مصر الجديدة

القصور الخالدة

إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد

عشت مع الموسيقى الكلاسيكية منذ أكثر من نصف قرن حتى الآن. كنت تقريبا فى العشرين من عمرى حين استمعت فى برنامج إذاعى المرحوم أنيس منصور يرد على سؤال للمذيعة عن الموسيقى التى يحب سماعها، فقال إنه يستمع دائما للموسيقى الكلاسيكية من البرنامج الموسيقى فى الراديو.

لم أكن أعرف شيئا عن البرنامج الموسيقي.

ضبطت الراديو عليه فانفتحت أمامى فضاءات الموسيقى العالمية، أنا الذى كنت لا أتحول عن الطرب العربي. لم أغيِّر المحطة الجديدة طوال حياتي.

يصبح الراديو قديما فأشترى غيره وأضبطه على البرنامج الموسيقى حتى ظهرت الميديا واليوتيوب، فشحنت فلاشة بأشهر الأعمال العالمية ووضعتها على «الديسك توب»، أقوم بتشغيلها طول الوقت وأنا أكتب أو أقرأ أو أتابع الأحوال من حولي.

فى الكتابة حلّقت بى الموسيقى إلى السُحب. بينها عشت مع شخصيات رواياتى يستمتع كل منا بالآخر، فنذهب إلى آخر العالم مع السيمفونيات، أو نتراقص على السوناتات والكونشيرتات، ولا نتكلم إلا بلغة الرواية أو القصة التى أكتبها.

هى الشخصيات التى تتكلم لا أنا، وأقوم بدور قائد الأوركسترا فأشير إليها متى تبدأ ومتى تنتهي، وكيف لا تخرج عن إيقاع اللحن الذى يخصها إلا إذا انتقلت إلى حالة أخرى فتجبرنى على الطاعة.

واكب ذلك ما لا أعرفه إلا بعد أن انتهي، وهو النسيان.

فحين انتهى من الكتابة دائما مع الفجر أقف فى الشرفة لأرى بدايات النهار فأدرك مكانى وزماني، وكيف حملتنى الموسيقى إلى النسيان.

ليس أجمل من النسيان للمبدع الذى يجد نفسه وسط الأحداث والواقع الذى قد لا يتحمله، فهكذا خلق الله المبدعين سهل كسرهم مع أى قلق أو حزن.

أعود إلى سنوات الطفولة لأتذكر كيف كانت الموسيقى هى نهر الفرح الذى يسبح فيه الأطفال. أعود إلى الشباب لأتذكر كيف كان نهر الأحلام فى الحب والإبداع.

أنظر حولى فى سنوات الكهولة لأكتشف كيف صارت تستدعى الحنين والألم، لكن لا أتوقف عن سماعها.

الحنين أمر طبيعى مع التقدم فى العمر، لكن حين تستدعيه الموسيقى يكون شجنه بطعم الجنة. أفكر كيف كان يمكن أن يكون العالم دون الموسيقي.

كم سيكون فظا غليظا. لا شك أنها بدأت مع الإنسان الأول حين وجد نفسه وحيدا فى الخلاء. لابد أنه حين رأى نفسه وحيدا فى الفضاء بالنهار أو حتى جالسا بالليل راح يغني. لا أعرف ماذا قال قبل أن يدوِّن أغانيه وشعره وحياته ورحلاته وأساطيره وحروبه.

لكن لا بد أن الفضاء أخذه إلى الغناء ثم أدرك إيقاع الغناء فصفق فسمع دقات فقرر أن يكون للموسيقى ما يحفظها ويتيح تعلمها فوضع مفاتيحها وحدّد درجات إيقاعاتها ومن ثم صار سهلا تدوين الألحان.

هنا انفتحت الدنيا فذهب الإنسان يحتمى بها من كل خداع العالم وسياسته وجنونه، فبنى قصوره فى الهواء.

القصور الخالدة التى لا يمكن محوها حتى بالحروب.

بل حتى الحروب تحولها الموسيقى فى الهزيمة والنصر إلى قصور فى الفضاء.