محمد النعاس يكتب : «الخال ميلاد» ليست عملى المفضل

 محمد النعاس يكتب : «الخال ميلاد»  ليست عملى المفضل
محمد النعاس يكتب : «الخال ميلاد» ليست عملى المفضل

العزلة قدر الكاتب
الحرية جوهر الكتابة عندى
معركة الأدب الليبى مع المجتمع نفسه

ليبيا فى حاجة للفرح وأن يقرأ العالم أدبها


الكتابة لأسباب مادية خيانة للكتابة كحرفة

يهمنى القارئ الذى يأتى إلىّ بمتعة الاستكشاف

لا أؤمنبـ «الشلة»، والداعم الوحيد للكاتب هو الكتاب

لقائى بالكونى ضمن أفضل اللحظات التى حدثت لى فى حياتى

فخور بدخول ليبيا لقائمة جائزة البوكر

شلتى مهندسون ينادوننى: « يا كاتب»

تخليت عن ثلاثة أعمال وغير مستعد لنشرها فى الوقت الحالى

لا أظن أن حصولى على البوكر سيسبب لى ضغطًا خلال الفترة المقبلة

 جورج أورويل مثلى الأعلى ونجيب محفوظ فتح عيونى للبحث عن الحكايات داخل المدن

لم يعرف محمد النعاس طريق الكتابة مبكرًا، وإنما خلال فترة متأخرة نسبيًا من حياته، وقد ترك كل شىء من أجل أن يكتب، حاول من خلالها فهم ذاته، وفهم المجتمع الذى عاش داخله؛ وقرر ترك الهندسة كى يتفرغ للكتابة «كان الأمر بالنسبة إلىّ بمثابة مقامرة».
يرى أن الأدب داخل ليبيا يعيش حاليًا معركة مليئة بالخسائر، والكاتب الليبى هو أول الخاسرين، ليس بسبب الكتابة وإنما بسبب «سلطة السوشيال ميديا»، التي كان من المفترض أن تُستخدم فى الخير «لكنها استخدمت فى قمع الكاتب الليبى بصفة خاصة».
جدل كبير أثارته رواية النعاس «خبز على طاولة الخال ميلاد» داخل ليبيا وخارجها، قبل وبعد إعلان فوزه بجائزة البوكر العربية فى دورتها الأخيرة. حاول البعض التقليل من الرواية وكاتبها وحاول آخرون وصمها بأشكال متعددة، وقرر النعاس ألا يدافع عن نفسه وألا يشتبك مع تلك النقاشات، لكنه يبوح هنا بما بداخله ورؤيته لما جرى خلال تلك الفترة العصيبة التى عاشها، والتى انحاز فيها للصمت والوحدة.
التقينا بمحمد النعاس فى القاهرة، فكان هذا الحوار.

كيف استقبلت نبأ فوزك بالجائزة هل كنت تتوقع الفوز؟

أن تفوز بما يعتبره الناس أكبر جائزة عربية فى الرواية فهذا شىء أسعدنى كثيرًا، لكن فى نفس الوقت عندما تم الإعلان عن نبأ فوزى بالجائزة لم يكن لدىّ الوقت لأشارك الناس فرحتى، فالإحساس الوحيد الذى طغى علىّ لفترة .

رغم أنى أرفض تصنيف الأدب إقليميًا – هو الفخر بدخول اسم ليبيا لقائمة جائزة البوكر، وهذا ليس تعصبًا لليبيا، لكن ليبيا فى حاجة للفرح، وأن يقرأ العالم أدبها، ويسمع قصص هذا الشعب، لأن هناك حالة تنميط دائمة نحو الإنسان الليبى.

والعالم أيضًا يرى ليبيا بصورة واحدة، باعتبارها «ديكتاتورية شاملة»، أو ينظر إليها من منظور الحرب الأهلية؛ لذلك فوز الرواية ربما يعطى صورة أخرى عن الإنسان الليبى والعربى.

ومن هنا كانت نقطة الفخر، أما بالنسبة لمشاعر الفرح الأخرى وقت الإعلان عن الفوز فلم تأتنى الفرصة نظرًا لوجود ظروف خارجة عن إرادتى، مثل «الشوشرة» التى حدثت حول الرواية نفسها، وهذه الأمور جعلتنى أحس بمشاعر متضاربة.


أما توقعات الفوز بالجائزة، فقد اعتبرت أن الرواية ما دامت قد وصلت للقائمة الطويلة من الجائزة، فالأمر أصبح إحصائيا ليس أكثر، لأن الرواية أصبحت تنافس 16 رواية فقط، واحتمالية الفوز زادت عندما وصلت الرواية للقائمة القصيرة.

