حكايات الإسكندرية| مهد الفن البديل لهذا السبب

سيد درويش
سيد درويش

محمد القليوبى

هل البحر، أم طبيعة الناس، أم الكوزوموليتانية التي تمتعت بها الإسكندرية؟، أكثر من سؤال حول السبب الرئيسى لكون تلك المدينة الساحلية دوناً عن غيرها منبعا للفن والموسيقى، خاصة تلك التي تكسر التابوهات والتقاليد السائدة في عصور مختلفة، فمنذ إنشاء الإسكندرية كانت هي الفنارة الثقافية لكل محيطها المحلي والإقليمي، بل وكانت مهداً لهؤلاء الذين يرغبون في وضع أسس جديدة للفن بكل أشكاله.

 

عقب الإحتلال الإنجليزي لمصر 1882اختلطت الجنسيات المصرية مع الإيطالية و اليونانية و الأرمينية و غيرها من الجنسيات، وكان هذا الأمر كفيلاً لأن يجعل المبدعون خاصة الموسيقيين منهم أن يحلقوا خارج حدود المعهود، حتى أتى ذلك العصر الذي ظهر فيه شاب سيغير مصير الموسيقى المصرية حتى اللحظة، و كان هذا الشاب من الطبقة الفقيرة التي لم يكن بمقدورها الخروج على السطح للبوح بما يريدون، لكن كان هناك استثناء اسمه “سيد درويش”، وكان أبوه يعمل بحاراً في حي كوم الدكة وأراد أن يصبح ابنه شيخاً معمماً لكن سيد وجد في الغناء ضالته لكسب الرزق منذ أن كان في عم الرابعة عشر، وبدأ تلحين أولى ألحانه منذ أن كان في عمر 15 عاما، لأنه لم يرغب أن يعيد غناء ألحان الموسيقيين المشهورين في ذلك الوقت، وذكر هذا المبدع تحديداً لأنه الموسيقار والمغني الذي أثر على أقرانه الشباب الذين ظهروا لمائة عام قادمة، وذلك كون سيد درويش أول فنان مستقل بمفهوم العصر الحالي، فلم يكن له شركة إنتاج أو راعي فني، بل كان يحارب من أجل استقلاليته الفنية، وحتى موسيقاه مثلت اختلافاً عن السائد في تلك الأوقات من خلال التنقل بين الموسيقى المصرية والسودانية و الأفرنجية، فكان وقع أغانيه على المسامع مختلفاً ليطلق عليه لقب “الفنان الذي سبق عصره “.

بالانتقال من سيد درويش وتجربته الموسيقية كانت هناك تجارب حديثه مستقلة كلها تأثرت بفنه وموسيقاه، وأهمها تلك التي قدمتها فرقة “مسار إجباري”، فالفرقة هي المعبرة عن روح الإسكندرية بكل تفاصيلها، فمنذ حفلاتهم الأولى كانت تقدم مسار إجبار أغاني سيد درويش بعد إعادة توزيعها في إطار السوفت روك، وهي الموسيقى التي تميزت بها مسار طوال فترة ظهورها وعملها، وتتكون الفرقة من هاني الدقاق وحافظ، وأيمن مسعود، وتامر توسي، ومحمود صيام، وهم جميعاً من الشباب السكندري الذين جمعهم حب الموسيقى، والرغبة في الخروج عن المألوف، وقدموا أولى أغانيهم أمام الجماهير هناك، وعلاقتهم بالإسكندرية علاقة قوية، وعن هذا قال هاني الدقاق عن الفرق بين الإسكندرية والقاهرة بالنسبة لهم: “هناك فروقات كبيرة بين المدينتين ففي الإسكندرية بالنسبة لنا هو مكان الإبداع والموسيقى، لكن القاهرة هي المدينة التي تسمح أكثر بالعروض، والاحترافية من حيث مكونات العمل، فنلخص الأمر أن القاهرة تعرض فيها أفضل، لكن الإسكندرية هي التي نؤلف فيها أغانينا أكثر، فمراحل كل أغنية تمر بالكثير لأننا نستمع لها في أكثر من مكان حتى نخرج بمنتج نهائي”.

أعضاء الفرقة كان يتملكهم شغف كبير عند حديثهم عن الإسكندرية كونها المدينة التي وجدوا فيها فنهم وموسيقاهم، وكونها الحاضنة الأولى لأفكارهم وأعمالهم فيما بعد.

