نظريّة للروائىّ لا للرواية: فيصل درّاج باحثًا فى فلسفة نجيب محفوظ الروائيّة

نظريّة للروائىّ، لا للرواية: فيصل درّاج باحثًا فى فلسفة نجيب محفوظ الروائيّة
نظريّة للروائىّ، لا للرواية: فيصل درّاج باحثًا فى فلسفة نجيب محفوظ الروائيّة

بقلم | هشام البستانى

فى عدة حوارات أجريت معه على خلفيّة الضجة التى أحدثتها روايته أولاد حارتنا، ينفى نجيب محفوظ –رغم دراسته للفلسفة وتخصصه بها- أنّه يحاول تقديم فلسفة، أو أنه يتفلسف، من خلال الكتابة الروائيّة. «هى ليست فلسفة.. أرجوك، فأنا لست فيلسوفًا يقول محفوظ فى أحد هذه الحوارات(1)، ويستطرد فى ثانٍ: «الفيلسوف هو الذى يضيف جديدًا للفلسفة الإنسانيّة، أما الأديب المتفلسف فهو الذى يعبّر تعبيرًا فنيًّا عمّا يأخذه من هذه الفلسفة.

وهو يفيد الفلسفة بذلك، لأنها يحوّلها إلى تجربة حيّة تعيش فى النفس البشريّة، بعد أن كانت معادلة عقليّة يختص بها الفلاسفة وتابعوهم (...) الأدب لا يخلق الفلسفات، لكنه يعالجها(2) وهو فى هذا لا يتبعد كثيرًا عن اعتبار الأدب والفن محاولةٌ للاشتباك مع العالم من منظور الفنّان نفسه، ومن خلال السّياق الذى يعيش فيه هذا الفنان، لا تقديم مقولات كليّة عن العالم. 


ثمّة فرق أساسى –ضمن أخرى كثيرة- بين الفنّان والفيلسوف تتعلّق بالنقطة التى ينطلق منها المنظور، ويسعى إليها المشروع الذى يبنى عليها، فالأوّل ينبثق من نفسه إلى محيطه، إذ يتراكم هذا المحيط عليه، فى محاولةٍ للاستكشاف والفهم، مقدّمًا من خلال الوجود الخاصّ قراءةً عامّة، أما الثانى فغالبًا ما يجلس لفهم المحرّكات الأولى، والعلاقات الكليّة، وتأثيراتها على الكينونة والمجتمعات والأفراد، مقدّمًا من خلال الوجود الكلى تفسيرات خاصّة.


من هذه النقطة المشتركة، الوجود، ومن عنصر أساسى فيه، الشرّ، ومن فاعل مركزى فى الأولّ يولّد الثانى، السّلطة، ينطلق آخر كتب فيصل درّاج «الشرّ والوجود: فلسفة نجيب محفوظ الروائيّة»، الصادر مؤخرًا عن الدار المصريّة اللبنانيّة فى القاهرة، لا ليُنطق نصوص نجيب محفوظ فلسفيًّا، بل ليبحث فى مسار محفوظ الروائى الطويل والثرى والممتدّ، عن فلسفةٍ للرواية، تتصّل ومشروعه النظرى الذى ابتدأ فى كتابه نظريّة الرواية والرواية العربيّة (2002)، واستمر فى كتابه الرواية وتأويل التاريخ (2004)، مرورًا بكتابه الذاكرة القوميّة فى الرواية العربية (2008)، وصولًا إلى هذا الكتاب الذى يختتم –برأيى- تلك السلسلة البحثيّة الطويلة والعميقة بنتيجة غير متوقّعة، سنأتى عليها لاحقًا.


فى قراءته للتجربة المحفوظيّة، يستعين درّاج بتقاطعات مع روائيين عالميين كبار، هم بشكل خاص: دوستويفسكى فى الإخوة كرامازوف، توماس مان فى آل بودنبروك، وبلزاك فى عدد من أعماله الروائية أهمّها الأب غوريو والكولونيل شابير ومجمل أعمال سلسلة الملهاة الإنسانيّة؛ ليثبت -من جانب- أن الهموم الإنسانيّة، خصوصًا فى تعبيراتها الوجوديّة وتراجيديّاتها الكبرى، تتشابه وتتقاطع وتعبّر عن لبّ واحد جامع، وليسجّل –من جانب آخر- أن مجمل المتن الروائى المحفوظى يقف على المستوى نفسه إلى جوار علامات الكتابة الأدبية الروائيّة العالميّة، إذ يمرّ هذا المتن بالأشكال كلّها: التاريخى، والواقعىّ، والرمزىّ، والفلسفىّ، والملحمىّ، ويستخدم المفارقة والعلوم، ويبحث فى الظلم والاغتراب، بينما- فى ذلك كلّه- يظلّ لصيقًا بالحاضر وهمومه، والمكان القاهرى- المصرى وناسه، معبّرًا عنهما، ومؤرّخًا وناقدًا لهما، من زاوية فريدة تتيحها الرواية إذ تزاوج بين البحثى والفنىّ، بين الاجتماعى والذاتى، وتمكّن –عبر البناء التفصيلى المتمهّل للشخصيّات والأحداث والعلاقات- من بناء روابط وطيدة معها.


قد تفسّر هذه الميزة الفريدة للرواية وجود فيصل درّاج المستمرّ رفقة شخصيّات محفوظ طوال فترة كتابته لهذا الكتاب، يتحدّث عنها معى فى لقاءاتنا وكأنّها حقيقيّة، يناقشها ويتحاور معها، يسألنى عنها باستنكارٍ أو بفضول، محاولًا أن يفهم تصرّفاتها، و»عبث الأقدار» بها.

