سعيد توفيق يرثي أحمد مرسي: صديقى العاشق للناس

د. سعيد توفيق
د. سعيد توفيق

يعيش المفكر الكبير والناقد القدير د. سعيد توفيق الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة وأستاذ الفلسفة فى آداب القاهرة حالة من الحزن العميق على فقدان صديق عزيز هو العالم الكبير وأستاذ الأدب الشعبى الشهير د. أحمد مرسى الرئيس الأسبق لدار الكتب والوثائق القومية.

وقد آثر د. سعيد «الأخبار» بهذه المرثية المتدفقة بالمشاعر الحميمة  وأحاسيس الأسى التى عبر خلالها عن مكانة صديقه الراحل فى وجدانه وأيضًا مكانته فى المشهد الثقافى العربى.

 تعرفت على د. أحمد مرسى أول مرة سنة 1976، كنت آنذاك طالبًا فى السنة الرابعة بقسم الفلسفة، وكان هو مدرسًا شابًا فى بداية الثلاثينيات من عمره، يقوم بتدريس مادة الأدب العربي، ما زلت أحتفظ بالكتاب الذى كان يقوم بتدريسه لنا.

وهو كتاب الطبيعة والشاعر العربي» لأستاذنا القدير د حسين نصار رحمه الله. ولكنى أدركت منذ حداثة سنى فى ذلك الوقت أننى لم أكن أتلقى درسًا من أستاذ عادي؛ بالضبط لأن هذا الأستاذ الشاب كان له حضوره الخاص، فكان كثيرًا ما يخرج عن سياق الكتاب الذى يقوم بتدريسه، ليلقى علينا دروسًا أخرى فى الثقافة والأخلاق والحياة بوجه عام.

 مرت سنوات عديدة كنت أسمع فيها عن تألق نجم هذا الأستاذ الذى شغل مناصب مرموقة فى الجامعة وفى وزارة الثقافة، أنتج أحمد مرسى أعمالًا رائدة فى مجال الأدب الشعبى كالأغنية والمأثورات الشعبية، وقد أهَّله هذا- بجانب شخصيته المُميزة- لتولى عمادة معهد الفنون الشعبية بأكاديمية الفنون، ولتولى مناصب عديدة مرموقة فى الداخل والخارج، لا أريد هنا الخوض فى ذلك؛ إذ يمكن لأى شخص أن يتعرف على هذا من خلال شبكة المعلومات.

وإنما أريد أن أحكى عنه من خلال صلتى الحميمة به، فذلك أجدى فى التعرف على هذه الشخصية العظيمة عن قرب؛ فالمناصب والألقاب ليست هى ما يصنع شخصًا عظيمًا مثل أحمد مرسي، توطدت صلتى به منذ أواخر التسعينيات شيئًا فشيئًا حتى صرنا أصدقاءً، كنت ألتقى به على حدة فى أحد مقاهى ومنتديات القاهرة أو بصحبة بعض الأصدقاء الحميمين من أمثال الدكاترة: أحمد زايد، وفيصل يونس ومصطفى لبيب (رحمهما الله)، والشاعرين الكبيرين أحمد عبد المعطى حجازى وحسن طِلِب، كنا نسمع أقوالًا عن أن أحمد مرسى يسعى دائمًا إلى السلطة، شاعت هذه الأقوال بعد أن تولى منصب أمين الشباب فى الحزب الوطني.

وأصبح بعد ذلك مقربًا من السادات، حتى إنه أصبح نديمًا له وكان يلتقى به فى أى وقت يشاء، وكان أقرب لتولى الوزارة- كما أخبرنى هو شخصيًّا- فى عهد السادات، لولا اغتياله سنة 1981، أثار هذا غيرة زملائه البارزين من الطامحين أيضًا إلى السلطة.

ولكن شتان بينه وبينهم: فأقرانه كانوا يسعون إلى السلطة من أجل التسلط، أما أحمد مرسى فكان يسعى إلى توظيف سلطته من أجل خدمة الناس، كان يرى نفسه فى هذا، ويسعده ذلك دائمًا، وهذا هو الفارق الكبير بينه وبين أقرانه ممن تولوا المناصب التى استماتوا فى السعى إليها..  أشهد أن أحمد مرسى كان شخصًا جميلًا لا مثيل له، كان محبًا للناس؛ لأنه كان أصلًا محبًا للحياة ذاتها. لم يلجأ إليه أحد فى مَظلمة إلا أنصفه ووقف إلى جانبه.

ولا ينبغى أن ينسى أحد أنه سعى لدى السادات من أجل الإفراج عن زميليه فى كلية الآداب ضمن من تم اعتقالهم: عبد المنعم تليمه وإبراهيم الدسوقى شتا. مواقفه الشهمة فى خدمة الناس لا تعد ولا تحصى، ولكنى أذكر هنا موقفًا دالًا على ذلك، حينما كنت أتولى أمانة المجلس الأعلى للثقافة تلقيت طلبًا عاجلًا بإعداد برنامج لمسابقة للشباب تنظمها الدولة فى سائر المجالات، مع تحديد الشروط اللازمة للترشح والفوز فى كل مجال من هذه المجالات، قمت بترشيح المتخصصين فى سائر المجالات.

ولجأت إلى أحمد مرسى لكى يترأس هذه اللجنة، لم يخذلنى رغم أنه لم يكن يستطيع المشى آنذاك بسبب إصابة فى رجليه جعلته لا يستطيع ارتداء «البنطلون»، وكان يمشى على عكاز.. كان يأتى إلى المجلس لابسًا «الشورت» متكئًا على عُكازه، مما أثار دهشة موظفى المجلس.

 كنت ألجأ إليه حين الملمات، ولم يخذلنى يومًا فى النصح والوقوف بجانبي. كنا نتهاتف أثناء مرضه العضال الذى ألَمَّ به منذ سنوات معدودات، كان لا يزال متفائلًا بالعلاج الذى يُسمى بالعلاج المناعى الذى كان يداوم عليه بين إسبانيا والقاهرة، خلال مكالماتنا الأخيرة لاحظت أن هذا التفاؤل بدأ يتوارى تدريجيًّا.

ما يؤلمنى الآن أنه كان يقول لى فى كل مكالمة: «عدى علىَّ يا سعيد»، كنت أعده بذلك، ولم أفعل، كنت أتمنى أن أراه قبل رحيله. لم أتوقع هذا الرحيل المفاجئ، ولكن العزاء الوحيد هو أن ذكراه العطرة سوف تبقى فى نفسى وفى نفوس كل المحبين له، نحن جميعًا موجودات مخلوقة لكى تصبح ذكرى؛ لأننا موجودات من أجل الموت (كما يقول هيدجر)؛ ومن ثم فلن يبقى منا سوى الذكرى، وإلا فلن يبقى منا شيء على الإطلاق!.

اقرأ ايضا | حنان ماهر تكتب: غلطة لاعب السيرك.. متتالية شعرية اعترافية!