حنان ماهر تكتب: غلطة لاعب السيرك.. متتالية شعرية اعترافية!

حنان ماهر تكتب : غلطة لاعب السيرك: متتالية شعرية اعترافية!
حنان ماهر تكتب : غلطة لاعب السيرك: متتالية شعرية اعترافية!

أنشأ الشاعر بناء خاصًّا لهذا الديوان، كأنه متوالية شعرية، نقرأ النصوص فى حالة من التوالى والتتابع والارتباط، وكل نَص يرتبط بالنَّص التالى له

الكتاب: غلطة لاعب السيرك المؤلف عزمى عبدالوهاب الناشر: هيئة الكتاب

الذات هنا فى اعترافاتها تحاول أن تتحقق فى وجودها الشخصى وفى عُزلتها، وفى اشتباك مع قضايا إنسانية جمعية كأن الشاعر يتكلم بصوت أشخاص آخَرين فى حالة من التطهر العام.
يستطيع الشاعر الحقيقى التعبير عن الحالة بكل شاعرية، وذلك بكتابة النصوص التى تمس الشعور الإنساني، وتهتم بتراتُب وتعدُّد مستويات الواقع، هذا التتالى والتوالى ليس فقط المكتوب؛ ولكنه يتداخل ويتفاعل عند مستوى حواري؛ لذلك نجِد هذا الواقع له دلالته وأثره فى النصوص ولدَى المتلقي.
نحن أمام ديوان «غلطة لاعب السيرك» للشاعر عزمى عبد الوهاب الصادر عن سلسلة أصوات أدبية، التى تُصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، هى نصوص تقدِّم تجربة عن مواقف إنسانية، بما فيها من مشاعر، وتجربته الشخصية، وما فيها من قدرة على القرب من حياة البشر، وما يمسهم بشكل مباشر، والمزْج بين كل هذا كتابة، وهناك عملية بناء جديد، وما يتبعه من بناء ذِهن جديد عند المتلقى وكشف الدلالة والمعنى.

العنوان
«غلطة لاعب السيرك» بداية جملة اسمية تقريرية، وعلى المتلقى أن يكمل الجملة، هل هى غلطة أدت إلى خطر؟ أم أنها تنبيه للاعب من الوقوع فى أى غلطة؟ هذا العنوان به تشويق لمعرفة ما هذه الغلطة، التى حدثت، وعلى المتلقى - بعد القراءة - معرفة هل وقَع فى الخطأ أم لا؟

الديوان يتكون من 11 نَصًّا، وعناوين هذه النصوص بها ترابُط تتابعى وتوالٍ بترتيب محسوب؛ فكل عنوان له اتصال بالعنوان الذى يليه فى متتالية خاصة بالعناوين، نجد أول نَص بعنوان «تبدأ الحكاية بأكاذيب بيضاء» وهذه الحكاية يندرج تحتها ثمانية نصوص أو فصول.

وتنتهى النصوص بنَص «تنتهى الحكاية بأكاذيب سوداء» فى حالة من وضْع أساس لكتابة هذه المتتالية، وهذه النهاية يليها نَص «غلطة لاعب السيرك» الذى يُعتبر محصلة لبناء وفِكر الديوان، ونهاية لهذه المتتالية وهو «غلطة لاعب السيرك».


الغلاف
برغم أن ألوان مكعب روبيك لافتة للنظر؛ لكن ليس هناك صِلة بين العناصر الفنية للغلاف من المكعب والفيل ومحتوى المطبوعة ولا العنوان، العنوان واسم المؤلف مكتوبان بطريقة متعمدة «للخطأ» فعنوان الديوان غير منتظم، واسم المؤلف مكتوب من أعلى إلى أسفل، وليس بالطريقة الاعتيادية للكتابة، وهذا مناسب للعنوان.


 الغلاف الأخير
 جزء مناسب، ويعبِّر عن الديوان وفكرته من الكتابة عن ذات الشاعر، الذى يعيش بمهارة ومغامرة لاعب السيرك.


بناء الديوان
أنشأ الشاعر بناء خاصًّا لهذا الديوان، كأنه متوالية شعرية، نقرأ النصوص فى حالة من التوالى والتتابع والارتباط، وكل نَص يرتبط بالنَّص التالى له، كأنها تمثل حكاية أو تشبه فصول المسرحية، وبها تقنيات السرد، والديالوج، والمكان والزمان، فنجد الشاعر يكتب حيوية المشهد بتفاصيله ويرصد الفضاء الاتصالى بين الفكرة والكتابة.

