الكاتب الألماني ستن نادولنى يكتب: اكتشاف البطء

الكاتب الألمانى ستن نادولنى يكتب :  اكتشاف البطء
الكاتب الألمانى ستن نادولنى يكتب : اكتشاف البطء

حقق الكاتب الألمانى ستن نادولنى (1942) النجاح والشهرة عندما قرأ عام 1980 الفصل الخامس من روايته غير المنشورة بَعد، «اكتشاف البطء»، فى مسابقة إنجبورج باخمان الأدبية، ثم نال الجائزة التى بلغت قيمتها آنذاك 14 ألف مارك ألمانى، غير أنه اقتسمها مع كافة المشاركين فى المسابقة (27 كاتبة وكاتبا) لرفضه فكرة المنافسة الأدبية. ظهرت الرواية عام 1983 وجعلت صاحبها اسما شهيرا على المستوى العالمى فى غضون عدة سنوات، وحققت نجاحا لدى القراء والنقاد فى آن واحد. وبيعت من الرواية حتى الآن ملايين النسخ، وترجمت إلى نحو عشرين لغة. 

تتناول الرواية سيرة البحار الإنجليزى ومستكشف القطب الشمالى جون فرانكلين (1786 – 1847)، لكن الكاتب لم يلتزم تماما بكافة وقائع السيرة، بل حوّل حياة فرانكلين إلى أمثولة عن البطء ومزاياه. عاش فرانكلين فى زمن الثورة الصناعية حيث أصاب هوس السرعة كل شىء، لكنه كان إنسانا بطيئا منذ مولده، أو كما يقول نادولنى فى مفتتح الرواية: «بلغ جون فرانكلين العاشرة، ومع ذلك كان لا يزال يتسم بالبطء الشديد حتى إنه لم يكن يستطيع أن يلقف كرة». 

عاش فرانكلين فى «عصر السرعة»، لكنه ظل وفيا لخصاله، ولسمة البطء التى ولد بها، وعرف كيف يحول الضعف إلى قوة، إذ اكتشف أن البطء ليس عيبا دائما، وأنه لا يعنى الخمول أو التلكؤ فى كل الأحوال، بل قد يعنى التمهل، والتريث، والصبر، والجَلد، والتمعن، والتدبر وقيما كثيرة أخرى. 
بروايته أصابَ نادولنى عصب العصر المتعجل القلق، وكان ذلك سر نجاحها المذهل ألمانياً وعالمياً. وقد أصدر نادولنى روايات عديدة بعد ذلك، لكنها لم تحقق له النجاح نفسه، منها «سليم أو موهبة الخطابة» (1990) و»إله الوقاحة» (1994) و»هو أو أنا» (1999)، و»حظ الساحر» (2017).

بإذن خاص من الناشر، دار «أطلس» السورية، ننشر هنا الفصل الخامس من الرواية التى ستصدر قريبا ترجمتها العربية:

كوبنهاجن 1801

«عينا جون وأذناه»، هكذا كتب د. أورم إلى الربّان، «تثبّت كل انطباع مدة طويلة على نحو غير مألوف. ما يبدو فهما بطيئا وكسلا لديه، ليس سوى عناية فائقة يوليها عقله للتفاصيل من كل نوع. صبره العظيم ...» شطب الجملة الأخيرة.

« يجرى جون الحسابات بكفاءة عالية، ويعرف كيف يتغلب على العقبات عبر التخطيط.»قال د. أورم لنفسه: سلاح البحرية سيكون عذابا بالنسبة إلى جون. لكنه لم يكتب ذلك، فالرسالة كانت موجهة إلى سلاح البحرية. 

فكر فى أن جون لا يعرف شيئا اسمه الشفقة على الذات.لكنه لم يُنزل الريشة على الورقة، إذ إن إعجاب المعلم بتلميذه لا يفيد إلا نادرا، ولن يفيد فى سلاح البحرية مطلقا. هذا إذا قرأ الربّان الرسالة أساسا قبل الإبحار. جون هو الذى يريد أن يشارك فى الحرب بأى ثمن. أما كونه أبطأ من اللازم، وما زال فى الرابعة عشرة ... ماذا بمقدوره أن يكتب؟ الحظ التعيس يرافقه منذ الولادة، قال لنفسه. ثم كور الرسالة وألقاها فى سلة المهملات، وسند ذقنه واستولى عليه الحزن. 

