عاجل

عبدالحليم قنديل يكتب: حلف الخطايا

عبدالحليم قنديل
عبدالحليم قنديل

مع اقتراب مواعيد زيارة الرئيس الأمريكى "جو بايدن" إلى المنطقة، لا تبدو فرص نجاح جدول أعماله كبيرة ، فالسعودية لا تبدى حماسا لتلبية طلباته الملحة، وأولها الزيادة المؤثرة فى انتاج البترول لخفض الأسعار، وأصدقاء "بايدن" "الصهيونى" فى كيان الاحتلال الإسرائيلي، أحوالهم متنازعة مضطربة مع حل "الكنيست" مجددا، وفكرة إقامة حلف "ناتو شرق أوسطى"، لا يبدو طريقها مفروشا بالورود، وأطراف عربية مدعوة مالت للتنصل علنا من حلف الخطايا، برغم عقد اجتماعات عسكرية بمشاركة "إسرائيل" فى أكثر من دولة عربية، والإعلان شبه الرسمى عن نصب محطة رادار إسرائيلية فى بلد عربى على حافة إيران.

 

ولا يخفى السياق العام الذى تأتى فيه زيارة "بايدن" ، فالرئيس الأمريكى مهتم طبعا بالبحث عن مخارج لمآزق إدارته فى واشنطن ، فمعدلات التضخم بالاقتصاد الأمريكى آخذة فى التصاعد ، وعلى نحو غير مسبوق من أربعة عقود مضت ، وغلاء أسعار البنزين والمواد البترولية يفتك بما تبقى من شعبية "بايدن" ، التى نزلت من شهور تحت حاجز الأربعين بالمئة ، وخطة "بايدن" فى ترميم الشعبية بإبداء تشدد لا نهائى تجاه روسيا ، لم تؤت ثمارها ، وتردت محاولة تعليق فشله فى رقبة الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، وخطر هزيمة حزبه  "الديمقراطى" فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس ، لايزال مرجحا ، وهو يحاول تعويض إخفاقه الداخلى ، بما يتصوره إنجازات فى باب السياسة الخارجية ، وبالذات فى مساعى تطويق وحصار النفوذ الصينى والروسى ، وإقامة وتوسيع دوائر وأحلاف تابعة لواشنطن فى أوروبا والمحيط الهادى والشرق الأوسط ، مع إضافة لمسة إسرائيلية فاقعة فى منطقتنا بالذات ، بدأت قبل شهور بإخراج الكيان الإسرائيلى من دائرة التقسيم الأوروبى للتحركات العسكرية الأمريكية الكونية ، ودمجه مع دول عربية فى حلقة ما يسمى بالقيادة المركزية الأمريكية ، والضغط لترتيب عقد اجتماعات عسكرية إسرائيلية مع أطراف عربية بإشراف أمريكى ، والدفع لبلورة حلف سياسى عربى إسرائيلى فى اجتماع "النقب" الشهير ، الذى خرج عنه اتفاق سرى بتعاون وتنسيق أمنى ، يراد تطويره اليوم إلى إعلان حلف إسرائيلى ـ عربى عسكرى ، تحت عنوان "ناتو الشرق الأوسط" ، تحدثت عنه علنا قنوات تليفزيون إسرائيلية وصحف أمريكية كبرى ، وجرى دعمه فى الكونجرس بدعوة لنظام دفاع جوى أمريكى مشترك بين إسرائيل ودول عربية ، كلها مدعوة للقاء قمة مع "بايدن" فى السعودية ، بهدف دفع الأخيرة لإعلان تطبيع رسمى مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، ودمجها مع كتلة دول الخليج ومصر والعراق والأردن فى حلف