وبين الفكرة ولغة النَّص وبنائه، وما يتبع ذلك من اتصال بين المتلقى والنَّص، وبذلك يحشد فضاء الكتابة بالأفكار والذوات، ذات الشاعر وذات المتلقي، وما بينهما من ذوات مكتوبة وشخصيات، وكل ذلك فى فضاء يحمل اختيارات الأنا أو ذات أخرى.

وكل نَص فيه أفكار وأبطال مثل «الرجل العابر» و»السيدة التى فقدت زوجًا فى الحرب» وشخصية باسم «ريم» بل وقصة وما بها من مواقف، بل تصل إلى مشاهد تمثيلية ودرامية مثل نَص «رجُل سِريٌّ وامرأة علنية»(ص19) ونَص «غلطة لاعب السيرك»(ص53) وتظهر تقنية الديالوج فى نَص «تكتب قصيدة جديدة»(ص35).

هذه المتوالية هى سلسلة أفعال قابلة للتذكير.
 فى حالة من تأريخ أحداث وأفعال، ممكن أن تُنسي، وهى أشياء رغم احتمالية أن تكون مزعجة، وهناك محاولة لنسيانها؛ إلا أنها أحداث مؤثرة لدى الشاعر، أهمية كتابة ذلك كون هذا البناء يعطى حيوية لكل لحظة زمنية فى النَّص.

وأهمية دلالتها فى النَّص، ولدى المتلقى من ربْط الأفكار وارتباط المتلقى بالنَّصوص، ومنه يُصبح من الصعب الفصل بين الظروف المحيطة بالكاتب وبين النَّص، وذلك فى حالة متوالية أخرى بين الكاتب والظروف الحياتية والخبرات السابقة.

وما يلى ذلك من أثر ذلك على ذات الشاعر، وما بعد ذلك من كتابة النَّص، البناء من حيث اللغة فى المتوالية نجد مثلا صِيغًا ثابتة خاصة من تكرار جملة معيَّنة، يتراوح طولها بين كلمة أو كلمات، أو صيغ تعبيرية ذات سياق محدد مثل «السيدة التى فقدت زوجها فى الحرب» (ص8/ 9/ 11/ 47) على سبيل المثال وكذلك جُملة «الرجل العابر» (ص23/ 27) كتبت «العابر يكتب قصيدة مهزومة».

وفى النهاية نجد أن ذات الشاعر هو الرجُل العابر، نقرأ «أنا الرجل العابر»(ص47) وكذلك وجملة «تكتب قصيدة إيروتيكية»(ص13/ 33) هناك كذلك أنساق الصياغة، وهى عبارات أو جُمل تتشابه إيقاعيًا أو نحويًا.

والاختلاف يكون فيها بسيط مثل كتابتها فى سياق آخَر مثل مفردة «يا ريم»(ص35) و»ريم التى أحبها وتحبني» (ص38) فى نَص»تكتب قصيدة جديدة» و»تعالى فى منامه يا ريم» فى نَص «تكتب قصيدة جديدة أيضًا».


بل نجد الشاعر قد عرَّف القصيدة فى هامش النَّص، نقرأ: «طبق الأصل مما كتبته السيدة لصديقتها الغريبة عن البلاد وتركته فى أوراق الرجُل العابر» وهنا نجد ربْط توالى نصوص الديوان بعضها ببعض فى حالة من كتابة ذات، لها بناء خاص ومقصود؛ لترسيخ أفكار الديوان وتفعيل شكل جديد من الكتابة فى حالة من التجديد والتمرد على أشكال الكتابة التقليدية لكتابة النثر، بل نجد كذلك فى تعريف لعنوان النَّص فى الهامش «تكتب قصيدة إيروتيكية» (ص31) «طِبق الأصل مما تركته السيدة، التى فقدت زوجًا فى الحرب فى أوراق الرجُل العابر» فى تراتبية متوالية، تدل على أن هناك رابطًا للأفعال.

وللهَمِّ الإنسانى فى كتابة تمَس الروح الإنسانية والاجتماعية، وتوالى واتصال الخطاب بخطابات أخرى، وبظروف إنتاج معيَّنة تهيمن على الخطابات المتجاورة والمتتالية، وتعطى انفعالًا داخليًّا للمتلقى ليجد أثر النَّص متكاملًا ومترابطًا عنده.