وكان كثيرًا ما يسشيط غضبًا من أحمد عبد الجواد، وهو الذى يتركّز فيه التعدّد والتناقض مثلما يوجدان فينا جميعًا، ويرثى لحال سعيد مهران إذ يخوض معركة لا رجعة فيها مع ما هو أكبر منه وأقوى، وصولًا إلى مصيره المأساوى المحتوم. مثل هذا البعد التقمّصى أتاح لدرّاج وصولًا تفاعليًّا مع شبكة العلاقات التى ينسجها الروائى داخل مجمل أعماله الروائيّة، ومن ثمّ الوصول إلى رؤية كليّة للكون الروائى المحفوظى تنبثق عنها، تمكّنه من تحديد الفلسفة الخاصّة بالروائية المحفوظيّة.


ثمّة ما هو «كليّ»، إذًا، فى تجربة الكاتب الواحد، يمثّلها منجز نجيب محفوظ الروائى فى كتاب فيصل درّاج الأخير، كليّة متعلّقة بكونٍ جزئى، هو كون الكاتب، وقد يحدث أن تتجمّع هذه الكليّات الجزئيّة فى مسير متزامن، لكنّها لا تندغم وتسيل بانسجام ووحدة كما النّهر، بل هى تسير متجاورةً  متدافعةً متباينةً فى الآن نفسه كانهيار صخريّ. الناقد هنا يستعير من الفلسفة منظورها الكلى، الشمولى، ليطبّقه على المنجز الأدبى للكاتب وسياقه (تاريخه، مجتمعه، الأحداث التى عايشها ومرّ بها، الخ)، فيخرج بفلسفةٍ كتابةٍ لكاتبٍ بعينه، فلسفةٍ للروائى لا للرواية العربيّة بكليّتها، فالرواية العربيّة قد لا يستقيم لها مثل هذا الاشتقاق إذ تتفاوت منجزًا ونوعًا ومستوىً وسياقًا بعدد الروائيّين، ولا يمكن لمثل هذا التفاوت البيّن أن يندرج فى مفهوم نظرى واحد كلى جامع مانع.


ها هنا يصل درّاج بمشروعه النظرى الكبير (الذى قصّر عن البحث فيه أغلب النقّاد العرب) إلى تلك النتيجة غير المتوقّعة، نتيجة ربّما لم تكن هى ضالته عندما بدأ مشروعه البحثى عنها وفيها، تُحسب له، ولثقافته الواسعة التى لم يتوقّف يومًا عن تغذيتها بكلّ جديد، ولنقاشه أفكاره نفسها واختبارها وتطويرها داخل الفعل البحثى والكتابى نفسه، مثلما يفعل كلّ كاتب جادّ. من نقطة انطلاق تحاول صياغة نظريّة للرواية العربيّة، يصل درّاج إلى أن الممكن فعلًا.

والموضوعى حقًّا، هو صياغة نظريّة للروائى فى منجزه وسياقه وتاريخه الكتابى ونصوصه واشتباكاتها، وما يجاور هذه النصوص من عوالم وتواريخ وأحداث فعلت فيها وانفعلت بها، تشكّل بكليّتها فلسفة للروائى ومشروعه الكتابى، لا فلسفة للرواية بمجملها المتعدّد وتمظهراتها المتفاوتة.

فى الوقت نفسه، يقول درّاج (وإن بشكلٍ غير مباشر) أن نظريّة/فلسفة الروائى هذه لا بدّ لها أن تتقاطع مع مشاريع/فلسفات روائيّة أخرى، لكنها –إن كانت جادة وأصيلة ومتراكمة وعلى سويّة فنيّة عالية- تشتقّ لنفسها مكانًا منفردًا يمكن قراءته نظريًّا بأدوات النقد من خلال تتبّع صيرورات الكتابة ومصادرها وتفاعلاتها.

ولربّما كانت هذه هى المساهمة الجديدة التى يضيفها فيصل درّاج فى كتابه الأخير، لتنضمّ إلى سلسلة مساهماته الكثيرة التى صار بعضها اليوم مراجع أساسيّة فى الفكر العربى المعاصر عمومًا، والنقد الأدبى الروائى خصوصًا.


وبعد؛ الشر والوجود هو ليس تحيّة بحثيّة من ناقد عربى كبير لروائى عربى كبير كتبت بحبّ وجديّة بعد عقود من علاقة طويلة ومتشعّبة مع رواية نجيب محفوظ فحسب، بل هو أيضًا خلاصة مسار بحث طويل ومضنٍ عن نظريّة للرواية العربيّة، وصل إلى ما يفيد بأن استنطاق الرواية نظريًّا يكمن فى صياغة فلسفة للروائى.

تنطلق من الحاضر ولحظته الرّاهنة، مثبتة أن الأدب العظيم هو أدب يظلّ، مع تغيّر الأزمان، قادرًا على القول، وأن الناقد لا يتعرّف بالعرض والتلخيص والانطباعيّة، بل بالبحث والتحليل والرّبط داخل النصّ وخارجه، تتطوّر أطروحته داخل مختبر العمل عليها، إذ ينفض عن الكتابة غبار التوظيف والتسليع والتوسّل، مزيحًا إلى الجانب ذلك الباهت منها، ما يبقى أسير لحظته، ليموت، كاشفًا عن أخرى هى الجوهر اللامع العابر للعصور، القادر على التحدّث مع، وفى، أى زمان ومكان.

اقرأ ايضا | «أحلام فترة النقاهة» لـ«محفوظ».. اهتزت وربت وأنبتت ثمارها