الخطايا الجديد ، وتبدو السعودية مترددة فى التجاوب الفورى ، ودول أخرى مدعوة سحبت موافقات سبقت ، وقد سبق أن طرحت الفكرة ذاتها فى عهد الرئيس الأمريكى السابق "دونالد ترامب" ، وجرت عدة اجتماعات تحضيرية ، شاركت فيها أغلب الأطراف المدعوة هذه المرة للقاء "بايدن" ، لكن مصر الرسمية وقت "ترامب" ، خرجت سريعا من اللعبة المريبة ، وكان ذلك كفيلا بتقويض المسعى ، فمصر صاحبة أقوى جيش فى المنطقة ، وقد لا تريد أن تصطدم بموقف أمريكا علنا ، وقد تفضل استجلاب المزيد من السلاح الأمريكى تحت أى عنوان ، لكن مصر الرسمية أخذت قرارها الأساسى من سنوات ، واتجهت إلى سياسة تنويع مصادر السلاح ، ونسج شراكات سلاح مصرية روسية وكورية وصينية وأوروبية متنوعة ، ومن دون إغلاق الباب طبعا فى وجه صفقات سلاح أمريكى مفيدة ، يجرى تمويلها جزئيا أو كليا من حساب المعونة الأمريكية السنوية العسكرية ، ومع التطورات العالمية الجديدة ، التى كشفت عنها ، وإن لم تصنعها الحرب الجارية فى أوكرانيا ، فلا يبدو مغريا للسياسة المصرية الرسمية ، أن تضع كل بيضها فى السلة الأمريكية ، وتصريحات الرسميين المصريين المعنيين ، تبدى حرصها الظاهر على عدم الوقوع فى فخ الاستقطاب الدولى ، وعلى استخلاص المصالح الذاتية بنحو برجماتى صرف ، حتى لو تضمن اتفاقات كبيرة مع كيان الاحتلال الإسرائيلى نفسه ، على طريقة اتفاق "الكويز" الموروث فى مجال صناعات وصادرات النسيج لواشنطن ، واتفاقات الغاز المستجدة المتزايدة ، لكن الأمر لا يبدو على ذات السلاسة فى خانة السلاح ، وبالذات مع اتصال حضور عقيدة الجيش المصرى ، الذى ينظر للكيان الإسرائيلى كخطر وجودى فى أحوال الحرب والسلم جميعا ، ويغرس ويطور قواعده ومطاراته ومواضع أقدامه فى سيناء ، وصولا للحدود التاريخية مع فلسطين المحتلة ، وينهى عمليا مناطق نزع السلاح فى غالب سيناء ، التى كانت مفروضة فى ملاحق ما يسمى "معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية" ، ويحرر كامل سيناء من توابع العدو الإرهابية ، ولا يتصور مراقب منصف ، أن يخاطر الجيش المصرى بإرثه التاريخى الفريد ، وأن يتورط فى حلف عسكرى علنى مع إسرائيل ، تحت أى ظروف ، خصوصا أن مصر الرسمية طرحت فكرة أخرى جرت إعاقتها ، وهى إقامة حلف عربى خالص باسم "القوة العربية المشتركة" ، ووفق عليها من حيث المبدأ فى قمة "شرم الشيخ" العربية عام 2015 ، وحين تواترت اجتماعات التفاصيل والموارد والتشكيلات بعد القمة المذكورة ، انسحبت أطراف خليجية مؤثرة مدمنة للحماية الأمريكية الوهمية ، وقوضت المسعى المصرى ، وبالذات بعد رفض مصر المشاركة فى الحرب البرية باليمن ، التى تميل أطرافها اليوم إلى تسوية منهكة وتمديد لهدنة السلاح بعد دمار السنوات السبع.