وأنا توقعت الفوز بالجائزة، وأعتقد أن جميع المشاركين توقعوا فوزهم أيضًا، لأنى لا أحب أن يحمل الإنسان داخله تواضعاً كاذباً، فالفوز بجائزة الرواية العربية أمر يدعو للفخر.

كيف جاءتك فكرة الرواية، ومتى بدأت التفكير فى شخصية ميلاد؟

جاءتنى فكرة الرواية فجأة، بدون تجهيز، تحديدًا خلال منتصف عام 2018، وقد أخذت أفكر فى الأمر لمدة شهرين، وأحسست فى البداية أن هناك خطأ ما، فشخصية ميلاد شعرت أنها ليست على توافق مع الكاتب وأنها تطلب منى المزيد.

وأنا بدورى خلال تلك الفترة كنت شخصا كسولا، وظلت فكرة الرواية تطاردنى لمدة عام ونصف، حتى موعد كتابتها فى نهاية الأمر، وأعتقد أنى لم آخذ الأمر فى البداية بشكل جدى، نظرًا لوجود ظروف كثيرة، فقد تركت عملى فى إحدى المنصات الإعلامية الليبية.

وتوقفت عن الكتابة فيها لأنى شعرت أن طريقة الكتابة داخلها لا تناسبنى؛ ومن هنا لعب الحظ دوره أثناء عملية الكتابة، وخلال هذا الشهر الذى توقفت فيه عن العمل، جاءت الجائحة وصار الإغلاق الكامل، ووجدت نفسى بدون عمل وأصبح يومى فارغاً لا أجد ما أقوم به؛ لذلك بدأت فى عملية الكتابة.


أما بخصوص المدة التى استغرقتها فى كتابة الرواية، وبعيدًا عن المحاولات الفاشلة لكتابتها، فقد استغرقت الكتابة نحو 6 أشهر، من مارس 2020 حتى شهر سبتمبر، وخلال تلك الفترة كان الوقت بأكمله لصالحى، خاصةً مع ظروف كورونا كما ذكرت، لذلك كنت أنام نحو 8 ساعات يوميًا، وأستكمل الكتابة باقى اليوم.

وكانت تلك المرحلة هى الكتابة الأولية للرواية، لكن بعد ذلك جرت مراجعة الرواية من جانبى وتحريرها، يمكن أن نقول إن عملية كتابة الرواية بشكل كامل استغرقت حوالى عام.

الخبز كان محورًا رئيسًيا داخل الرواية، ربما كان هو بطل الرواية بعد ميلاد، فقد استطاع ميلاد نفسه أن يتخلص من علاقته بزينب لكنه لم يكن قادرًا على أن يتخلص من علاقته بالخبز.. لماذا أبرزت الخبز بهذه الصورة، وهل كان من الممكن أن يتخلص منه ميلاد أيضًا باعتباره ربما جزءاً من تعاسته؟

الخبز بالنسبة إلىّ هو بطل الرواية، لأنه هو المتحكم فى ميلاد نفسه وفى مشاعره، عندما وصف ميلاد الخبز، قال إن الخبز الذى يصنعه يتأثر بمشاعره، وعاش أسوأ حالاته النفسية عندما ابتعد عنه، وتحديدًا خلال فترة المعسكر والفترة التى تلته، والخبز بالنسبة إليّ هو رمز لعملية الإبداع.

ورغم أننى لا أحب تقديم تفسيرات وتحليلات للنص، لكن ربما الخبز هو جزء من اللاوعى للكاتب نفسه، فالخبز يعطى رمزاً للكتابة نفسها، لأنى شخصيًا أصبح إنساناً آخر متوحشاً عندما أبتعد عن الكتابة.

وكذلك ميلاد عندما ابتعد عن الخبز تأثر هو الآخر بشكل كبير؛ ويمكن لهذا السبب وضعت الخبز بهذه الطريقة لأنه من الممكن أن يكون قد تحكم فى حياة ميلاد نفسه.


والسبب الثانى أننى أعتبر الخبز شخصية أهم من زينب داخل العمل، لأن الرواية -من وجهة نظرى- انتهت بطريقة سعيدة بالنسبة لميلاد، فآخر مشهد أنه كان يصنع الخبز لضيفه، إذ رجع لعلاقاته الطبيعية مع الخبز بعد المغامرة العاطفية التى خاضها مع زينب، فالخبز بشكل عام كان ينبغى أن يكون هو البطل الرئيسى فى الرواية.

لأن ميلاد من خلاله استطاع أن يتوحد مع نفسه وبدونه أصبح إنساناً تائهاً، وأظن أنه وجد هذا الاتحاد وفضّل أن يكون مع خبزه فى نهاية الأمر.

لكن ميلاد لم يكن له أى موقف من الحياة، ولم يأخذ أى ردة فعل تجاه حياته أو المحيطين به!