مستيقظا رقد جون فرانكلين ليلا، وراح يستعيد بسرعته الخاصة أحداث اليوم التى مرت عليه بسرعة بالغة. كانت أحداثا كثيرة. ستمائة رجل فى سفينة كهذه! وكل واحد فى حركة دائبة، وله اسم. ثم الأسئلة! من الممكن أن يُسأل فى كل وقت. سؤال: أى مهمة تقوم بها؟ الإجابة: المدافع السفلية والتدريب على الأشرعة فى قسم مستر هيلس.

Sir. يجب ألا ينسى المرء لقب سير أبدا! العواقب خطيرة!كل الطاقم للخلف دُر لتنفيذ ... لتنفيذ العقوبة. لا بد أن يستطيع النطق بهذه الكلمة! تنفيذ العقوبة.
كل الطاقم، أفردوا الأشرعة!


تسليم السلاح.
تجهيز السفينة للمعركة – هذا يتطلب الرؤية الشاملة.تم الشحن، سير! الإبحار. ربط الحبال.المدفعية السفلى جاهزة للمعركة. ولا بد من التنبؤ بدقة بكل ما يأتي!
سجّل اسم الرجل، مستر فرانكلين! أمرك، سير، الاسم – تسجيل – بسرعة!

ينبغى على اللون الأحمر فى الغرف الداخلية أن يحول دون – يحول دون رش الدم! لا، ألا يجعله لافتا للأنظار! الرمل المنثور يحول دون أن ينزلق المرء وسط الدماء. هذا كله جزء من المعركة. الشراع عكس الريح، إلى آخره.

أفضل النصائح تأتى من الربّان، سير، من فضلكم، يجب أن تهبطوا إلى الطابق السفلي!الأشرعة: الملكى الكبير، والملكى المتقاطع، والملكى الأمامى. إذا نزلنا إلى أسفل، فستبدأ الصعوبات. كان بإمكانه تحديد الزاوية الأفقية للأجرام الليلية – لكنه لم يكن فى حاجة إليها مطلقا. لا أحد يريد معرفة شىء كهذا. لكن: أى نوع من الحبال فى أى مكان؟ وأين مكان الصارى المتحرك والصارى الثابت، أو العكس؟ حبال تثبيت الصارى.

وحبال الصارى المتحرك، حبال رفع الشراع وإنزاله، وحبال تحريك الشراع جانبا، هذه الأنواع التى لا تنتهى من الحبال، غامضة ومعقدة مثل شبكة عنكبوت. كان يشد الحبال مع الآخرين، ولكن ماذا إذا كان ذلك خطأ؟ إنه ضابط صف، ويُنظر إليه باعتباره ضابطا. إذن، مرة أخرى: الشراع الكبير، الشراع العرضى الكبير، الشراع العلوى الكبير ...«ششش، هدوء!»، فح شخص فى الكابينة بجواره. «ما هذا الهمس فى وسط الليل!».

«حبل طى الشراع»، همس جون، «عارضة شراع الكوثل.»«قلها مرة أخرى!»، قال له الآخر بهدوء تام.«دعامة الرمح، رمح شد الأشرعة، شدّادة الرمح».

دمدم الجار: «آه، ولكن كفى الآن!»

يستطيع أن يفعل ذلك بشفتين مزمومتين أيضا، حركة اللسان وحدها هى التى لا يمكن الاستغناء عنها. راح يتخيل مثلا كيف يصل المرء من أسفل الصارى الأمامى عبر الدقل، وصولا إلى قمة الصارى، متسلقا دائما من الخارج على عادة البحارة ، فهذه الطريقة وحدها هى المعتمدة لديهم. 


هل بمقدوره اكتشاف أخطاء؟ هل بمقدوره معرفة سبب تعطل شىء؟ وماذا يفعل إذا كان شىء غير واضح بالنسبة إليه؟
احتفظ فى ذهنه بكل الأسئلة التى لم يُجب عنها حتى الآن. كان عليه أن يطرحها فى اللحظة المناسبة، ولذا كان عليه أن يصوغها صياغة واضحة. شراع القارب المرافق يتميز بالخصوصية، لماذا؟ لقد أبحروا لقتال الدانماركيين، لماذا لا يقاتلون الفرنسيين؟ عليه أن يعرف على الفور أيضا تلك الأسئلة التى قد توجه إليه، إلى جون فرانكلين. سؤال: ما عملك على السفينة؟ أو: ما اسم سفينتك يا ضابط الصف، وما اسم قبطانك؟ إذا سار المرء على اليابسة بعد غزو كوبنهاجن، فسيكون محاطا بقادة البحرية، وربما يكون حتى الأدميرال نيلسون بينهم. سفينة جلالة الملك «بوليفيموس»، سير! القبطان لوفورد، سير! 64 مدفعا. تمام يا أفندم! 