بل يجعل هناك كتابة دائرية، تجعل المتلقى يرجع إلى النَّص، الذى يسبق ما يُقرأ فى حالة من الديناميكية، وتفعيل الاتجاه الوجدانى لديه، هذا يجعلنا نربط بين ارتباط الديوان ككل بعضه ببعض، وبين ارتباط الشاعر الوجدانى بقريته وبلده، التى مازال يحمل لها بعض المشاعر.


 هناك صيغ بنائية مشترَكة، وهى الصيغ التى تشترك لفظيًا فقط، وتتكرر فى مواقع مختلفة، ولكن تختلف فى الدلالة مثل: «مصابيح الشوارع زرقاء» (ص9) و»الشوارع القاسية» (ص20) وكذلك «لدى الصيادين» (ص9) و«لتصبح الفريسة صيادًا والصياد فريسة» (ص10) و»ذهبت تبحث عن صياد جديد» (ص25) كل ذلك التراكم المتتابع يعطى نموًا مطردًا لهذه النَّصوص. 


وِحدة صوتية
هذا يعطى وِحدة صوتية، ويعمِّق الدلالة وما بينها من بناء وعلاقات ونظُم كتابية، ونجد أن الإيقاع فى النصوص يعتمد على البنية الصوتية للمفردات وحروفها، مثل التكرار المقطعي، أو ترتيب الصوت لألفاظ معينة لأنها مهمة لدى الشاعر، أو تغيير طول وقِصر كتابة سطور النصوص.

وما بها من تدفُّق شعوري؛ فتولد لدى المتلقى إيقاعًا ينبض بالحركة، كل هذا يسمَّى بالإيقاع الداخلي، والذى ينبع من طبيعة حروف المفردات ذاتها.فى ذلك البناء هناك مرحلة اشتباك الشاعر مع النَّص ولغته وفكره.

وما قبل ذلك من اشتباك مع تجاربه السابقة، وخبراته وصراعه مع انفصاله المكانى بينه وبين بيئته الأصلية، فلا نجد صيغًا أو مفرداتٍ متَّصلةً بهذه البيئة السابقة، ولكن هى مفردات معنية بالبيئة المحيطة الجديدة. 


وهناك بناء آخَر من تكرار القاعدة فى تصوُّر المفاهيم والأفكار، وهذا التكرار يجعل النَّص محكومًا بالتسابق بين ما يحققه فى تواليه الفكري، وما يطمح الشاعر فى تحقيقه من دلالة وأثَر، وبذلك تتولد لدى المتلقى الأفكار، ويعيد تشكيلها فى النصوص من البداية للنهاية، وهى كذلك من دلالات الكتابة الدائرية فى النصوص أولاً وعند التلقى بعد ذلك.


نَص «غلطة لاعب السيرك» (ص53) نجِد هنا ذِكر رواية «ليس فى رصيف الأزهار من يجيب» (ص53) للكاتب مالك حداد، فمحتوى الرواية به نوع من التماثل والتماهى بين بعض ظروف بطل الرواية والكاتب، فهو قد انتقل من مسقط رأسه ومكان إقامته إلى بلد آخَر، فبطل الرواية هاجَر من بلده الجزائر إلى فرنسا، والشاعر انتقل من بلده إلى القاهرة، وذلك يعطى إيحاءً ضمنيًا بمعاناة ذات الشاعر من عقبات ومشاكل وغربة صادفته.


ومثال على ذلك البناء وتقنياته، نجِد نَصًّا بعنوان - وهو نفس عنوان الديوان - «غلطة لاعب السيرك» بما فيه من شخصيات وزمان ومكان، وحِوارية ذاتية، بل وبداية ونهاية بمشهد مسرحى مهيب، من حمْل الأصدقاء المقرَّبين جثته، نقرأ ذلك (ص58) فهل انتقاله من قريته غلطة؟ أم أن هناك أخطاء لا يبوح بها؟ أو أن ما فَعله وحياته كلها فى الأساس هو كلاعب السيرك - برغم متعة هذا العمل - إلا أن به خطرًا كبيرًا ومجازفة؛ بل إن خطأ صغيرًا يمكن أن يصيب هذا اللاعب بالأذى الكبير.

فى دلالة أن الكاتب يسير على سلك مشدود مثل لاعب السيرك، ويتعامل ويروِّض كائنات متوحشة وغير أليفة حوله، وفى ذلك من خطر ووجوب أن ينتبه انتباهًا شديدًا وحِرصًا كبيرًا - من قِبَله - من الفعل نفسه، ومن الكائنات الموجودة حول هذا اللاعب/ الكاتب، كل هذا فى جوٍّ مشحون بحُبه للكتابة، وما بها من كتابة جيدة.