حبكة الرواية بُنيت على أن ميلاد «ضعيف الشخصية» رغم تحفظى على هذه الكلمة، فهو شخص تنقصه ملكات كثيرة، بل بالعكس ربما يكون قد تخلى عن هذه الملكات وفضل أن يتعامل ببراءته مع الجميع.

والتى قد تصل به لمرحلة السذاجة، فهو لم يأخذ موقفاً من الحياة، وأحب الهروب من المشاكل؛ خاصةً مشاكله مع زينب؛ لذلك الموضوع راجع بشكل أساسى لطبيعة الشخصية، التى ربما أكون فرضتها عليه، فهو برىء حتى يكتشف أنه ليس كذلك، وقد يكون الأمر مجرد لعبة سردية حتى يتعاطف معه القارئ طوال النص، ويستفيق على ما فعله ميلاد فى نهاية الرواية.

ميلاد هو الصوت الأوحد، لماذا لم نسمع صوت زينب، أعتقد أننا كنا نحتاج مبررًا لأفعالها، ولماذا لم نسمع أصواتاً أخرى؟

زينب لم يكن من الضرورى أن تصبح طرفًا فى الحكى، فالقصة ليست معنية بزينب، لأنها كانت بمثابة «الوحش» الذى على البطل أن يهزمه فى النهاية؛ لذلك لم يكن من الضرورى أن تحكى، لأن جمال الرواية -من وجهة نظرى- أن ذاك الصوت قد خرج من ميلاد نفسه.

وأنا لم أتطرق لزينب لأنى أردت من القارئ أن يستنتج، ما إذا كانت زينب قد خانت ميلاد أم لم تخنهُ، لكن زينب بدورها كانت متعددة الأصوات، لأنها خلال مراحل الحب الأولى اختلفت شخصيتها عن المرحلة النهائية عند نهاية العلاقة.

وصوتها أيضًا كان حاضرًا بشكل كامل داخل الرواية، لكن الطريقة التى اختارت أن تتحدث بها مع ميلاد كانت راجعة لأسبابها الخاصة، وهى أسباب لم يكن يعرفها ميلاد أصلًا؛ وبالتالى ليس من حقى أن أوضح تلك الأسباب.

وميلاد أيضًا لم يعرف إذا ما كانت قد خانته أم لا، فهى دخلت الشقة مع مديرها، وهنا استنتج ميلاد وفقًا لتجربته الخاصة معها من قبل أنها خانته، لكنى ككاتب لا أعرف إذا ما كانت قد خانته مع مديرها أم لم تخنه؛ لذلك لم نسمع صوت زينب لأنها احتفظت بأسبابها لنفسها. 

«شكوت إلى الله فى صلاتى ودعوته أن يدلنى على الحقيقة». كانت هذه العبارة على لسان ميلاد.. هل ترى أن ميلاد قد وصل لهذه الحقيقة التى أرادها فى نهاية الأمر؟

أود الإجابة عن هذا السؤال كقارئ، أرى أن ميلاد وصل لهذه الحقيقة فى نهاية الأمر، لأنه رجع لحالته الأولى، فقد كان يظن أن هناك مؤامرة عليه، وانتهت هذه الرحلة عندما تخلص من ذاك الوحش الذى عاش معه.

وعندما تمكن من أن يصبح الشخص «المثالى»؛ لذلك ميلاد اكتشف حقيقته هو، فقد حاول الانتحار عدة مرات، لكنه فى إحدى المرات تذكر الخبز فقرر أن يستكمل حياته، إذ كان مستعدًا أن يتخلى عن أى شىء باستثناء خبزه. 

ميلاد شخصية مربكة، عاش الكثير من التحولات خلال حياته واستمر فى الصمت لسنوات طويلة، لكنه قرر أن يتخذ موقفًا متأخرا من حياته تلك، هل تعتقد أنه فى النهاية قد انتصر لكرامته، أم أنه استجاب للعرف الاجتماعى واسترضاء من حوله؟

ميلاد انتصر لنظرة المجتمع للرجل، فهو لم يكن متمردًا أبدًا بل شخصية «ساكنة» والحياة هى من تحركه، ودائمًا ما كان يبحث عن المعنى المثالى للرجولة، ولو أخذنا هذا الهدف كغاية قصوى لشخصيته، فقد انتصر وفقًا لهذه النظرة، سواء اتفقنا مع هذا المعنى أو اختلفنا معه، لكنه فى النهاية وصل لتلك الغاية.

