتابة فى ألمانيا، درست أدب كافكا بالجامعة لمدة خمس سنوات، وكتبت أطروحة الدكتوراه عن كافكا.

وجدت أن محاولة الإبقاء على هذا النوع من القراءة المجازية قد فشل فى سائر أوروبا، وانعدم بريقه، وباتت الضرورة تستدعى الكتابة الواقعية، فقد صار من غير المجدى الكتابة بشكل مجازى مثل كافكا، ذلك حتمًا مآله الفشل.


مسقط الرأس مفهوم واسع
مويان: لقد قلت قولًا فحواه: مسقط  الرأس لدينا اليوم لم يعد هو مسقط الرأس بالسابق. لذا فالأدب الذى يعكس الثقافة المحلية اليوم يختلف عن نظيره فى الماضى أيضًا. ناقش المثقفون والكُتاب مرارًا خلال العقد السابق مشكلة التكامل الاقتصادى العالمي.

وقد خشى الكثيرون مما قد يؤدى إليه التكامل الاقتصادى العالمى بالضرورة من تقارب الثقافات، وما قد يسببه فى النهاية من تلاشى التمايز بين البشر فى شتى بقاع الأرض، ومن ثم، تشابههم فى المظهر، واندثار اللغات.

وبقاءعدة لغات رئيسية فحسب، وكذلك اتحاد العادات والتقاليد الخاصة بكل مكان تدريجيا. ذلك أمر مبالغ فيه بعض الشيء، على الأقل لم نرَ حتى الآن مثل هذه الظاهرة المروعة، إضافة إلى ذلك فقد شددت الحكومة الصينية على حماية الثقافة المحلية وخصائصها، وأعادت ترميم الكثير من الأماكن العتيقة، لاستعادة الفنون الشعبية.


دائمًا ما تصف رواياتى مكانًا يدعى بلدة شمال شرق قاومي، لهذا المكان وجود جغرافى  بالفعل، مسقط رأسى هو الجزء بشمال شرق قاومي، عادة ما يطلق عليه بلدة الشمال الشرقي، كتبت بكثير من أعمالى المبكرة عن التجارب الشخصية وخبرات أفراد العائلة وحيواتهم بهذا المكان.


لكن إذا طال مسار الكاتب الإبداعي، فستنضب سريعًا تجربته الشخصية، وقصص أفراد عائلته، حينها ستستمر تجربة الكاتب فى التوسع، فتتحول قصص الآخرين لتغدو قصصه. وبالطبع يمكنه أيضًا التعبير عن قصصه الخاصة بعدما يُلبسها أثواب شخصياته.


اتسع حيز مسقط الرأس، فبلدة شمال شرق قاومى ليست مفهومًا منغلقًا، بل مفهوم منفتح، يمكن نقل القصص التى تحدث بأى مكان فى العالم إليها، كتلك التى تدور فى ألمانيا واليابان.

لقد استخدمت مخيلتى فى تحويلها لتصير قصص شخصية أو تخص أفراد العائلة أو تنتمى لشخصيات رواياتي، يمكن للكاتب أن يواصل إبداعه طالما أمكنه استيعاب هذه الوسائل.

فالإبداع استنادًا على الكتابة عن قرية صغيرة فحسب، سينضب منبعه لا محالة. لقد طالعت أيضًا مآخذ بعض النقاد، متسائلين عن السبب فى مداومتى الكتابة عن بلدة شمال شرق قاومي.

وقد عشت ببكين ما يربو عن عشرين عامًا؛لماذا لم أكتب عن بكين، عن شارع من شوارعها، وعن مطعم من مطاعمها، بالطبع لهذا النقد ما يبرره، فالخبرات الشخصية محدودة فى نهاية الأمر.


بلا شك، بكين مألوفة للغاية، أجوبها بالدراجة ذهابًا وإيابًا، بينما أشعر أنها ليست هذا المكان الحميم حالما أمسكت بالقلم وشرعت أكتب رواية، لا تحمل صدى عاطفى يتردد داخلي، أحلم، فيدور حلمى هناك، حيث القرية التى عشت بها، بنهرها، وحقولها، وأشجارها وأعشاش عقيقها، ذلك وثيق الصلة بي.

يمكننى أن أنقل الأشياء من بكين إلى بلدة شمال شرق قاومي، أكتب فى الرواية الكثير من المطاعم، والشوارع، والتى لا وجود لها بمسقط رأسي، لقد نقلت بالفعل تجربة عيشى فى بكين لأكثر من عشرين سنة بانطباعاتها إلى بلدة الشمال الشرقي.


فالزر: لا أفكر فى دحض قولك، وليس ثمة طريقة لدحض ذلك، أتفق معك تمامًا.
بالإضافة إلى ذلك، أود التحدث عن مشكلة اللغة، ليست اللغة فحسب هى ذلك الشيء الذى نملكه، بل هى كذلك شيء يحيط بنا، فنحن منغمسون فى اللغة، ومن خلالها نقيم روابط مع الآخرين والعالم.

ما عساها تكون اللغة تحديدًا؟ إنها حفل زفاف يستمر للأبد برفقة الموت ، لذا فاللغة فى حد ذاتها تمثل إشكالية. باعتبارى كاتب، فإن لغتى الأجنبية الأولى هى لغتى الأم.


أجد أحيانًا فى الرواية، أن ثمة شخصية تكذب على أخرى، فأشعر فجأة بضرورة أن نتعامل مع الشخصية من خلال أكاذيبها،  فلا يوجد كذب على الإطلاق. طالما أن هذه الشخصية تفعل ما يتوافق وطبيعتها.

وتنطلق من منظورها، حتى ولو كانت تكذب فى الموقف وقتذاك، يمكن القول أن ذلك لا يعد كذبًا بالنسبة لها، لذا فليس ثمة كذب فى اللغة.القول بكم أن الكذب غير أخلاقي؛ قد يكونهو أرخص حكم أخلاقي.

لقد وجدت أن الأشخاص فى المناصب الدنيا دائما ما يكذبون على من هم أعلى منهم مكانة، لأن من هم بالمناصب العليا يمكنهم افتراض الصدق، والإخلاص والحقيقة.


أدركت تدريجيًا، أن المشكلة القائمة من وجهة نظري، ما هى إلا مشكلة لغوية محضة. نحن مطالبون بقول الحقيقة فى كل مكان، بينما يمكن للكتاب أن يشعروا بمزيد من الحساسية فى هذا الصدد.

ومن ثم، ينتجون لغة لا تخلو من فطنة، فيتجاوزن ذلك،  بوصف الكذب معتبرين إياه هدفًا للحقيقة،  دون إصدار أى أحكام أخلاقية، لقد توصلت إلى استنتاج مفاده : ليس ثمة كذب على الإطلاق، وما أقوله هو عين الحقيقة.

اقرأ ايضا | فرع الأكاديمية العربية بالعلمين الجديدة يستضيف اجتماعات لجنة المنظمات للتنسيق والمتابعة