كنوز| أقدم «مستريح» احترف النصب في القاهرة وأوروبا!

حسين شريف يجلس بين موظفى بنكه الوهمى
حسين شريف يجلس بين موظفى بنكه الوهمى

لم يتوقف الكثيرون ممن تابعوا مسلسل «طلعت حرب» الذى كتبه محفوظ عبد الرحمن - رحمه الله - للإذاعة امام شخصية د. حسين شريف «مؤسس» البنك المصرى العام ، وظن البعض أنها شخصية مصنوعة من خيال محفوظ عبد الرحمن الذى أكد فى مقال نشره بجريدة «البيان» الإماراتية بعنوان «التأليف وحكايات أخرى» بتاريخ 10 يناير 2002 أن شخصية حسين شريف التى استعان بها فى المسلسل هى شخصية حقيقية لشخص كان ملء السمع والبصر فى فترة الثلاثينيات من القرن الماضى، نصاب محترف ومحتال أسس «البنك المصرى العام» ليحتال به على المودعين، على غرار ما يفعله كل «مستريح» ممن نسمع عنهم الآن ويتم القبض على بعضهم ومع ذلك فالحكايات تتوالى والناس لا تتعلم ّ!

لكن «المستريح» القديم حسين شريف الذى أطلق على نفسه لقب « كونت أوف ملوى « كان على درجة كبيرة من الذكاء والدهاء بما جعله يحتال على ضحاياه فى القاهرة وباريس وروما،  ومحفوظ عبد الرحمن لم يعاصر هذا النصاب لأنه وُلد بعد إلقاء القبض عليه بتسع سنوات لأن محفوظ من مواليد 11 يناير1941 وقد استعان بالمعلومات التى استخدمها فى المسلسل عن هذا النصاب من التقرير الذى نشرته مجلة «المصور» فى 23 يونيو 1932 وأعادت نشره دورية «أيام مصرية» فى مايو2001 . 

النصاب حسين شريف بدأ مشواره موظفا فى «البنك الزراعى المصرى»، أوهم رؤساءه بالاستقامة والنزاهة والشرف فوثقوا به، لكنه خدع رؤساءه عندما سلموه مبلغ « 2000  جنيه»  ليوردها فى مأمورية حكومية، وهرب بالمبلغ إلى فرنسا، وتزوج هناك من فرنسية وأطلق على نفسه اسم «الدكتور حسين شريف..كونت أوف ملوى» أى «أمير ملوى» وبهذه الصفة المزعومة اتصل بالأوساط الفرنسية الرفيعة المستوى والحيثية فكسب ثقتها ونقودها، وتمكن بلباقته من ربح أموال وفيرة من بيوت المال الفرنسية، حتى تلقت إدارة الأمن العام فى باريس كثيرا من الشكاوى التى قُدمت ضده.

وقبل أن تقوم الشرطة الفرنسية بالقبض عليه اختفى من باريس، وظهر فى روما على أنه واحد من ذوى الثراء من أبناء العائلات المصرية الكبيرة، وعاش فى أرقى الأحياء بروما، واتصل بأعلى الطبقات الاجتماعية، فحقق المكانة التى تكسبه المال، وعندما فكر فى العودة إلى مصربرفقة زوجته الفرنسية، قرر أن يعود بشهادة علمية، واستطاع بالاحتيال والتزوير دخول امتحان الدكتوراة فى الحقوق أمام جامعة روما، بدون ان يكون حاصلاً على شهادة الليسانس !ّ


المهم أنه عاد لمصر بشهادة الدكتوراة التى سيتضح فيما بعد أنها مزورة، لكنه نجح فى قيد اسمه بجدول المحامين لدى المحاكم المختلطة، وافتتح مكتباً فخماً، وأطلق السماسرة فى أنحاء القاهرة والريف بحثاً عن زبائن لهم حيثية وثقل مالى، وملأ مكتبه بموظفين أجانب ومصريين، وامتلك السيارات الفخمة، ولا يدرى أحد كيف فعل ذلك وهو محكوم عليه فى عام 1906 بالحبس فى قضية المبلغ الذى هرب به إلى فرنسا، ولا يدرى أحد كيف لم يتم اكتشافه أيضا عندما أسس وافتتح « البنك المصرى العام « الذى أسند لنفسه رئاسته، خاصة وأن الافتتاح حضره لفيف من الشخصيات العامة ورجال المال ومندوبى الصحف التى أعلن لها الدكتور حسين شريف أن رأس مال البنك «150 ألف جنيه» - فى زمن الكساد العالمى - وهو ما يعادل ضعف رأس مال «بنك مصر» عند تأسيسه، ومع ذلك احتفت به الصحف وروجت لتصريحاته وهى لا تدرى أنه نصاب محترف !