وهى  تحقيق نفسه كرجل داخل هذا المجتمع، فالبداية كانت عندما قرر ضرب ابنة أخته، ثم بعد ذلك مشاكله مع أخواته عندما أراد السيطرة عليهن وافتعال المشاكل معهم، والأمر الثالث أن ميلاد رأى أنه قد انتصر فى تحقيق المعنى الجنسى للرجل فى المجتمع، عندما أقام علاقته مع المدام، والانتصار الأخير للشخصية أنه أراد تحقيق المعنى الكامل للرجولة فى مجتمعه، عندما انتقم لشرف العائلة وفقًا لتعريف المجتمع للرجل.

ولماذا اخترت فترة الثمانينيات تحديدًا مسرحًا لأحداث الرواية؟

لأن الفترة من 1969 وحتى عام 2011 كانت فترة مفصلية فى تاريخ الشعب الليبى، وهى حقبة مثيرة للاهتمام، ففترة الثمانينيات كانت فترة بها نوع من السوريالية، والأحداث التى لا يمكن أبدًا أن تصدق، أو أن يستوعبها إنسان لم يعش تلك التجربة، كما أنها فترة - شبه - غير مطروقة من جانب الكتاب والمؤرخين.

وغالبًا عندما يتطرق إليها أحد، وهى تتمحور حول صورة «القائد». فبعد عام 2011 خرجت كتب سيرة ذاتية، وكتب تاريخية وروايات، كلها كانت تتمحور حول العقيد، ولم تتمحور حول الشعب الذى عاش خلف العقيد؛ لذلك أردت أن تكون الرواية عن فرد من الشعب الليبى عاش تلك الفترة، وهذا الشخص كان ميلاد.

والذى لم يكن أبدًا شخصاً ناقماً على فترة العقيد الليبى، لأنه شخص لم يكن قادراً أصلًا على نقد نفسه، فكيف له أن يحاول نقد العقيد؟ وحتى  لو افترضنا أنه يريد أن ينقده، فهذا النقد لن يكون إلا أمام نفسه.

لننتقل لجزء آخر.. هل توقعت أن تنجح الرواية بهذا الشكل ولمن كنت تكتب؟

قبل الإجابة بشكل مباشر عن هذا السؤال، أرى أن الكاتب الذى يكتب لأسباب مادية أو ما إلى ذلك، سيجد صعوبات فى الكتابة، حتى وإن تكامل العمل، لأنى أعتقد أنه سيكون فيه نوع من الكذب، أو الخيانة للكتابة كحرفة، فالكتابة لا تطلب من الكاتب إلا أن يقع فى غرامها.

وعندما كتبت الرواية، كان طموحى الوحيد هو أن تُنشر وترى النور، وعندما كنت أكتبها كنت سعيداً، ولم أفكر حتى فى وضع أجندة، إذ أردت استنطاق هذا المثل الليبى «عيلة وخالها ميلاد»، واستكشاف هذا الميلاد.

وهذا الخال المشهور فى ليبيا؛ لذلك كانت لحظات الكتابة ممتعة جدًا. أتذكر عندما كنت أكتب الرواية، كنت أذهب لزوجتى وأحدثها عن ميلاد وكأننى أحاوره، وهو بجانبى يحكى لى التفاصيل وأنا بدورى أدونها.


وبخصوص التفكير فى القارئ أو الناشر فهذه العملية تأتى لاحقًا؛ أى بعد أن أنتهى من كتابة الرواية وهنا تأتى الاعتبارات الأخرى والأشياء التجميلية للنص، لكن كان هناك قارئ افتراضى وهذا القارى كان «أنا» إذ كنت أتطلع لمعرفة قصة هذا الميلاد كما ذكرت، لكن بشكل عام أكثر شخصية حاولت أن أروضها داخل الرواية كانت شخصية «عبسى».

لأنه فى الحقيقة قد يكون أكثر فُحشًا من الصورة التى كانت داخل العمل، وقد حاولت أن أضع لهُ حدوداً بصورة كبيرة داخل النص، والرواية بشكل عام أراها ساخرة بصورة كبيرة فميلاد كان يسخر من نفسه ومن الجميع، وأنا أحب الأدب الساخر أيضًا، فعندما أراد ميلاد الانتحار «تبول» على نفسه.

وفى مشهد خدوجة داخل الرواية كان واحد من أسباب وجوده هو إضحاك القارئ ليس أكثر، وحتى لا يشعر بالملل والتراجيديا فى حياة ميلاد، لأن هذا غير صحيح بالمرة فشخصية ميلاد أصلًا لم تكن سوداوية.

