الدكتور محمد حسن عبدالحافظ: السيرة أطول من العمر

من اليمين أحمد مرسى وعبدالحميد حواس ومحمد حسن عبدالحافظ
من اليمين أحمد مرسى وعبدالحميد حواس ومحمد حسن عبدالحافظ

ظلت «السيرة الهلالية» – طيلة ثلاثين عامًا - محورًا رئيسًا ومؤثرًا فى علاقتى بالأستاذ الدكتور أحمد مرسى

فى مستهل ستينيات القرن الماضى، استقر عزم أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد مرسى على أن يتخصص فى الأدب الشعبى، إذا ما قدر له أن يحافظ على تفوقه الذى يعنى إمكانية تعيينه معيدًا بقسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكان أن عين معيدًا. وعندما سألته أستاذتنا المرحومة الدكتورة سهير القلماوى - رئيسة القسم آنذاك - عما يريد التخصص فيه، فعبر لها عن رغبته فى التخصص فى الأدب الشعبى.

ومنذ ذلك الحين، بدأت علاقته الموصولة بأستاذه المرحوم الدكتور عبدالحميد يونس، وبالمأثورات الشعبية. وعندما أنهى دراسة السنة التمهيدية للماجستير، وكان عليه أن يختار موضوعًا للتسجيل لنيل الدرجة (الماجستير) تنازعه موضوعان: أحدهما أن يكمل ما بدأه أستاذنا الدكتور يونس فى دراسته للهلالية.

فيجمع رواياتها، ويقارنها، ويركز على تأثير البيئة المصرية عليها بتفصيل أكبر، كشفًا للشخصية المصرية، وتأصيلاً للديموقراطية الأدبية الفنية بوجـدانـهـا المشترك الذى تقدم عناصره الآداب الشعبية، أكثر مما يقدمها غير تلك الآداب.

وغير ذلك مما أشار إليه المرحوم الدكتور أحمد مرسى عن شيخنا المرحوم الأستاذ أمين الخولى فى تقديمه لدراسة أستاذنا الدكتور يونس عن الهلالية فى التاريخ والأدب الشعبى. وثانيهما: أن يسجل مـوضـوعًا عن فكرة الزمن فى الأدب الشعبى.

وقد ابتسمت أستاذته الدكتورة سهير القلماوى عندما عرض عليها هذا الموضوع، وقالت له، مما ظل يذكره: هذا موضوع تختم به حياتك العلمية؛ لأنه يحتاج إلى الكثير مما لا تحسنه الآن. أما أستاذه الدكتور عبدالحميد يونس - الذى اتفق مع الدكتورة سهير فى الرأى - فقد رأى، فيما ما يتصل بالموضوع الأول، أن ميدان الأدب الشعبى واسع عريض.

وأن السير الشعبية ليست كل الأدب الشعبى، كما أن كل الذين سبقوا أستاذنا الدكتور أحمد ركزوا على السير الشعبية، فى حين أن هناك أنواعًا أخرى لا تقل أهمية، وأن عليه أن يفتح الباب أمام من سيجيئون بعده لدراسة هذه الأنواع، كما فعل أستاذنا الدكتور يونس، عندما درس السيرة الشعبية (الظاهر بيبرس والهلالية)، فمهد الطريق لمن جاءوا بعده. 


اقتنع الدكتور أحمد مرسى بوجهة نظر أستاذه مؤجلاً موضوع السيرة الهلالية إلى حين، على أمل أن يعود إليها يومًا. وتساءل الدكتور مرسى: لماذا ظل حلم تسجيل روايات هذه السيرة يلح عليه طيلة أربعين عامًا؟.

وهى نفسها الحقبة التى شهدت جهودًا لتسجيلها، وقد أشار الدكتور أحمد مرسى، منها ما قام، ولايزال يقوم به، زميله وشيخنا الأستاذ الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجى (متعه الله بالصحة).

وأثمر عن دراسات مهمة تتصف بالجدة والعمق، تتعلق برواتها ورواياتها، وبجوانب منها لم يتناولها أحد، مثل: ميلاد البطل، والنبؤة وقدر البطل، ومنها ما قام به المرحوم الشاعر الأستاذ عبدالرحمن الأبنودى، سواء فيما أتيح له أن يقدمه عن طريق الإذاعة، أو ما نشره، وأسهم بذلك إسهامًا كبيرًا غير منكور فى التعريف بالسيرة بين جمهور أوسع وأكبر كثيرًا من جمهورها التقليدى الذى تشيع بينه، حتى ظن البعض أنه مؤلفها. 


