كنوز| 41 عامًا مضت ومازالت إبداعات «شاعر الشباب» تطربنا

 أم كلثوم - «الجرامفون» لم يكن يصدح فى بيت رامى إلا بصوت ملهمته
أم كلثوم - «الجرامفون» لم يكن يصدح فى بيت رامى إلا بصوت ملهمته

عندما تحيى صفحة «كنوز» الذكرى 41 لغياب شاعر الرقة والرومانسية والشباب أحمد رامى، فلابد أن نؤكد أنه غاب بالجسد وبقيت روحه تشدو وتغنى على ألسنة المطربين والمطربات، وخاصة صوت ملهمته الأسطورى، سيدة الغناء العربى أم كلثوم التى ربط بينهما أروع قصة حب من طرف واحد، قصة أثمرت نوادر وكنوزا وشئونا وشجونا تسمو بالوجدان. 

كان حلم حياتى أن ألتقى به، أجلس بجواره، أتأمل تقاطيع وجهه التى نحت عليها الزمن الكثير والكثير، أستمع إليه واسترجع منه بعض ذكرياته، وأعرف من هى محبوبته، ولبى لى الحلم الكاتب الساخر عبد الله أحمد عبد الله الشهير بميكى ماوس، كان اللقاء الأول والأخير، فبعدها بفترة قصيرة ازداد عليه المرض بفعل السن والاكتئاب الذى أمسك به بعد رحيل ملهمته ورحيل أصدقائه الواحد وراء الآخر، ترك عالمنا - ويا للعجب - فى الذكرى الرابعة عشرة لنكسة 1967، وعم الحزن الأوساط الثقافية والفنية فى 5 يونيو 1981.

عندما جلست أمامه قلت له وأنا أتأمله: «جئتك بالواسطة..

بدون الأستاذ عبد الله ما كانت قد سنحت الظروف بمقابلتك»، رمقنى بنظرات عينيه الضيقتين وارتسمت على وجهه ابتسامة ثم قال: «أنت مكبر الموضوع، أنت يعنى مفكر نفسك جاى تقابل رئيس ولا ملك، وعموما أهلا بكما فى منزلكما»، تدخل الأستاذ عبد الله أحمد عبد الله قائلا: «أصله ما يعرفش بساطتك وتواضعك يا أستاذنا، لم يشاهد كتاب الأغانى الذين كانوا يأتون لك لتوجههم وتكتب لهم مقدمات دواوينهم»، مال برأسه وهو يقول بصوت خافت: «ده واجب علينا، تواصل الأجيال مطلوب، صحتى ما بقتش زى الأول..

فقللت من مقابلاتى وأرجو ان محدش يزعل منى»، كان عبد الله أحمد عبد الله قد اتفق معى ألا نطيل الزيارة لكى لا نرهقه، لهذا لم تستغرق المقابلة أكثر من 20 دقيقة سألته خلالها عن الوقت الذى يكتب فيه فقال «كنت أكتب عندما أجد نفسى ميالا للبكاء !»، قرأ الدهشة على وجهى واستكمل «أليس فى هذا ما يثير العجب ؟». تذكرت ما قرأته عندما سئل عن الشيطان الذى يلهمه كلمات إبداعاته فقال وقتها: «أنا لا أسميه شيطانا، بل ملاكا يهبط علىّ عندما أكون فى وحدة».

قال لنا من بين ما قال فى حوارنا القصير إنه كان لا يكتب أغانيه إلا فى الليالى القمرية، كانت تأتيه الأشعار فى أى مكان يتواجد فيه، كانت متعته فى بداياته استلهام كلمات أغانيه وهو جالس على كرسى يهتز به داخل الترام، قال إنه كان يلحن ما يستوحيه ويترنم به داخل الترام غير عابئ بالركاب، وقال إنه تعود على أن يغنى كلماته بصوته أولا، يصنع لها اللحن الذى يرضيه، وعندما تكتمل الأغنية أو القصيدة كان يدونها بالقلم الرصاص على ورق من الفلوسكاب، وضحك وهو يقول: «كنت كاتبا صيفيا» أقصد أننى كنت غزير الإنتاج فى فصل الصيف أكثر من الشتاء، كنت أحب أن أكتب وأنا جالس فى الهواء الطلق، كنت أستمد من ضوء النجوم أجمل تعبيرات النسيم الصيفى الذى يحمل لى رائحة الأزهار، كان أحبها لقلبى زهرة الفل والياسمين، وقال أيضا إنه كان مثل سيد درويش، يسير وراء الباعة، لكى يستمع لأصواتهم وهم ينادون على بضاعتهم، وكان يحفظ ما يرددونه من أنغام وكلمات.