عندما حصلت على الجائزة كتبت على صفحتك الشخصية فى فيسبوك «دائمًا ما كنت أظن أن مصير الكاتب هو الوحدة، ولكن اليوم كشفتم لى بأنّ ذلك ليس ضرورياً»، لكن ما حدث بعدها وبمجرد أن تم الإعلان عن خبر فوزك بالجائزة حتى هاجمك بعض المثقفين الذين ربما لم يقرأ أى  منهم الرواية أصلًا.. كيف استقبلت هذا الهجوم وهل شعرت أنك كنت محقاً عندما اعتبرت دائمًا أن الكاتب ليس له مصير إلا الوحدة، وهل أزعجك هذا الهجوم؟

عندما كتبت هذا الأمر كنت فى لحظات شاعرية، لكن وجهة نظرى لم تكن مخطئة لأن قدر الكاتب العزلة؛ وهنا أقصد فترة الكتابة نفسها، لكن بعد الانتهاء من مرحلة الكتابة يمكن أن يرجع لحياته بصورة طبيعية، وأظن أن الكاتب هو مجرد ترس فى منظومة أكبر منه.

وهى المنظومة الثقافية وهذه المنظومة أكبر من عالم النشر نفسه؛ وهى تضم الكاتب والقراء والنقاد والناشرين والصحفيين والجوائز، وقد يرى الكاتب أنه أهم ترس فى هذه المنظومة، لكن ليس بالضرورة أن يكون كذلك.

ولأنه أحد تروس المنظومة فيجب أن يكون على احتكاك بالمنظومة كاملةً، لكن فى نفس الوقت أرى أنه يجب ألا يكون اجتماعيا أكثر من اللازم، وأنا حتى الآن أحاول أن أجد مكانى المناسب فى هذه المنظومة، لكنى لم أحدد الطريقة التى يجب أن أتعامل بها لأنى كما ذكرت لك شخص انعزالى، فهل علىّ دائمًا أن أكون فى نقاشات دائمة مع القراء.

أم الابتعاد قليلًا، فهذا الارتباك سببه أننى لم أكن أعرف أننى جزءاً من هذه المنظومة، لكنى فى النهاية سواء أردت أم لا، أصبحت جزء من المنظومة -للأسف أو لحسن الحظ- لأنى لم أقرر حتى الآن هذا الأمر ولا أعرف إذا ما كان الابتعاد أفضل أم الاقتراب، لكنى أدرك أننى أصبحت ترساً فى المنظومة الثقافية بشكل لا إرادى.


ورغم دخولى للمنظومة الثقافية فهذا لا يمنعنى من أن أكون حراً، لأن جوهر الكتابة عندى هى «الحرية» ولو أصبح الكاتب غير حر فهنا يجب أن يتوقف عن الكتابة.
أما بخصوص الهجوم علىّ من جانب بعض المثقفين الذين لم يقرأوا الرواية، فأنا لم ألتفت للأمر، لأنه ببساطة كل إنسان حر فى أن يكتب أو يتكلم عما يريده، وبما يهوى سواء قرأ الرواية ولم تعجبه أم لم يقرأها، لكن هذا الهجوم لم يؤثر عليّ لأنه لايمثل خطرًا على حياتى.

وهل وصلت إليك تلك الانتقادات والسجالات بين القراء حول الرواية؟

«يضحك النعاس». لم ألتفت لمثل هذه الأمور فقد سمعت بعضها لكنى لم أضعها فى الاعتبار أبدًا، فنحن فى النهاية نتحدث عن الأدب، وأنا لم ألتفت لمثل هذه الأمور لأنها كانت فى نفس الوقت الذى حدثت فيه ضجة داخل ليبيا، وكان عندى مشكلة أكبر هددت حياتى الشخصية.

لذلك لم يكن الأمر مهماً بالنسبة إليّ ولم أتابع هذا السجال، بل إننى توقفت عن متابعة وسائل التواصل الاجتماعى لمدة شهر كامل، لكن فى نهاية الأمر فنحن نحب الكتابة ونعشق الأدب، ولا يهمنا أىُّ من هذه السجالات.

هل تعتقد أن الهجوم عليك لأنك لا تملك شلة يمكن أن تدعمك؟

«يضحك النعاس مرة أخرى» شلتى الوحيدة من المهندسين ويسخروا منى لأنى أعمل فى مجال الهندسة، وحتى بعد الجائزة ينادوننى ويقولون لى: «يا كاتب»، فهذا عالم جديد علىّ وأنا أستكشفه فى الوقت الراهن، لكنى لا أؤمن بالشلة لأن الداعم الوحيد للكاتب هو «الكتاب» سواء الكتاب الذى يقرأ فيه أو الذى يكتبه. 

وهل يشغلك رأى النقاد؟

لا أبدًا، ما يهمنى هو رأى القراء، خاصة القارئ الذى يستكشف ما أكتبه، بينما النقاد مع احترامى الشديد لهم، فهم دائمًا ما يأتون بأدواتهم لتحليل النص، وبأيدولوجيات خاصة بهم وخلفية أكاديمية، لكن القارئ يأتى إلىّ بمتعة الاستكشاف وبحبه للقراءة، سواء أحب الكتاب أم كرهه.