حتى يسلّح نفسه، حفظ عن ظهر قلب أساطيل من الكلمات، ومدافع من الإجابات. عليه أن يكون مستعدا لكل شىء عندما يتكلم أو يفعل شيئا. يمر وقت طويل حتى يفهم شيئا. إذا كان السؤال بالنسبة إليه ليس إلا إشارة، وإذا استطاع النطق بالمطلوب بلا تردد وبآلية مثل ببغاء، لن يلومه أحد ولن يعلق على إجابته. نجح فى ذلك! من الممكن تعلم شئون السفينة فى البحر.

صحيح لم يكن بمقدوره أن يركض بسرعة كبيرة. مع أن اليوم كله عبارة عن: ركض، نقل الأوامر، ومواصلة الركض، من سطح إلى آخر – وكل ذلك على سلالم ضيقة للغاية! لكنه درس جيدا كل الطرق، بل ورسمها، وأخذ يكررها فى كل ليلة، طيلة أسبوعين. كل شىء سار بشكل تلقائى - إذا لم يصادفه أحد على غير توقع. عندئذ لم يكن شىء يفيده بالطبع.

وتسير الأمور من غير دقة، أما صيغة الاعتذار فقد تمرس عليها بالمران. لم يمر وقت طويل حتى تعلم الآخرون أن يتجنبوه. لم يكن الضباط يحبون التعلم. «عليك أن تتخيل»، هكذا قال بصعوبة قبل ثلاثة أيام للملازم الخامس الذى أصغى إليه أيضا بعد أن احتسى عددا محترما من كئوس الروم، «أن بدن أى سفينة له سرعة قصوى لن يتخطاها أبدا، أيا كانت قلاعها، وأيا كانت الريح. هكذا هو الوضع بالنسبة إلي.»


أجاب الملازم، دون أن تخلو نبرته من لطف: «سير. يبدأون الكلام معى بـ «سير»!»لم يكن الشرح يسفر فى معظم الأحيان إلا عن أوامر. فى اليوم الثانى شرح لملازم آخر كيف أن كل الحركات السريعة تكون بالنسبة إلى عينيه مثل خطوط نحيلة وسط المروج.


اطلع على قمة الصارى، مستر فرانكلين! أود أن أرى خطا نحيلا وسط المروج!
بعد فترة أصبح الوضع أفضل. تمدد جون راضيا فى الكابينة. الملاحة البحرية يمكن تعلمها. ما لا تستطيعه عيناه وأذناه، يتمرن عليه رأسه فى الليل. التمرين العقلى يوازِن البطء.
لم تبق سوى المعركة. وهذه لم يكن بمقدوره أن يتخيلها. على الفور استغرق فى النوم.


تجاوز الأسطول المضيق البحرى. وقريبا سيصلون كوبنهاجن. «سنريهم!»، قال رجل محنك ذو جمجمة عالية. فهم جون ما قيل جيدا، لأنه كرره عدة مرات. ثم قال له الرجل نفسه: «هيا، حمِّس الناس!» ثمة مشكلة فى القلع العرضى الكبير، لقد تأخروا. ثم قيلت الجملة المهمة: «ما عساه سيقول نيلسون؟» حفظ الجملتين لترديدهما فى الليل، وكذلك المفردات الصعبة مثل خليج كاتيغات.

وسكاغيراك، وفاربنشاب، وكابلغات. بعد توزيع حصص الروم عرف بعد أن طرح سؤالا معدا بعناية أن الدانماركيين قد بدأوا منذ أسابيع فى تعزيز الحصون على شواطئ كوبنهاجن، وتسليح البوارج الدفاعية.

«أم هل تظن أنهم ينتظرون حتى نشارك فى جلسة المشاورات التى سيعقدونها؟» لم يفهم جون ذلك على الفور، لكنه اعتاد على أن يعقّب على كل الإجابات التى تنتهى بصيغة سؤال يُطرح بنبرة عالية الصوت، ليقول آليا: «بالطبع لا!»، وهو ما يرضى سائله فى تلك اللحظة. 