هذا هو شاعر الشباب، شاعر الحب، شاعر أم كلثوم، شاعر الأمة التى ترنمت بكلماته وأغانيه، كنت أظن - كما قرأت - أن أم كلثوم هى التى أطلقت عليه لقب «شاعر الشباب» لكنه صحح المعلومة موضحا أنه نال اللقب قبل أن يلتقى بأم كلثوم عندما كان ينشر قصائده فى مجلة «الشباب»، والذى أطلق عليه اللقب هو صاحب المجلة عبد العزيز الصيد، وعندما سألته عن المواقف الطريفة التى قابلها عقب تخرجه فى مدرسة المعلمين العليا، أثناء عمله بعدد من المدارس، قال إنه لا ينسى أن بعض التلاميذ كانوا أكبر سنا من المدرسين، وذات يوم وجد ناظر المدرسة مجموعة من التلاميذ يتشاجرون فى فناء المدرسة فانهال عليهم ضربا بعصا غليظة، فنالت عصاه بعض المدرسين الواقفين بين التلاميذ فصاحوا قائلين: «احنا مدرسين، مش تلامذة يا حضرة الناظر» لكنه لم يكف عن الضرب وهو يقول: «وأنا أعرف منين، التلاميذ يقفون فى ناحية والمدرسين فى الناحية الأخرى !!». 

لم يسترح أحمد رامى فى العمل بالتدريس الذى أنقذته منه البعثة لفرنسا التى عاد منها لمصر بثلاث دبلومات عليا، تم تعيينه موظفا بدار الكتب بقسم الفهارس الأجنبية، واكتشف أن رئيسه فى العمل لا يحمل سوى شهادة الابتدائية، ظل رامى فى الدرجة الخامسة - تسعة عشر عاما لم يتحرك منها حتى أطلق عليه أصدقاؤه لقب «شهيد الوظيفة الحكومية»، ومع ذلك رفض كل المساعى التى بذلت لنقله إلى وظيفة كبيرة بوزارة الشئون الاجتماعية، حتى أنه عندما خلت وظيفة مدير عام دار الكتب، شغل منصب المدير بقرار غير رسمى وفوجئ بعدها بتعيين توفيق الحكيم فى المنصب بدلا منه!

كثيرة هى الحكايات التى عاشها أحمد رامى مع ملهمته أم كلثوم، ومن أبرزها الخلاف الذى حدث بينهما وأدى لقطيعة استمرت ثمانية شهور، وقال لى الناقد محمد السيد شوشة إن أحمد رامى كشف له سبب غضب أم كلثوم منه عندما أدلى بحديث كشف فيه النقاب عن قصيدة «ليلة البدر فى رأس البر» التى استوحاها من ليلة أمضاها معها فى زورق تحت ضوء القمر، غضبت أم كلثوم حين ذكرت مجلة «روزاليوسف» أن رامى أنشد لها قصيدة سبق أن أنشدها لمحمد عبد الوهاب، فلما ألتقته قالت له : «يؤسفنى أنى عرفتك!»، لم يمنعه حبه لها من أن يثور لكرامته، فحرم على نفسه سماع صوتها، ونظم فيها قصيدة «من أنت حتى تستبيحى عزتى»، ومع ذلك فكل ما كتبه رامى يؤكد أنه كان متيما بأم كلثوم منذ أن استمع إليها وهى تشدو بقصيدته «الصب تفضحه عيونه» أثناء سفره لفرنسا، من هذا اليوم أحس رامى أن أم كلثوم ملهمته وقدره الأبدى وتوأمه الروحى، عاش رامى كالزهرة التى تفوح بالجمال، وخبت روحه مع رحيل ملهمته عام 1975، افترسه الاكتئاب إلى أن سافر للسماء عن عمر يناهز 89 عاما. 

إقرأ أيضاً|أم كلثوم تكسب 3 جنيهات بسبب معني كلمة «أمم»