لكنه فى نهاية الأمر دخل للكتاب تمامًا مثلما دخل إليه الكاتب؛ أى رغبة منه فى الاكتشاف، لكنى بشكل عام لا أبحث عن القارئ، وإذا ما وجه إلىَّ قارئ نقدًا حول العمل، فأنا أحاوره ونتناقش وأرحب به أيضًا.

فى حديث لك منذ سنوات قلت إنك لم تكن تريد أن تصبح كاتبًا.. إذًا ما الذى دفعك للاستمرار فى الكتابة رغم أن دراستك أصلًا كانت الهندسة؟

بالفعل أنا تخرجت فى كلية الهندسة عام 2014، وعملت فى الهندسة لمدة تقارب الـ10 أشهر، لكني قامرت بحياتى وتركت الهندسة من أجل الكتابة، فأنا لم أختار هذا التخصص، لكن والدى هو الذى اختاره لى، فنحن فى ليبيا لا نجد تهيئة للطالب بالنسبة لحياته المستقبلية بعد التخرج.

وغالبًا المجتمع ينظر فى نهاية الأمر نظرة قدسية لمهنتين هما؛ الطب والهندسة، والهندسة بشكل عام تُمكن الفرد من توفير خطة اقتصادية عظيمة تساعدهُ على حل جميع مشكلات العائلة، من خلال العمل فى شركات النفط الليبية، لكنى تركت الهندسة فى نهاية الأمر بعد أن حققت رغبة والدى، فعندما كنت صغيرًا كنت أحب القصص، وعمى الأكبر كان يحكى لى القصص بشكل شبه يومى، فهو لم يكن قارئا لكنه كان يؤلف لى هذه القصص المشوقة ذات الحبكة.

وقد برع فى تلقينى للقصص، فحبى للكتابة نابع من حبى للقصة، وأنا بدورى اخترت الكتابة لأنى لا أجيد التعبير، ونحن كشعب نحب الحكى دائمًا، لكنى لم أكن أملك تلك المهارة، وأعتبرها نوعاً من الخوف والخجل؛ فقد عشت طفلًا منعزلًا.

وربما ذاك الطفل ظل يبحث عن وسيلة لحكاية القصص للناس والبوح عما بداخله، فذاك الطفل هو أنا، إذ تعرفت على الكتاب عن طريق الصدفة، فخارج الإطار المدرسى لم نكن نقرأ شيئاًَ سوى المناهج الدراسية، ووالدى بدوره كان يملك مكتبة أكاديمية حول علم الزراعة والتربة وما شابه ذلك.

وكان يملك كتاباً وحيداً عن الشعر، للمؤرخ والشاعر الليبى خليفة التليسى، والذى جمع داخله روائع الشعر العربى، وقد أعجبنى هذا الكتاب وأحببت الشعر، وهذا الكتاب كان بالتحديد هو نقطة انطلاقى نحو القراءة، وكان عمرى وقتها 18 عامًا، وقد جذبتنى الكتب بشكل كبير كقارئ، لكن عندما قرأت موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، أحسست أن شيئاًً ما بداخلى يدعونى للكتابة كان ذلك فى عام 2010. 

تعتقد أن حصولك على البوكر فى سن مبكرة سيسبب لك نوعاً من الضغط خلال الفترة المقبلة؛ أى عند البدء فى كتابة عمل آخر؟

لنتفق على شىء هو أننى لا أكتب من أجل الشهرة، بل لأننى أحب الكتابة والقصص، وأنا مع كل كتاب أقرأه أو أكتبه أشعر أن شخصيتى تتغير، وآرائى بدورها تتغير ومنظورى للعالم نفسه، فأنا أكتب لمحاولة فهم ذاتى، ومحاولة فهم مجتمعى، ولفهم الإنسان هذا المخلوق العجيب الملىء بكل هذا الجمال وكل هذا القبح؛ لذلك لا أظن أن حصولى على الجائزة سيسبب لى ضغطًا خلال الفترة المقبلة، لأنى أدرك أن كل عمل له خصوصيته وظروفه النفسية، وأنا لن أسعى لكتابة عمل أفضل من خبز على طاولة الخال ميلاد.

وهذا الفعل لن يستحوذ على تفكيرى، فرواية الخال ميلاد بالنسبة إليّ مجرد «حالة»، وأنا لا أرى أنها عملى المفضل، لأنى أمتلك قصصاً قصيرة أقرب لقلبى من خبز على طاولة الخال ميلاد، فأنا أحبها لأنها جلبت لى الجائزة، والدافع المادى، وكذلك الجائزة المعنوية، فالجزء المادى كان مريحًا بالنسبة إلىّ لأن العمل بدافع مادى يدفعك أحيانًا للاستمرار فى الكتابة.