وغيرها مشوَّش ولكنه سيكتب للحظة الأخيرة، نقرأ ذلك: (ص53) «أنا أحب الكتابة، أريد أن أظل أكتب هكذا أكتب حتى اللحظة الأخيرة» إن مفردة صديق، التى لا نتأكد أنه صديق موجود بالفعل، أم أنها ذات الشاعر نفسها التى يعتبرها صديقه أم روح تحوم حوله، فعادة لا يترك الكاتب مكتبه لأى كائن من كان يجلس هكذا عليه.

ويدوِّن ويجمع أوراقًا نقرأ (ص53) «صديقى يترك كل شيء ويجلس إلى مكتبي» لذلك نجد أن الشاعر فى حالة من الانعزالية، وأن ذاته هى هذا الصديق، الذى يتحدث معه الشاعر، نقرأ: «يدوِّن بعض الملاحظات عن أيامى الأخيرة» (ص53 و54).

وكذلك «فى إضاءة شاحبة غرفة لا ترى الشمس» وتدليل آخَر من الشاعر، أن هذه الذاتَ واحدةٌ، فهو يرى «أن شعرى مَنَحنى هيئة مجنون أو شخص غائب طوال الوقت» (ص54).


 هذه الذات الصديقة التى تعرف الكثير عن الشاعر؛ بل تعرف كل شيء، ومن قتله، وكيف، وهنا القتل معنويٌّ، نقرأ: «صديقى يعرف أشياء كثيرة.. هو الوحيد الذى يعرف قاتلي.....» (ص45).

ولأنه لا يريد لومًا أو عتابًا من أحد على اختيار وظيفة لاعب السيرك الخطيرة؛ نقرأ: «يودُّ لو تُقيد الحادثة ضد مجهول» وفى انتقال مقصود إما لجعل المتلقى ينتبه إلى من «هو» نقرأ «هو يريد أن يكتب كلامًا مفرطًا فى إنسانيته ليتصدَّر ديوانًا يراه كفيلًا بأن يمنحنى خلودًا ما....... الأخير» (ص54 و55) وذلك فى دلالة أخرى أن الشاعر هو ذات الـ «هو» الذى أشار إليه فى البداية على أنه الصديق. 


ويؤكد أنه صديقُ نفسه، ومنطَوٍ على ذاته، فيكتب: «سيطارد الموت كأنه حادث سَير منذ ديوانى الأول «النوافذ لا أثر لها» إلى الأخير «يمشى فى العاصفة» (ص55) وتظهر مرة أخرى السيدة التى فقدت زوجها فى الحرب، فى حالة من ربْط النصوص ببعضها.

ووضْع الوحدة الموضوعية والعضوية للمطبوعة، نقرأ: «سيشير من بعيد إلى مخطوطة السيدة فقدت زوجها فى الحرب» (ص55) هذه الذات الأنا للشاعر، والهو للصديق، اللذان هما واحد يعترف فى النَّص (ص55) «هو يعرف أننى عشت حياتَين» ولن يكون هناك أدرى بذلك غيرُ ذاته. 


ولاعب السيرك الذى يعيش خطورة المشى على السلك مثلاً، وما بها من خطورة، ودِقة فى التحرُّك، وحساب لكل خطوة، بعدها يؤكد على أن ما يفعله فى حياته الحافلة بالأحداث نقرأ: «من عمل ووظيفة وبين حياة المجون» (ص55) وكيف تعامَل مع مجاراة تغيرات الحياة وتلوُّنها نقرأ: «كانت حياة باردة وكان يعرف متى أضع القناع.

وكثيرًا ما حذَّرنى من غلطة لاعب السيرك» (ص55) ويبدأ التلاشى والتماهى بين الشخصيتين، التى أراد أن يضلِّلنا بهما منذ البداية، ونكتشف أنها شخصية لها ذات واحدة، نقرأ: «مسافة وهمية لا يراها غيري» (ص56) وكذلك «اقترب التلاشى فى هيئة شخص».

وهذه اللحظة رآها الشاعر هى غلطة لاعب السيرك، ويحاول استعادة نفْسه من المتاهة التى كان مدفوعًا لها، نقرأ: «يحاول استعادتى من متاهة كنت مدفوعًا إليها» (ص56) ومازال الشاعر يشير إلى ذاته المنفصلة إلى ذات وصديق دلالة هذه التوهة فى الحياة.