وصلوا فى العصر. فى الليل أو فى الصباح سيهاجمون مدافع الدانماركيين وبوارجهم. ربما يكون نيلسون قد جاء اليوم إلى السفينة وشاهد كل الاستعدادات. ما عساه سيقول! وهكذا انتهى اليوم فى عجلة، وبالكثير من الصراخ، وبأنفاس لاهثة، وأقدام منهكة، ولكن بلا خوف أو غضب. لدى جون الشعور بأنه يستطيع أن يساير زملاءه، لأنه كان يحدس دوما بما قد يحدث.

الإجابة إما «نعم» أو «لا»، تنفيذ الأمر الصادر يقوده إما إلى أعلى أو إلى أسفل، الشخص إما أن يكون سير أو لا يكون، رأسه يصطدم إما بحبال متحركة أو بحبال ثابتة. كل هذا يبعث حقا على الرضا. كان عليه أن يتدرب على كلمة جديدة صعبة: تريكرونر. أقوى المدافع أمام كوبنهاجن هناك. إذا بدأت فى الضرب، فهى بداية المعركة. 


لم يأت نيلسون مرة أخرى. المدافع السفلى على سطح المركب على أهبة الاستعداد، نيران الموقد مطفأة، الرمل مرشوش، وكل الرجال فى أماكنهم. راح أحدهم، بجانب ماسورة المدفع مباشرة، يكشف عن أسنانه بشكل دائم.

وآخر، الذى يحشو المدفع بالبارود، كان يفتح يده ويغلقها، مائة مرة ربما، وفى كل مرة ينظر متفحصا أظافره. فزع رجل فى وسط السفينة وصاح قائلا: «إشارة!»، فاستدارت الرءوس إليه. أشار إلى الخلف، لكن لم يكن ثمة شىء. لم ينطق أحد بكلمة.


وبينما استولى القلق على المحنكين أو أصابهم الجمود، مرّ جون بإحدى اللحظات المميزة له، إذ إن بمقدوره أن يتجاهل الأحداث أو الأصوات السريعة، وأن يهتم بتلك التغيرات التى لا يكاد يلاحظها أحد آخر بسبب بطئها.

وفى حين أنهم كانوا يتقدمون ببطء فى اتجاه الصباح ومدافع التريكرونر، كان جون يستمتع بحركة القمر وتحولات الغيوم فى السماء الليلية. لم تكد تهب رياح فى ذلك الفجر. نظر طويلا عبر الفتحة التى تخرج منها ماسورة المدفع، أصبحت أنفاسه عميقة.

ورأى نفسه جزءا من البحر. بدأت الذكريات تعبر رأسه، وتجولت صور فى ذهنه على نحو أبطأ منه. رأى مجموعة من صوارى السفن تقف متلاصقة، وخلفها لندن. عندما تتجمع السفن متلاصقة فى هدوء، فثمة دائما مدينة. مئات من الحبال معلقة فوق مبانى المرفأ مثل غيمة ممتدة ومتداخلة.

على جسر لندن تتزاحم المساكن وكأنها تريد النزول إلى المياه بأى ثمن، وأن تشارك فى الحدث، لكنها تتردد فى اللحظة الأخيرة. بين وقت وآخر كان منزل يسقط فعلا من الجسر، ودائما عندما ينظر المرء فى اتجاه آخر. للمنازل فى لندن وجوه تختلف تماما عن منازل قريته. شامخة بأنفها فى السماء، عابسة، فخمة فى معظم الأحيان.

وفى بعض الأحيان ميتة. رأى حريقا على سطوح السفن أيضا، وسيدة أمرت البائعين بأن يجلبوا لها من أحد المحلات كل الملابس تقريبا حتى تفحصها عند نافذة عربتها، لأنها لم ترد أن تسير بحذائها فى الأوساخ.

كان لدى التاجر زبائن آخرون، غير أنه ظل واقفا عند الميزان وأجاب عن كل الأسئلة بلطف تام. كان يتسم بالهدوء البالغ حتى إن جون اعتبره حليفا له، رغم أن حدسه كان قويا: هذا الإنسان سريع. ثمة نوع من الصبر اللطيف الذى يتحلى به التجار، لكن صبره كان من نوع آخر.