والسفر والحياة أيضًا، والجائزة المعنوية كذلك كانت شيئاً مهماً بالنسبة إلىّ، لأنها أعطت لروايتى فرصة أن يقرأها أكبر قدر ممكن من القراء؛ لذلك أعتبر كتبى بمثابة أطفالى، لأننى كنت أملك تجارب «فاشلة مع أطفال» لكنهم رحلوا فى الظلام، ولم يكتب لهم النور.

وكان ذلك شيئاً محزناً بالنسبة إلىّ؛ ونحن نضطر فى النهاية لأن نجهض ذاك الطفل، لكن تبقى ندبات فراق ذاك الطفل موجودة داخلنا، لأنه فى فترة ما نشعر أن هذا الطفل هو أهم شىء فى حياتنا، وأنه من المفترض أن يخرج ليرى النور، لكن فى النهاية الجائزة المعنوية تعطى أملاً لبقية الأطفال، فى أن يروا الضوء -ربما- خلال وقت ما. 

وبالمناسبة أنا لا يشغلنى إذا كانت أعمالى القادمة ستكون على نفس مستوى رواية خبز على طاولة الخال ميلاد أم لا، لأن كل مشروع أدبى محيط بظروف مختلفة كما ذكرت، والمفاضلة فى النهاية هى أمر إنساني؛ لذلك لا ألتفت لمثل هذه الأمور، لأنى أعى جيدًا أن هناك كُتاباً نجحوا فى أعمالهم الأولى لكنهم سقطوا بعد ذلك، لأنهم لم يستطيعوا تخطى هذا العمل، وهذا الأمر دمرهم فى النهاية؛ لذلك لا أهتم أبدًا بمثل هذه الأمور.

ذكرت من قبل أنك مزقت أعمالاً روائية لك ولم تنشرها، إذًا هل أنت مستعد لنشر تلك الأعمال فى الوقت الراهن، ولماذا تراجعت عن نشرها؟

لعدة أسباب، وأنا أعتبر أن الكاتب يُفضل ألا يعود لأعماله التى كتبها منذ سنوات طويلة، فأنا مثلًا لا أريد أن تكون لى أى علاقة مع «خبز على طاولة الخال ميلاد»، لأنى ربما لو قررت قراءتها بعد سنوات طويلة قد أصل لقناعة أنها رواية «سيئة»، بسبب عملية التطور فى الكتابة.

فأول عمل روائى كتبته كان فى سنة 2012، وقد كتبته أثناء فترة محورية من حياتى، وحاولت نشره أكثر من مرة، لكن تم رفض الأمر من جانب دور النشر، وهناك بعض الناشرين أرادوا النشر لكن بعائد مادى لصالحهم، مع تغيرات محورية فى العمل.

وفى نهاية الأمر حصل قبول للعمل من جانب ناشر ما، لكن حدثت مشاكل بينى وبينه، فقد استهلكت طاقة عاطفية كبيرة أثناء الكتابة، واستهلكت زمناً طويلاً فى الكتابة بسبب الحرب، فالعمل يحكى قصة جندى من جنود القذافى خلال الحرب الأهلية الأولى.

وقد تخليت عن هذا العمل فى نهاية الأمر، ومررت بحالة نفسية سيئة هى الأصعب فى حياتى، لأنى تخليت عن مولودى الأول، لكن عندما تخليت عنه أصبح من السهل بالنسبة لى التخلى عن أى عمل أدبى آخر، وقد كتبت بعده رواية أخرى أعتبرها بمثابة علاج نفسى من آثار الحرب الليبية الثانية فى 2014.

وعندما انتهيت من كتابة العمل شعرت أنه أدى مهمته كعلاج لى من آثار الحرب، أما العمل الثالث الذى تخلصت منه، فهو كان بالنسبة لى أهم عمل فى حياتى وقت كتابته، لكنى فى نهاية الأمر تخلصت منه أيضًا. لكن بشكل عام أنا غير مستعد حاليًا لنشر تلك الأعمال، وربما أنشرها فى وقت ما من حياتى، لكن هناك احتمالية أكبر وهي؛ ألا أعود إليها مرةً أخرى.