اتجه أستاذنا أحمد مرسى إلى التفكير فى توجيه مـجـمـوعـة من تلاميذه، ذوى القدرة على ارتياد الميدان، وتحمل صعابه، إلى جمع السيرة الهلالية من المنطقة التى ينتمون إليها. من هنا، تلاقى حلم أستاذى المؤجل بمشروعى فى جمع السيرة الهلالية، بعد هذه الجهود المذكورة، وغيرها مما لم يذُكَر.

وظلت «السيرة الهلالية» – طيلة ثلاثين عامًا - محورًا رئيسًا ومؤثرًا فى علاقتى بالأستاذ الدكتور أحمد مرسى. لعل البداية فى صيف 1993، فى مدينة «بير الباي» التونسية، إذ شاهدت عرضًا مسرحيًّا مجسدًا لـ أو مستلهمًا من السيرة الهلالية، أتذكر هذا العرض كحلم عجائبى بلغة المغارب حول الصراع الخلاق الدائر بين الزناتى خليفة والحلف الهلالى (أبوزيد، الجازية، دياب)، دفعنى العرض – آنئذ - إلى طرح أسئلة أولية حول المخبوء فى طريق السيرة الهلالية الطويلة المتشعبة.

وفى السنة النهائية لمرحلة الليسانس (1994) درسنا الدكتور أحمد مادة «الأدب الشعبي» فى قسم اللغة العربية العريق المذكور. وفى صيف 1995، طرحت عليه – رحمه الله - العمل فى مرحلة الماجستير على موضوع «السيرة الهلالية ورواتها فى محافظة أسيوط»، فتحمس له، فعقدت العزم على خوض الرحلة، وأجريت استقصاء ميدانيًّا – لسنة – عن رواة السيرة المجهولين فى أسيوط، ثم سُجِّل الموضوع، ونوقش فى أبريل 2004. وفى أبريل 2014، نوقشت أطروحتى للدكتوراه فى موضوع «السيرة الهلالية فى بعض قرى سوهاج.

دراسة سيميائية للراوى والرواية والجمهور» بإشرافه ومشاركة الدكتور إبراهيم عبدالحافظ وبمناقشة الدكتور صلاح الراوى. وفى فترات متقطعة، بين عامى 2000 و2003، شرفت بالمشاركة فى العمل بإشرافه فى مشروع جمع الروايات المصرية للسيرة الهلالية، بعد النجاح فى وضعها على قائمة الروائع الأدبية الشفهية للإنسانية، عام 2003.

ثم انتقلت بصورة مباشرة إلى التسجيل، باسم مصر، فى القائمة التمثيلية للدول لدى اليونسكو فى مضمار التراث الثقافى غير المادى، عام 2008. ولايزال هذا المشروع – فى تصورى – يعوزه التواصل والتراكم برؤية استراتيجية وأعمال تنفيذية متقنة ومبدعة.


ولعلى لا أجد ما أختم به هذا المقال خيرًا مما ختم به أستاذى الدكتور أحمد مرسى، رحمه الله، تقديمه لكتابى «سيرة بنى هلال؛ روايات من جنوب أسيوط»، قائلاً: ولعلى أشعر أيضًا مع شيخنا أمين الخولى، وأستاذى الدكتور عبدالحميد يونس، رحمهم الـلـه، أنى حين لا تحمل يدى هذا القلم سأكون قد خلفته لأيد قوية تحمله، وأنفس كريمة تجربه.. وفية بالعهد الذى التقينا على الوفاء به. 


إنها وصية علمية وإنسانية موروثة وموحية، نضعها نصب العين والوعى والعمل، حتى النفس الأخير، حيث تبقى السيرة – حتمًا - أطول من العمر.


 أستاذ الأدب الشعبى المساعد بالمعهد العالى للفنون الشعبية .

اقرأ ايضا | سهير القلماوي.. أول إمرأة تحصل على الدكتوراه في الأدب‬.