شوارع الإسكندرية و حواريها وأحياءها لها مكانة خاصة ووقع آخر على سكانها، فمن المشاهد الطبيعية أن تجد مجموعة من الشباب يقفون سوياً على “الإمة”، يتبادلون الأفكار و الأحاديث، والمواضيع سواء عن حياتهم أو الأفلام التي شاهدوها، أو الموسيقى التي استمعوا لها، ومع ظهور الموجة الأولى لموسيقى الراب في مصر، كانت تلك التجمعات هي محل ميلاد تلك الموجة بكل تفاصيلها، فتحولت تجمعات الشباب في شوارع الإسكندرية إلى معتركات لغناء الراب بكلمات حادة وناقدة لكل مناحي الحياة سواء في المجتمع أو السياسة أو طبيعة اليوم.

ولم يقتصر الأمر على أبناء الحي الواحد بل أصبح هناك وافدون من كافة أحياء المدينة، سواء من القباري، او السيوف أو الورديان أو حتى من المعمورة، وهذا التنوع المكاني خلق معه تنوعا في الأفكار المطروحة، ولغة الكلام التي يستخدمونها في أغانيهم، ولعل هذا المشهد ظهر في أحداث فيلم “ميكروفون” عام 2010 للمخرج أحمد عبدالله، الذي كان أبطال فيلمه من فناني الموسيقى المستقلة والراب، ووثق من خلال السينما لهذه التجمعات التي تحدثنا عنها، وأحد أشهر الفرق التي ظهرت مع بدايات الألفية كانت فرقة “ملوك إسكندرية”، وهي فرقة راب حققت نجاحاً في أوساط الشباب قبل ظهور منصات التواصل الإجتماعي، والإنترنت السريع، وقدمت الفرقة أغاني تنتقد المجتمع وتوثق لتفاصيل الحياة اليومية في شوارع الإسكندرية بكل تفاصيلها، وظهر هذا في أغنيات مثل “شوارع مصر، فلسطين”، وغيرها من عشرات الأغاني لكن سرعان ما خفت نشاط الفرقة لأسباب مجهولة.

على الجانب الآخر كانت فرقة “واي كرو” وهي أهم فرق الراب السكندرية التي ظهرت على الساحة وقتها، وضمت كل من شاهين وعمر وياسين، وقدموا عشرات الأعمال سوياً لكن ظروف الحياة فرقتهم عن بعضهم ليستمر كل منهم شخص واحد فقط، وهو “شاهين” ويعد أصغر مغني راب في عام 2003 و يلقب حالياً بـ”عبقري الاسكندرية النرجسي”، وشاهين له حديث آخر كونه من الذين لحقوا موجتي الراب التي مرت على مجتمع الراب المصري، فهو يعد حالياً أحد أبرز وجوه مشهد الراب المصري وقدم أغنيات مثل “ما علينا، سيري، وغيرها”.

الراب في الإسكندرية هو موضوع عميق مر بمراحل مختلفة، فبعد إندثار الموجة الأولى عام 2011، ظهرت الموجة الثانية منذ بداية عام 2019، وهي الموجة التي تمتعت بالشهرة، والانتشار، والتي رفعت اسم الإسكندرية من جديد كمحطة لكل الفنانين المستقلين الذين يرغبون في كسر الحدود بفنهم، وهذه الموجة لعبت فيها أحياء المدينة دوراً مهما، ليظهر مغنيين أمثال ويجز الذي أتى من الورديان، ومروان بابلو القادم من حي الحضرة القبلية، وعفروتو القادم من حي السيوف، وغيرهم الكثير و الكثير، وهذا التنوع الجغرافي خلق معه إبداعاً من نوع آخر يختلف عن الموجة الأولى، فقد أصبحت كلماتهم أكثر شخصية عما سبق، وأصبح تفاخرهم بأحياءهم التي جاءوا منها أمراً ضرورياً لإنتاج أي أغنية جديدة.

وحالياً لا زالت أحياء الإسكندرية تستضيف شباباً مجددين في عالم الراب، واستطاعوا إيجاد اتجاهات جديدة في موسيقى الراب لكن لم يحالفهم الحظ في الشهرة، والانتشار مثلما حدث مع ويجز وبابلو وعفروتو، ولكنهم لا زالوا يعيشون في كنف الإسكندرية كونها العائل الوحيد والمخلص لفنهم.