فى العربة التى تجرها الخيل كانت هناك أيضا فتاة. الفتيات الإنجليزيات، النحيفات، ذوات الشعر الأحمر والذراعين البيضاوين، والمرتبكات قليلا، هن أحد الأسباب الثمانية أو العشرة التى تحمل المرء على الانتباه وفتح عينيه. جذبه توماس بعيدا مثلما يفعل الإخوة الأكبر سنا عندما يتحتم عليهم رعاية الإخوة الأصغر منهم.

وبسبب نفاد صبره شعر بالكراهية. كانوا قد اشتروا قبعة ثلاثية الحواف، والسترة الزرقاء والحذاء ذا الإبزيم، وصندوق البحر، والخنجر. على المتدرب من الدرجة الأولى أن يشترى زيه. عندما تسلقوا النصب التذكارى فى «فيش ستريت هيل»، كان قد أحصى ثلاثمائة وخمسا وأربعين درجة. ربيع بارد، تفوح فى كل مكان رائحة دخان الفحم.

من بعيد رأوا قصورا تتشبث بحدائق خضراء. راح يراقب مصابا بالصرع كان يضرب بجبهته أو يحملق فى البعيد. سمع أحدهم يقول إن هناك قطاع طرق، وثمة مشنقة فى تيبورن. قال له الأخ الأكبر إن على ضابط الصف أن يسلك سلوك الجنتلمان. فى السوق رأوا مشاجرة حول سمكة، قد تكون منفوخة على نحو اصطناعى، وربما لا تكون.


من كل مكان كان المرء يرى صوارى السفن، أو أشرعتها العلوية على الأقل. وخلفها، بارتفاع أقل، الألف مدخنة فى المدينة. كان من الصعب إدراك أن السفن تستطيع التحرك فوق البحر بمعونة الرياح ووفق خطط محكمة، حتى لو حفظ المرء عن ظهر قلب كتاب مور «الملاحة العملية».

يتسم الإبحار الشراعى بسمة ملكية، وهكذا كانت تبدو السفن أيضا. كان يعلم ما يجب فعله كى يفرد القلاع كلها. قبل ذلك يجب تشييد بدن السفينة، الخشب المقوس تماما، وتعشيقه، وبعناية سحجه ثم جلفطته، ودهنه، وتلوينه بدقة، وفى الغالب كساؤه بأجزاء نحاسية. إن الهيبة العظيمة التى تتمتع بها سفينة تنبثق من المواد الكثيرة والأشياء التى تدخل فى بنائها.


بوم!كانت تلك مدافع تريكرونر، والمعركة!
الالتزام بسلوك الجنتلمان. عدم الوقوف فى الطريق بقدر الإمكان خلال القصف بالمدفعية. الجرى بين المدافع والكوثل، ثم العودة. فهم الأوامر على الفور بقدر الإمكان، أو – إذا لم يكن ذلك ممكنا – طلب التكرار بحسم. صاح الضابط ذو الجمجمة العالية:
اسمعوا أيها الرجال! لا تموتوا من أجل الوطن! 


فترة صمت.
عليكم أن تجعلوا الدانماركيين يموتون من أجل وطنهم! 
ضحكات صاخبة، نعم، هكذا يشعل المرء الحماسة لدى الآخرين! كانت المعركة صعبة حقا. دون انقطاع كانت مدافع تريكرونر والمدافع الأخرى تطلق نيرانها. بالنسبة إلى شخص تأتى ردود أفعاله دائما متأخرة، فإنه يفقد سيطرته على الأمور تماما وسط تلك الهزات. أسوأ شىء كانت المدافع على طول سفينتهم. بدا وكأن السفينة تقفز فى كل مرة.

حافظ على النظام الجيد مثلما تعلمه. لكن هدفه الآن هو إشاعة الفوضى فى صفوف الخصم، غير أن الفوضى كانت تعود إليهم بفجائية لا يحبها جون. فى طرفة عين أصيب المدفع الأسود فى الجانب بحز عميق يبرق بريقا مقززا، كأنه أخدود حفرته آلة يدوية ألقيت بقوة هائلة وأخطأت هدفها. الأزيز المنفر الصادر عن هذا الجرح المعدنى انطبع عميقا فى النفس.