وكيف تقيم وضع الكتابة حاليًا داخل ليبيا، هل اختلف الوضع عما كان عليه أثناء فترة حكم العقيد؟

الأدب داخل ليبيا يعيش حاليًا معركة قتال، كانت معركته فى السبعينيات وحتى نهاية حكم العقيد، معركة فى الغالب مع السلطة الحاكمة ومع رقابة الدولة، لكن حاليًا معركة الأدب الليبى هى معركة مع المجتمع نفسه، الذى نحاول أن ننقل صوته! وهذه المعركة مليئة بالخسائر، والكاتب الليبى للأسف يعانى، فقد كان يعاني لكن معاناته أصبحت أكبر خلال الوقت الحالى، ولا يمكننا أيضًا ترك النضال التاريخى الطويل الذى عاشه الكُتاب فى ليبيا طوال التاريخ.

لكن بشكل عام يعانى الأدب الليبى من إهمال الدولة «الأولى» وعدائها للأدب، مثلًا نحن عندنا من 1976 وحتى عام 1986 جيل كامل من كتاب ليبيا، أرى أنه كان بإمكانهم تغيير المشهد الثقافى داخل ليبيا، لكنهم سجنوا ظلمًا، وفترة السجن تلك أثرت على حياتهم.

فعندما خرجوا كان كثير منهم قد قرروا ترك الكتابة بشكل كامل، ومن قرر الاستمرار فى الكتابة تأثرت بالطبع عملية تطور الكتابة لديه بسبب الفترة الطويلة التى عاشوها وانقطاعهم عن الكتابة، فهذه المدة التى سجنوا فيها كانت محورية بالنسبة لحياتهم.

لأنهم سجنوا شبابًا، وخرجوا فى الأربعين من عمرهم؛ وبالتالى تأثروا كثيرًا بمثل هذه الأمور، وللأسف نحن حاليًا يتكرر معنا الأمر نفسه، من جانب السلطة، لكن هذه المرة السلطة الاجتماعية، وهذه السلطة الاجتماعية لديها أداة لم تكن موجودة من قبل وهى سلطة «السوشيال ميديا»، والتى كان من المفترض أن تستخدم فى الخير، لكنها استخدمت فى قمع الكاتب الليبى بصفة خاصة.

تحدثت عن القراءات الأولى التى دفعتك لحب القراءة، لكن من هم الكتاب الذين تأثرت بهم فى حياتك؟

أعتقد أن الكاتب يتأثر بكل كتاب يقرؤه، ولو سألتنى خلال فترات متباعدة ستجد إجابات مختلفة على هذا السؤال، لكنى بشكل عام أحب كتابات إبراهيم الكونى وخليفة الفاخرى، فقد تربيت على الأدب الليبى بشكل عام، ومؤخرًا التقيت بالكاتب إبراهيم الكونى بعد أن تسلمت الجائزة بأربعة أيام.

وعندما صافحته أحسست أننى صافحت أبى، فقد كانت لحظة عاطفية جدًا، ورغم أن الكثيرين قد يعتقدون أن الإنسان ليس من المفترض أن يقابل بطله، لكنى قابلت بطلى، وأنا أعتبر لقاءه ضمن أفضل اللحظات التى حدثت لى فى حياتي.

وقد تأثرت أيضًا بنجيب محفوظ، فقد فتح عيونى للبحث عن الحكايات داخل المدن، وأحببت جورج أورويل الذى أعتبره مثلى الأعلى، لأنه كاتب صادق وحر، ولم يجعل الأيدولوجيا تطغى عليه، فرغم أنه كان اشتراكيًا وشيوعيًا إلا أن كتاباته انتقدت النظام الشيوعى السوفيتى؛ لكن على أى حال لو جه إليّ هذا السؤال بعد 10 سنوات أعتقد أن الإجابات ستختلف تمامًا.

ماذا تفعل فى الوقت الحالى، وما هى مشروعاتك الأدبية خلال الفترة المقبلة؟

خلال الوقت الحالى أقرأ فقط، بجانب الكتابة بشكل يومى، وعلى مستوى الرواية فأنا عندى مشروع روائى انتهيت منه بالفعل، ويتبقى تحريره وما شابه ذلك من أمور.
كما أننى فى مرحلة إعداد كتاب وهو عبارة عن مقالات حول المجتمع الليبى، والتى نشرتها فى عدة منصات عربية، واسم الكتاب هو «الشعب وراء العقيد».

وقد سميته بهذا الاسم لأنه يتحدث عن تحول الشعب الليبى تحت حكم العقيد، لأنى أعتبر أن فترة القذافى هى مرحلة مفصلية فى ليبيا، وهى أكثر مرحلة أثرت فى الشعب الليبي؛ لذلك أريد إخراج الكتاب، لأن العالم لا يعرف سوى القذافى، لكنه لا يعرف شيئا عن المجتمع الليبى، وأظن أن وجود المقالات أمر مهم، لأنها تسجل تاريخ المجتمع الليبى وتغيراته خلال المائة عام الماضية. 

اقرأ ايضا | محمد بغدادى يكتب : مكالمة أخيرة.. ولقاء