قراءة في رواية «زبد الليل»

للفنان: صالح المالحى
للفنان: صالح المالحى

بقلم: خالد الجبور

أثقل النعاس أجفاني، فتمدّدتُ فى فراشي، سابحاً فى ظلال ضوء الشّمعة الوحيدة، المُستوحشة فى ركنها البارد الخشن، مُهَوّماً مع أنغام العزف المتواصل بفوضى مستقرة من مزامير رفاقى النائمين منذ ساعة أو أكثر .


أحسستُ بجاري، من جهة اليمين، يتقلّب فى فراشه، وسمعته يئنُّ أنيناً خافتاً موجعاً، كأنّما يبكي، فى حين ظلّ جارى من جهة اليسار، ذائباً فى ظلمة النوم ، مستأثراً، وحده، بسكينة تشبه سكينة الأموات . 


ولا أدرى ما الذى جعلنى أفتح عينىّ، وأنظر فى عقارب ساعتى التى وجدتُها تدنو من الحادية عشرة، حيث وصلتني، على إثر ذلك، أصواتُهم المدمدمة فى الخارج، وطَيَّرتْ نُعاسى ؛ فقفزتُ من فراشي، ودُرت سريعاً على جوقة العازفين، الّذين أخذوا يتوقّفون عن عزفهم واحداً تلو الآخر، إذ كان يكفى أن ألمس الواحد منهم، حتّى يفتح عينيه على وسعهما، ويفهم على الفور، من تعبير وجهي، وحركة سبّابتى على فمي، أنّنا دوهمنا .


ونفختُ على الشّمعة، فساد الظّلام التّام .
وقبض كلّ واحد منّا على أنفاسه قبضاً، حتّى تلاشى كلّ أثر يدلّ على وجودنا فى ذلك الملجأ المنيع، تحت العمارة الكبيرة قيد الإنشاء، والتى كنّا نعمل فيها نهاراً، وننام فى ملجئها ليلاً، خارقين القانون الذى لا يُبيح لنا النّوم فى بلادنا التى لم تعد بلادنا منذ أن وُهبت لغيرنا بأريحيّة مخمور يجود بالدّنيا ! ..


وإذ لـم أعرف كيف اكتشفوا وجودنا فى الْمَلجأ رغـم حرصـنا الشّديد علـى عدم الخروج بعد المغيب، فقد وجدتُ نفسى أفكّر فى هذه المفارقة العجيبة، التى جعلتنا نسبقهم إلى استخدام الملجأ، الذى أشادوه بسواعدنا، ليحتموا به منّا، عندما نُهاجمهم بطائراتنا وصواريخنا ذات يوم بعيد، قــد يجىء وقد لا يجيء !! ..


وسمعناهم يتراطنون .
تقترب أصواتُهم وتبتعد، ثمّ تقترب من جديد، حتّى نسمعهم بوضوح، وهم يؤكّدون وجودنا، مردّدين كلمة (عربيم) كما لو أنَّها شتيمة ينفّسون بها عن كربِهم، تتخلل الكلمة جدران الملجأ المدفونة فى الرّمال، وتخترق صمتنا المطبق كما يخترق الرصاص عظم الجمجمة .


ولم يعد لـدينا أدنى شكّ فى أنّهم من (( فريق القبّعات الخُضْر )) المختصّين بالتّفتيش عنا فى كلّ مكان، .. ولكنّنا كنا عاقدين العزم على الصّمت والصّمود حتّى النّهاية، ذلك أنّنا كنا فى حصن حصين من هندسة خوفهم، وعبقرية وسواسهم، حيث باب الحديد المصفّح، الذى أحكمنا إغلاقه، من الداخل، برتاجاته الفولاذيّة الغليظة، والذى يستحيل فتحه من الخارج، حتّى لو استخدموا ما بحوزتِهم من متفجّرات ..