ومن المعلوم بالبداهة، أن كاتب السطور ضد أى تطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وفى أى مجال كان ، ومن باب أولى ضد الفجور التطبيعى ، البالغ ذروته فيما يسمى "الاتفاقات الإبراهيمية" ، وصولا إلى حلف الخطايا الشرق أوسطى المدعو إليه أمريكيا ، وإن كانت الطرق لا تبدو سالكة تماما لمدمنى اقتراف الخطايا القومية ، ولأسباب تبدو ظاهرة ، بينها صدمة إسرائيل من عودة النبض جزئيا لمفاوضات إحياء الاتفاق النووى الإيرانى باجتماعات "الدوحة" ، مع عودة الرياض وطهران لمفاوضات بينية شبه علنية فى بغداد وفى غيرها ، وتنشيط  وساطة "مصطفى الكاظمى" رئيس الحكومة العراقية ، الذى لا يمكن له ولا لخلفه أن يشارك إسرائيل فى أى حلف ، بعد صدور قانون إجماعى للبرلمان العراقى يحرم ويجرم التطبيع ، ويحكم على مقترفه بالإعدام ، ثم أن لا شئ يجرى على الطرف الآخريصلح مبررا لتقارب ولا لثقة ولا لشبهة تفاؤل ،  فثمة أزمة حكم متحكمة فى الكيان الإسرائيلى ، وتناوب لحكومات ضعيفة التمثيل ، بعد حل الكنيست المنتظر للمرة الخامسة فى نحو أربع سنوات ، وتوالى إجراء انتخابات ، لا تسفر عن نتائج حاسمة ، اللهم إلا فى لعبة تشاكس وتبادل بين عناصر وفرق اليمين الإسرائيلى الأكثر تطرفا ، الرافضة مبدئيا لأى تسوية مع الفلسطينيين ، الداهسة حتى لاتفاقات "أوسلو" على هزالها ، المستهترة بمشاعر ومقدسات المسلمين والمسيحيين فى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ، المستقوية بدعم أمريكى بغير شروط ولا حدود ، والمصممة على ابتلاع وتهويد القدس والضفة الغربية كليا ، وهو ما يؤدى موضوعيا إلى احتدام واشتعال حركة المقاومة الفلسطينية الشعبية والمسلحة ، وخلق أجواء يومية ساخنة ، تزيد من "سواد  وش" الأطراف العربية المطبعة مع إسرائيل ، وتنزع أقنعة السلام المزعوم ، فما بالك بجرم المشاركة فى حلف الخطايا ، وبدعوى الاستعانة بالقوة الإسرائيلية فى دفع الخطر الإيرانى ، وإحلال العداء لإيران محل العداء لإسرائيل ، وإثارة الرعب من قنبلة نووية إيرانية محتملة ، بينما لدى "إسرائيل" بالفعل مئات من الرءوس النووية ، وكأن القنابل الذرية حلال لإسرائيل ، وحرام على أى طرف إسلامى أو عربى ، وقد لا يوجد أحد عاقل ، ينكر حقائق التوسع الإيرانى ، وتمدد نفوذ طهران من شاطئ الخليج حتى حواف البحرين الأبيض والأحمر ، وقد انتفخ وتوحش النفوذ الإيرانى على حساب الوجود العربى ، ولأسباب تتصل بخيبة العرب وتوارى المشروع القومى الجامع ، لكن مواجهة الخطر الإيرانى لها سبل أخرى ، فإيران من حقائق المنطقة الأصلية ، وليست كيانا مصطنعا غربيا كإسرائيل ، الكيان الإستعمارى الاستيطانى الإحلالى ، بينما الوضع مع إيران له توصيف مختلف ، فهو اختلال فادح فى توازن المنطقة ، سببه الجوهرى غياب التصور العربى الجماعى ، وترك "الجامعة العربية" لمصائر التحلل الرمى ، ورمى اتفاقات الدفاع العربى المشترك فى سلال المهملات ، وإدمان نظم بعينها لدفع تكاليف الحماية الأمريكية ، ثم تحولها إلى ميل أكثر خطورة وهوانا ، قوامه الدفع لإسرائيل مقابل الحماية ، والركوع وراء "إسرائيل" فى حربها ضد طهران ، ووضع الأراضى العربية والأجواء تحت تصرف إسرائيل وقواتها ، ومن دون التفاف إلى معالجة الخلل الأصلى ، وإدراك أنه لا مكان للضعفاء تحت الشمس ، فبوسع العرب لو أرادوا ، أن تكون لهم صناعات سلاح ومشروع نووى ، لكن بعضهم يفضل ما يبدو لهم طريقا سهلا ، ويعرضون دولهم للبيع فى سوق النخاسة ومزادات حلف الخطايا.


[email protected]