لم يعد أحد يقف مستقيما. ومَن بمقدوره أن ينهض الآن؟ الحركات اليدوية التى تمرسوا عليها تتعثر الآن، إذ إن نصف الطاقم لم يعد موجودا. ثم الدماء. إن رؤية الكثير منها يسبح، يصيب المرء بالقلق. هذه الدماء تسيل من أحدهم، تسيل من أفراد الطاقم، فى كل مكان. 


«لا وقت للتأمل! إلى الماسورة!» كان ذلك مَن صاح من قبل «إشارة». فجأة صارت فتحة ماسورة المدفع أوسع من ذى قبل. قطعة الخشب الناقصة تغطى عدة أجساد فى منتصف السفينة. 


على سطح السفينة عرف أن ثلاث سفن من اثنتى عشرة سفينة قد غرزت فى الرمال، لكن ليست من بينهم «بوليفيموس». من جانب إحدى السفن المجاورة تصاعدت سحابة من دخان أبيض. ظلت الصورة ثابتة أمام عينى جون.

كالسكاكين تطايرت فى دوائر شظايا عديدة من الخشب بسرعة البرق فوق سطح «بوليفيموس». مهموما رأى جون الضباط – الذين يتسمون عادة بالهدوء، ولا يتحتم عليهم أبدا أن يفسحوا الطريق لشىء – وهم يقفزون إلى الجانب بلا أدنى هيبة. بالطبع كان سلوكهم صائبا، لكن الحركة كانت تفتقر إلى الهيبة. كان مهمته هى نقل الأنباء.


بدا الدرج الآن على نحو مختلف تماما. بزرت عوائق من الجدران، عروق خشبية علوية انفكت مما يثبتها وراحت تتأرجح أمام جبهته. لم يكن بمقدوره أن يتنحى عن الطريق، ولا أن يظل واقفا فى مكانه، فقد تلقى من شظايا المركب ما ترك خدوشا وحفرا وأوراما؛ إنه يبدو الآن بطلا بالتأكيد. حاول أن يسلك طيلة الوقت مثل جنتلمان. بسهولة قد يفقد المرء عينا، نيلسون أيضا ليست لديه سوى عين واحدة. فى أى شىء يفكر نيلسون الآن؟ إنه يقف فى مكان ما فى كوثل «الفيل». سيعرف نيلسون كل شىء.


صوت المضخات مسموع - ربما نشب حريق؟ أم أن المياه دخلت إلى السفينة؟ تمايل البحارة على سطح السفينة كالسكارى. جلس الربّان عند أحد المدافع وصاح: «فلنمت جميعا!» كان يقول من قبل كلاما آخر تماما. فجأة فَقَدَ المستمع بجانب الربّان رأسَه، أى فُقد المستمع نفسه. شعر جون بالتعاسة. تصيبه كل التغيرات المفاجئة بالارتباك، سواء التغيير فى أماكن الجلوس، أو فى السلوك، أو فى النظم الإحداثية.

من الصعب تحمل فقدان المزيد من البشر. كان يشعر أيضا أنها إهانة عميقة عندما يفقد المرء رأسه هكذا بلا مقدمات، كنتيجة لتصرفات أشخاص آخرين. كانت هزيمة، لا مجدا. جسد بلا رأس – يا له من منظر حزين مثير للشفقة.


عندما وصل إلى المدافع مرة أخرى، رأى ضوءا ساطعا وسمع دويا عظيما: انفجرت سفينة بالقرب منهم. سمع تهليلا، واسم السفينة يتردد بين حين وآخر. وسط التهليل صدر صرير متوغل ثم اصطدام: اصطدمت بهم سفينة دانماركية من الجانب، ومن الفتحة الخشبية اندفع رجل إلى الداخل.


رأى جون صورة حذاء عسكرى غريب فاتح اللون، دخل فجأة، ثم استطاع أن يجد موطئا، حركة سريعة خطرة، لم يستطع جون أن يستقبل ما حدث بعد ذلك لأن الصورة توقفت داخله. آليا فكر رأسه: سنريهم! إذ إن هذا هو الموقف الذى فكر فيه عندما قابلته الجملة للمرة الأولى. بعد ذلك رأى فم ذلك الرجل وإبهاميه – إبهامى جون – يحيطان برقبة الرجل. مصادفة ما حملت الرجل على الاستسلام، والآن استطاع جون إحكام قبضته عليه!