تشكك ضابط برتبة ملازم أول فى ضخامة مبلغ تأسيس البنك المزعوم، ويبدو انه كانت لديه معلومات سابقة عن حسين شريف، فنقل شكوكه لزملائه، الذين طافوا حول مبنى البنك المؤثث بشكل فاخر، وبعد تحرياتهم السرية تأكد صدق الشكوك، وحصلت الشرطة على إذن من النيابة بمداهمة مقر البنك فلم تجد فى خزائنه أموالا تذكر، وكانت التحريات قد اشارت إلى أن مؤسس البنك مدين لكل من ساهم فى تأسيس مقر البنك.

وكان يتحصل على مبالغ مالية ممن يقوم بتوظيفهم بالبنك، وحين سئل عن رأس المال قال إن المبلغ الذى دفع منه هو ستة آلاف جنيه فقط، والباقى موزعٌ على أسهم، وطلبت منه النيابة أن يقدم المبلغ الذى يتحدث عنه فلم يظهره، وتبين من خلال التحقيقات التى أجرتها النيابة أن مقر البنك يقع فى شارع الشريفين ناحية البورصة، بناءٌ فخم فوقه حروف كبيرة تحمل اسم «البنك المصرى العام»، ولافتة عليها أنواع المعاملات التى يقدمها للعملاء.

واتضح ان حسين شريف حصل على أثاث البنك الفاخر من آخرين لم يسدد لهم مليما واحدا، ووعدهم بأنهم اصبحوا مساهمين فى رأس مال البنك الوهمى، واتضح أيضا أن العاملين فى البنك دفعوا مبالغ مقابل تعيينهم، وأغلبهم من الأجانب، واعترف أحدهم أنه دفع 300 جنيه لكى يحصل على وظيفة صراف ثان !
وتقول مجلة «المصور» فى تقريرها المُستمد من تحقيقات النيابة، إن رجال الشرطة عندما داهموا البنك وجدوا الخزائن الحديدية التى يبلغ ثمنها 300 جنيه فارغة، وعثروا على مطبوعات البنك بقيمة 200 جنيه، وماكينات الطباعة والمكاتب والأثاث، والأدوات الكهربائية والسجاجيد، ولم يدفع مؤسس البنك من ثمنها إلا مبالغ يسيرة،  بالإضافة لمبلغ 140 جنيها كانت فى خزينة المديرالذى استعار صورة للملك فؤاد المعلقة فى مدخل البنك من محل تصوير، وعندما فتش رجال الشرطة منزل حسين شريف الكائن فى 18 شارع فؤاد الأول.

لم يجدوا فيه أثراً لأى نقود، وقُدمت شكاوى كثيرة ممن احتال عليهم مؤسس البنك، وحقق رئيس المحكمة المختلطة فى تلك الشكاوى بعد عقد مجلس تأديب لشطب اسمه من جدول المحامين، وتم إرسال خطاب للنائب العمومى للمحاكم الأهلية بناء على طلب النيابة العمومية المختلطة يفيد بالحكم الصادر من الجمعية العمومية لمحكمة استئناف الإسكندرية المُختلطة المشكلة بهيئة مجلس التأديب الذى يقضى بمحو اسم حسين شريف المحامى من جدول المحامين.

والإشارة إلى التيقن من أنه نفس الشخص الذى حُكم عليه يوم 16 يناير سنة 1906 من محكمة «ههيا « الأهلية بالسجن ستة أشهر لاختلاسه « 2000  جنيه» من البنك الزراعى المصرى، وتقرير مرسل من إدارة الأمن العام فى باريس بجرائم النصب والاحتيال وخيانة الأمانة التى مارسها فى فرنسا، والطريف الذى كشفت عنه «المصور» أنه تمكن من إبرام صفقةٍ بمبلغ 30 ألف جنيه لبناء عمارةٍ لأحد الوجهاء قبل إلقاء القبض عليه !! 

«المصور» - 23 يونيو 1933

اقرأ أيضا

كنوز| ذكرى ميلاد سليمان باشا مؤسس الجيش المصري