وما بها من ضغوط وطموحات، ومحاولة تحقيق الذات، وما فى ذلك من فشل قابل للحدوث، بل وهذا الفشل حدَث فى أوقات رغم أنه عاش فى الحياة بمهارة لاعب السيرك لكنه، نقرأ: «هوَى حين نظر إلى أسفل.. كانت الخديعة شركًا يبتلع جثته.. الحقيقة أننى لا أثق فى أحد» (ص57).

وبذلك نجد أنه ليس هناك صديق؛ هو يحدِّث ذاته فهو لا يثق فى أحد، وهو كذلك منعزل ووحيد برغم الزخم حوله، وهذه الحياة الصاخبة بالكتابة والأشخاص والنساء والمغامرات والقراءات، لكن هذه الذات نقرأ: (ص57) «تتعفن فى الوحدة».

وهناك هذا التناقض فى هذه الذات المكتوبة بين حُب الكتابة فى بداية النَّص (ص53) «أنا أحب الكتابة» وكَرِه الكتابةَ فى آخِره: «أنا أكره الكتابة» (ص58) هذا التناقض بين هذه الحياة الصاخبة والشعور بالانعزالية والإحساس بالوحدة.


 يتمنى الخلود لكنه يكتب كثيرًا عن الموت، يتصور أنه يعيش حياة باردة رغم اختياره حياة لاعب السيرك، التى بها المغامرة والتشويق، يريد الموت بل الانتحار، وعينه على الدنيا والحياة بعد موته، فيريد أن يطل من قبره ليرى كيف تُنتهك حياته السرية، نقرأ: «أخشى أن أطل من قبرى لأرى كيف ينتهكون حياتى السرية» (ص58) بل يُقر بهذا التناقض نقرأ: «وكشفت تناقضاتى فلم أحتمل نثرية الحياة وشعرية الانحراف» (ص56) هو فى النهاية يشير إلى أن كل ما يبحث عنه هو السلام، بمعناه العام؛ سلام نفسى مع ذاته ومع الآخَرين.

ومع العالم، نقرأ: «فالسلام الذى بحثت عنه لا أريد أن أضيعه هنا» (ص58) وينتهى النَّص بأنه يريد العودة إلى قريته بعد هذا الاغتراب، وأن تخلده سيرته الطيبة، وليس خلودًا مصطنعًا، نقرأ: «أودُّ أن يحمل الأصدقاء المقربون جثتى إلى قريتى التى ابتعدت ثم يقولون كان ريحًا لم تلوثها أنفاس البشر» (ص58).


شعر الاعتراف
يُعرف أدب الاعتراف فى العموم أنه جِنس أدبى يُعنَى بكتابة الذات، وهو وثيق الصلة بالسيرة الذاتية، بما فيه من دلالة البوح، وكشْف حقائق عن هذه الذات وشعراء الاعتراف بالخصوص.

وهم مجموعة من الشعراء ظهروا فى أواخر خمسينات وستينات القرن الماضي، قاموا بكتابة شِعر يكشف عن مشكلاتهم الشخصية، وأزماتهم الوجودية بدرجة كبيرة من الصراحة، وشعر الاعتراف أقرب إلى أن يكون «دراسة حالة» فى علم النفس، لما به من كتابة قصائد كثيرة عن مشاعر الإخفاق وإحباط الآمال والوحدة والحزن والكآبة.

وذلك فى بوح شفيف يمَس الكثير من المشاعر الإنسانية، ومن الشعراء الاعترافيين: الشاعر أحمد عبد المعطى حجازي، وديوانه «لم يبقَ إلا الاعتراف» ومن ناحية أخرى ربَط البعض بين الاعترافات الدينية أمام القس والاعترافات فى الكتابات الأدبية؛ فكل منهما تسعى إلى فكرة التطهر، بتطهير الذات، وذلك بمواجهتها بالخطايا والآثام التى ارتكبتها عبْر مسيرتها الحياتية، الاعتراف هنا ليس من مبدأ العبد والسيد؛ إنما هو تطهير الذات.


تقترب الاعترافات بدرجة كبيرة مما يدعوه جيرار جينت بالبوح؛ أى سرْد الذات، أو بوحها لذاتها أو عنها فيتوحد فيه الرَّاوى مع الشخصية الأساسية من حيث الصوت السردى الشعري، فالسارد/ الكاتب/ الشاعر/ الشخصية هى كلها لنفس الشخص، وأشرت إلى ذلك فى أن ذات الشاعر هى ذات الصديق ولهما نفس الصوت فى نَص «غلطة لاعب السيرك».