إذا أمسك جون بخناق أحد، فلا فرار. فى نهاية نظرته الموجهة إلى أسفل لمح مسدسا يظهر. شُل على الفور. لم ينظر فى اتجاهه، وفضّل أن يثبت بصره على الإبهامين القويين، وكأنه بذلك يجبرهما على الانتصار على المسدس الموجه.

وهذا شىء لا يمكن إنكاره – على صدره. فى رأسه راح هم وحيد يزيح بقية الهموم، وأخذ ينمو وينمو. لم يلتزم بحدود، ثم انفجر صارخا: بمقدوره أن يضغط على الزناد فورا ويقتله، سيموت أو سيهلك فى الحريق هلاكا بطيئا. لا مفر الآن، الموت حاضر. على وشك أن يمسك به، ولا شىء يستطيع إيقافه. بوضوح تام شعر جون فجأة بمكان قلبه، مثل أى شخص يعرف أن الموت كامل وتام.

لمَ لا يطيح بالمسدس، أو يلقى بنفسه جانبا؟ يجهل الأمر، لكنه لا يستطيع! إنه يمسك بخناقه، ولم يفكر فى شىء إلا أنه لم يعد فى حاجة إلى إطلاق الرصاص على شخص يختنق. لكن شخصا لم يختنق بعد، بل فى طور الاختناق، لأن شخصا آخر يشدد عليه الخناق، هذا الشخص سيطلق النار بالأحرى، نعم، ربما أراد جون أن يفكر فى ذلك، لكنه لم يستطع، لأن عقله تظاهر بالموت. لم يبق حيا سوى التصور أنه سيبعد الخطر بمواصلة خنق ذلك الحَلق. ما زال الآخر لم يطلق الرصاص.


بالنظر إلى كونه جنديا كان الرجل مسنا، بالتأكيد فوق الأربعين. لم ينحن جون قط فوق أحد، ولم ينظر من عل قط إلى رجل قد يكون والده. كانت الرقبة دافئة، والجلد طريا. لم يمسك جون بإنسان كل هذه المدة قط. الفوضى تنتشر الآن، المعركة داخل جسده؛ إذ أن الأعصاب الموجودة فى أصابعه كانت خلال الضغط تشعر بهلع بسبب ذلك الدفء وتلك الطراوة.

أحس بهذه الرقبة – تغرغر، وتصدر ذبذبات رقيقة بائسة؛ غرغرة عميقة بائسة! أُصيبت اليدان بالهلع، لكن الرأس الذى كان يخشى إهانة المحتضر، هذا الرأس الخائن الذى كانت أفكاره خاطئة فوق ذلك، تظاهر بعدم فهم أى شىء.


سقط المسدس، وكفّت القدمان عن الوقوف على الأرض، ولم تعد تصدر عن الرجل أى نأمة. رصاصة فى الكتف، ودم فاتح اللون.


لم يكن المسدس مُعمّرا.
ألم يقل الدانماركى شيئا، ألم يستسلم؟ قعد جون وراح يحملق فى رقبة الميت. كان يخشى إهانة الموت العنيف. أما أن يضغط على جسم حى، لأن إدراكه بطيء، ولأن الخوف لم ينزح بالسرعة اللازمة، فقد كان ذلك أكثر من فقدان العقل. كان ذلك إهانة، فقدانا للوعى، إهانة ساحقة أكثر من أى إهانة أخرى. والآن، وبعد أن نجا، تحتم على رأسه أن يسمح ثانية بكل الأفكار، وتواصلت المعركة فى الداخل، وتمردت اليدان، والعضلات، والأعصاب.


قال جون وهو يهتز اهتزازا: «قتلته». من عينين متعبتين تطلع إليه الرجل ذو الجمجمة العالية. لم يبد عليه التأثر. واصل جون قائلا: «لم أستطع التوقف عن الضغط على رقبته. كنت أبطأ من أن أتوقف.»


أجابت الجمجمة بصوت مبحوح: «كفى! لقد انتهت المعركة». ما زال جون يرتعش، ثم صار الارتعاش اهتزازا، تقلصت عضلاته فى مواضع عدة مكونةً جزرا مؤلمة، وكأنها تريد بذلك تحصين باطنه أو لفظ شىء غريب من وسط جلده. «لقد انتهت المعركة!»، صاح ذلك الرجل الذى رأى الإشارة من قبل. «لقد أريناهم!»


