د.نهلة إمام تكتب: الرقم الصعب في مجال الدراسات الشعبية

الدكتورة نهلة إمام مع الدكتور أحمد مرسى
الدكتورة نهلة إمام مع الدكتور أحمد مرسى

رقم حلم الدارسون بتحقيقه أو الاقتراب منه، رقم حار زملاؤه كيف حققه، رقم تطلع البعض إلى اقتناصه، فمن منهم سأل نفسه كيف حققه؟ كيف أدار مواهبه وقدراته وما امتلكه من قدرة على لمّ الأحبة والغرماء حوله واستطاع أن يصادق شخصيات متفاوتة فى خلفياتها الاجتماعية والسياسية ويكتسب محبتهم وهذا لو تعلمون فى الوسط الثقافى من العجائب. 

حين أتحدث عن أحمد مرسى أجدنى أسترجع سنوات عمرى الواعى وأستدعى مواقف مفصلية فى حياتى، فنحن فى حضرة الأستاذ الذى يملك رؤية وحلما ويستطيع أن يرسم خارطة طريق للوصول إلى حلمه، حلم أن يكون فى مصر دراسة أكاديمية منظمة وفقا للمناهج وأساليب البحث العالمية.

وقد أتاح له الظرف السياسى الفرصة فحقق الحلم وكان المكان المتاح هو أكاديمية الفنون فكان معهد الفنون الشعبية الذى أراده منذ اللحظة الأولى مؤسسة أكاديمية رصينة لدراسة الثقافة الشعبية بكافة مكوناتها الحضارية ومنتجها الإنسانى.

معهد وفر له إمكانيات علمية فاخرة رغم قلة بل ندرة الموارد، عامان من الدرس والمتعة الصافية للحصول على دبلوم الدراسات العليا فى التراث الشعبى، أفضل أستاذ فى مصر فى كل مادة من مواد الدراسة، قامات لم نكن نحلم بالجلوس أمامهم يصعدون الدرج خمسة طوابق ويحاضرون غير متقيدين بالوقت وبلا مقابل، لا بل بمقابل سخى ألا وهو محبة أحمد مرسى، وبعد المحاضرات نقاشات لا تنتهى حول المداخل البينية فى العلم والاطلاع فى زمن ما قبل الإنترنت ومشاكله، والكتب الأجنبية التى كان يعيرها لنا من مكتبته الخاصة وقسوته أمام كل تهاون أو كسل.


تخرجت من الدفعات الأولى التى نالت الرعاية المركزة والمتابعة الدقيقة واخترت كأنثروبولوجية أن أسجل لدرجة الماجستير فى المعهد، فإذا بالأستاذ يواجهنى أن خطة المعهد هى دراسة تراث سيناء بعد عودتها للسيادة المصرية وأنه لا مجال لتغيير خطة الدراسة بالمعهد، كانت سيناء فى هذا الوقت من الصعب الإقامة بها والمواصلات وظروف الحياة اليومية كانت قاسية، حاولت بكل الطرق التفاهم على تغيير مجال الدراسة الجغرافى، بدءًا من الإقناع والحجج العلمية والعملية من قلة الدراسات السابقة وصولًا إلى البكاء.

بنت حديثة التخرج أول ميدان لها يكون قبائل بدوية فى الصحراء بلا حماية أو إمكانيات؟ كان صارمًا حين قال لي: «يا سيناء يا تشوفى لك شغلانة تانية»، فكان التحدى الأكبر ومكثت أقرأ تحت إشراف وتوجيه أستاذى الدكتور محمد الجوهرى عن تاريخ سيناء وجغرافيتها وناسها وهو ينظر لى ولا يسألنى وبيننا نوع من التحدى الصامت.

وقررت أن ألقى بنفسى فى البحر لأختبر قدرتى على السباحة، لا بل ألقى بى أحمد مرسى الذى كان يعرف دائمًا ماذا يريد لنفسه ولبلده. وظل إلى آخر وقت يذكرنى بتلك الفترة ومدى فخره بعملى وبأنه كان صاحب إستراتيجية.


استطاع أحمد مرسى بقدراته ومواهبه الاجتماعية أن يمحى لديّ كل أثر لصورة الأستاذ الصارم الحاد ليحل محلها الأستاذ الصديق الذى يتيح لتلامذته الفرصة للاقتراب وتبادل الآراء والأفكار، أستاذ تستطيع أن تختلف معهُ وتواجهه ويغضب وتغضب ويصر كل طرف على رأيه، ويظل بحر الود صافيًا.