نقرأ هذه الاعترافات فى الكثير من المواضع فى الديوان مثل: «تتمتم فى نوبة صدق نادرة/ تلك أوساخي/ لا تغسلها أمطار يناير/ السيدة باتت خرقة/ يمسح فيها الرجال أحذيتهم» (ص12، 13).

كذلك «ستعترف لاحقًا....وستعترف رسالة الفجر أنى أموت» (ص16) «كانت تجربة قاسية خسرت فيها كثيرًا» (ص21) وكذلك «كان لابد أن أسمح لك بدخولي/ لأخرج من وحدتي/ لكنك/ فتحت شهيتى للجنون» (ص33) كذلك «أنا الرجل العابر الذى يعيش عطلة الكلام القدرى المهزوم/ مكسور الظهر حتى آخر قطرة».

وهذا الاعتراف ظاهر بشكل كبير كما فى نَص «تنتهى الحكاية بأكاذيب سوداء» (ص47) نقرأ «أنا المعرفى الذى لا يعرف سقطت فى بئر الضحالة» (ص47) «أنا كرة الثلج تقاذفتنى أقدام النساء»، «أنا الندم الأسود يسعى فى الأسواق» (ص48) «فى آخر الليل يؤويه الرصيف/ نمت مع امرأة المحارب الرعديد» (ص49) «أنا الوجودى الذى لم يكن...أنا الشيوعى الذى تنبأ بالثورة» (ص50) وينتهى النَّص باعتراف كامل نقرأ «أنا الغنائي.. الخاسر.. الضائع.. المهزوم.. المتردد.. الكسول.. الشكاك.. الصامت.. الوحيد.. الحزين.. الخائف.. الرمادي.. ولا خجل.. أنا كل هذه اللخبطة أو كما قالت صديقتى يومًا أنت ولا حاجة».


وكذلك اعتراف فى نَص «غلطة لاعب السيرك» (ص53) نقرأ: «أنا أحب الكتابة» و»أننى عشت حياتين واحدة فى قبلات الحدائق العامة والجنس السريع فى الشوارع والبيوت التى ترددت عليها كأنها بيتي» (ص55) «أنا ميت يا عالَم» (ص58) وفى النهاية اعتراف كبير ومتناقض مع قدرة الكاتب على الكتابة والبوح، نقرأ: «أنا أكره الكتابة» (ص58).


الذات هنا فى اعترافاتها تحاول أن تتحقق فى وجودها الشخصى وفى عُزلتها، وفى اشتباك مع قضايا إنسانية جمعية كأن الشاعر يتكلم بصوت أشخاص آخَرين فى حالة من التطهر العام.
ونجد أن تمازج جدية البناء أو الشكل الكتابى وبناء العبارات وتشكيل الصور مع المضمون والمعنى الذى يكون وراءه انفعال ما يكشف عن تجربة وخبرة، لها أبعادها المؤثرة فى فكر ووعى وحياة الشاعر، هذا كله يعطى مفاتيحَ للمتلقى لفهْم هذه التجربة وفهْم جماليات وخصائص النَّصوص.


فى النهاية
فى الشعر يصح تطبيق عبارة برنارد شو «اللا قاعدة هى القاعدة الذهبية» لأن الشعر ينبع من أحداث الحياة،وليس للحياة قاعدة معيَّنة تتبعها فى ترتيب أحداثها، كما قالت نازك الملائكة والإنسان/ الشاعر هو أحد أبطال المشهد، كل هذا وحكايته مع الشعر به ألم ومعاناة واضطراب، وسعادة وحزن، وخوف ورغبة وأمل.


 إن الديوان به حالة من الاستشفاء والاستقواء - والاستقواء فكرة  كتب عنها د. عادل ضرغام فى مقال نقدى منشور فى القدس العربى فى عدد 15 -5-2022 - الاستقواء على الكآبة والوحدة والحزن ومحاولة الاستشفاء من المشاعر السلبية بالكتابة، وتأصيل التجربة الإنسانية عامة، وهو ما يجعلها تؤدى إلى الصدق والإخلاص الفني.
 

إقرأ أيضا | د. حسام عقل يكتب : «القاهرة ـــ لندن.. قبلة الفراق»: نصان متوازيان