وضعوا طافيات جديدة، إذ إن الدانماركيين أزالوا كل الإشارات البحرية حتى تغرز السفن الإنجليزية فى الرمال. ببطء اقترب القارب الصغير بالقرب من جزيرة تريكرونر التى دمرتها النيران، ووصل إلى حافة منطقة ضحلة.

جلس جون شاردا على أحد المقاعد محملقا فى اليابسة. البطء مميت، هكذا فكر. والأسوأ أنه مميت للآخرين. أراد أن يكون قطعة من الساحل، صخرة من صخوره، تتطابق أفعاله دائما مع سرعته الحقيقية.

صيحة جعلته ينظر إلى أسفل: فى المياه الصافية الضحلة كان قتلى كثيرون يرقدون على القاع، العديد منهم بسترات زرقاء، وكثر بأفواه فاغرة وعيون تنظر إلى أعلى. رعب؟ كلا. بالطبع يرقدون هناك.


هو نفسه واحد منهم، إنه تروس ساعة توقفت عن الدوران. ينتمى إليهم أكثر من انتمائه إلى بحارة القارب. خسارة كل هذا العمل الجم. ظن أنه سمع أمرا ما، لكنه لم يفهمه. ليس ثمة إنسان يفهم أمرا بعد رعد المدافع هذا. أراد أن يطلب تكرار الأمر، ثم اعتقد أنه فهمه. استقامت قامته ونهض، أغمض عينيه، ثم سقط، شيئا فشيئا مثل سلم مائل أكثر من اللازم

فى المياه ألحّ عليه سؤال على غير توقع: ما عساه سيفكر نيلسون؟ كان الرأس الخائن بطيئا بطئا بالغا هنا أيضا، ولم يرد أن يتخلى عن السؤال. وهكذا اصطاده الآخرون قبل أن يفكر فى الغرق. 

فى الليل كان يحملق أمامه وإلى أعلى باحثا عن ساغالس. لم يعد يجده. لم يجد سوى إله الأطفال، وها هو قد غرق معه. أخذ جون يصلى لكافة الأشرعة والقلاع، من الشراع الأمامى السفلى حتى الشراع الأمامى العلوى، قرابة المائة مرة، ذهابا وإيابا. راح يكرر أسماء الحبال الثابتة، من الشراع الملكى الأمامى حتى الشراع الملكى العرضى.

وأسماء الحبال المتحركة لأشرعة الصارى الخلفى وصولا إلى الشراع الملكى الكبير. راح يستدعى كافة أنواع الأدقال، من الصارى العرضى حتى الصارى الأمامى. راح يهيئ السفينة فى ذهنه للإقلاع، ومرّ بكافة نهايات الصوارى فى كل طوابق السفينة، وكل أماكن المبيت، وكافة الدرجات والرتب – هو وحده ظل متداخلا ومشوشا فى أفكاره وغير مهيأ لشىء. لقد ولت الطمأنينة وانقضت. 


قال له د. أورم عندما التقيا ثانيةً: «أظن أنك حزين بسبب موته.» قال الجملة ببطء بالغ. احتاج جون إلى وقت، ثم شرع فكه يرتعش. إذا بكى جون فرانكلين، فإن بكاءه يستغرق وقتا. راح ينتحب إلى أن شعر بخَدر يسرى فى أنفه وفى أطراف أصابعه.


واصل د. أورم كلامه:
إنك تحب البحر. ليس من اللازم أن يكون لذلك علاقة بالحرب. 
كفّ جون عن البكاء لأنه استغرق فى التفكير. راح يتأمل خلال ذلك حذاءه الأيمن. أخذت عينه تتبع دون توقف المربع اللامع فى الإبزيم الكبير: بالأعلى إلى اليمين، فى الجانب إلى أسفل، بالأسفل إلى اليسار، فى الجانب إلى أعلى، ثم عاد إلى نقطة البداية. كرر ذلك أكثر من عشر مرات، وبعدها ثبّت بصره على حذاء د. أورم المسطح، الخالى من الأبازيم، والمزود برباط فى الأمام. وفى النهاية قال:
- الحرب، لقد ضللت طريقى إليها.
رد د. أورم:
- قريبا سيحل السلام. ولن تكون ثمة معارك أخرى.

اقرأ أيضا | بسمة ناجى تكتب: روث أوزيكى تفوز بجائزة إبداع المرأة الروائي