وأراجع نفسى ويراجع طرحه ونتهاتف مرة أخرى فيصيبنى الخجل من تواضع أستاذ كبير ومن الندية التى شابت الحوار، وأتساءل: كيف ولديه كل تلك المعلومات وهذه الرؤية أن يسمح بهذا النقاش أساسًا؟ علمت بعد فترة أن الجواب هو الأستاذية، وكيف كانت لغته معبرة واختياره لمفرداته معبرة ودالة حتى على موقفه العاطفى منك.

ولأنى مبكرًا أدركت أن علمنا من أدواته الأساسية هى القدرة على التواصل والمحبة والقبول الاجتماعى والرحابة كنت أعلم أن كل من عمل فى ميدان التراث بعده لا يستطيع أن ينكر فضله على المجال وأنه خلق مساحة للدراسات الشعبية والحوار على مستوى العالم العربى لا يدانيه فيها أحد.


من منكم حاز على أستاذ يهاتفه ليخبره عن فيلم سينمائى أعجبه ويرشحه له فيشاهده ونتحاور حوله، أو رواية نتبادلها وكان يعلم حبى لمطالعة السير الذاتية، فيعلق بأن هذا أثر العمل الميدانى، وحين حاولت منذ شهور قريبة أن أطرق هذا الباب وأرشح له فيلما رفض وعلمت وقتها أن النهاية اقتربت وأن الأستاذ اكتفى ورغب فى الرحيل بعد حياة حافلة وصاخبة وأجيال متعاقبة من الدارسين والهواة لكل منهم معه حكاية.

خاض الكثير من المعارك؛ أحيانًا كنت أصارحه بعدم جدواها وأنه غنى عنها، لكن أحمد مرسى هو حصيلة خبرات خاصة وتحديات لكل مرحلة من حياته، وكان لها.


ولكل دارس للتراث حكاية مع أحمد مرسى.. حكايات شكلت طريق الدراسات الشعبية فى الوطن العربى، صارحتك يا أستاذى منذ أعوام قليلة بامتنانى وأنكم جيل استطاع أن يجند جيلا لحب التراث والعمل عليه بحرفية وأننا فشلنا فى أن نحذو حذوكم.

وطيبت خاطرى بحنانك الذى لا يعرفه إلا من يقترب بصدق أنك تلتمس لنا العذر فجيلكم وجد تلامذة كان تكوينهم العلمى الأساسى يسمح بالتشكيل. لكنى أعلم أن أساتذة الأمس لهم خلطة خاصة أنتجت دراسات وباحثين فى مصر بنكهة خاصة.

والمتأمل لدراسات العالم العربى يتكشف هذا المذاق الخاص للدراسات المصرية الذى هو نتاج أرض لينة وشعب يتنفس التراث، والحكاية هى أحمد مرسى صاحب فكرة أول مؤسسة أكاديمية لتدريس التراث الشعبى فى العالم العربي؛ أى دراسة منظمة فقد أحدث نقلة نوعية فى الاهتمام بالتراث وبعقل متفتح واطلاع واسع لا يضيق مجال الدرس بل يجمع أطرافه، وكان التراث قبله مادة متفرقة بين أقسام كليات الآداب وهواية للكتاب وراغبى الاقتناء والإعلاميين فأطلق نفيرا فى مصر نبه أعلى سلطة إلى أهمية ما نمتلكه من كنز.

وأن الأمر يحتاج إلى إعداد كوادر التنقيب عن الكنز وأنه قادر على قيادة هذه الكتيبة والجيش المدرب، فكثيرًا حلمنا بفرصة مكتملة وإمكانيات وإرادة لتحقيق هذا الهدف.. ولكن رحل الأستاذ وترك فينا جذور محبة التراث والميدان الرحب، والأدوات غير التقليدية. رقم صعب أنت يا أستاذنا سنظل نحاول الاقتراب منه.


أدى القضية وأدى الحكاية وكونى أنسى دى الاستحالة. خبيرة التراث الثقافى غير المادى وعضوة لجنة التقييم الدولى بمنظمة اليونسكو 

اقرأ ايضا

الدكتور محمد حسن عبدالحافظ: السيرة أطول من العمر.