وشرعوا يخبطون الباب بقوّة، وينادون علينا : هيه .. أنت يا محمد .. يا أحمد .. يا محمود .. افتح الباب  !! ..
لكنّنا مكثنا صامتين دون حراك، فظلوا يخبطون الباب، ويُنادون علينا بأصواتٍ تتداخلُ وتتعالى ، حتى توقّفوا أخيراً، وشعرنا بهم ينسحبون ويبتعدون، فغَمَرَنا هسيس الفرح: (( راحوا . راحوا ))، معتقدين أنّهم يئسوا منا، وأنّهم رحلوا بلا عودة، ولكنّ فرحنا ذاك لم يطل، إذ سرعان ما فاجأنا الماء، وهو يتدفّق علينا من كوّة التّهوية المستديرة، العالية من الدّاخل، الموازية لسطح الأرض من الخارج، حيث كانوا يقفون ، وكان واضحاً لنا أنَّهم سحبوا خرطوم المياه الطّويل الخاصّ بالورشة، وفتحوا صنبور الماء عن آخره علينا .


وقد سمعناهم يضحكون، ساخرين منّا، وهم ينادوننا ويتوعّدوننا : 
 (( سنغرقكم بالماء يا عربيم حتى تموتوا كالصراصير  )) ..

غير أنّنا صمدنا، مضحّين بأفرشتنا وأغطيتنا، أكثر من ساعتين كاملتين، لعلّهم ييأسون ويذهبون، ولكنّ المياه ارتفعت على أرض الملجأ المعمولة من الأسمنت المسلّح، وغمرت أقدامنا وجزءاً من سيقاننا، دون أن يرحلوا ..


وهتف أحدنا مُخوّضاً فى الماء نحو الباب : لا فائدة . يجب أن نفتح .
وتركناه يمضى من غير أن يُعارضه أحد، ربّما لأنّنا كنّا جميعاً نفكّر فى تلك اللّحظة بفتح الباب، من دون أن يمتلك أىٌّ منّا جرأة المبادرة .. 


وما إن صرّ الباب صريره الْمُعْول، حتّى باغتنا ضوء الكشّافات فى أيديهم، فأخذنا نذوده عن عيوننا بأكفّنا، ونحن ندور فى أماكننا وسط الماء، مرتبكين ضائعين، لا ندرى ماذا نصنع !!
كنّا أكثر من خمسة عشر شخصاً، جَمَعَنا الكدح، وصَهَرَنا فى بوتقته الهلامية، فبدونـا متشابِهين، على الرّغم من اختلاف سحننا، وتفاوت أعمارنا، حيث لم يزد أصغرنا عن الثّالثة عشرة، بينما تجاوز أكبرنا الستّين، وقد أخرجونا واحداً تلو الآخر، مُرغميننا على رفع أيدينا فوق رؤوسنا كأسرى الحروب، أو كأفراد عصابة خطيرة من المجرمين المحترفين!!.


وفى الخارج، حيث كانت الرّيح الباردة تُصفّر، وتصفع جدران العمارات غير الجاهزة، المُحْدِقة بنا من جميع الجهات، أمرونا أن ننبطح على بطوننا فوق الرّمل المزروع ببقايا موادّ البناء : من حطام الطّوب، والحصى، وقضبان الحديد ، والمسامير، الكبيرة منها والصّغيرة، والأسلاك المجدولة، وتلك التى بلا جدْل .. ونحن نرتجف من بَلَل الماء، ومن لسعات الريح الباردة .


أنا شخصيّاً كنت أحسُّ بأنّنى أتجمّد من البرد، أرتجف متشنّجاً، وأسمع وحوحات رفاقى ، فيزداد شعورى بالبرد، حتّى ينقبض قلبي، ويكاد يتوقّف عن الخفقان، ومع هذا لم أكفَّ لحظة واحدة عن التّفكير فى مغزى ما يفعلونه بنا : ماذا يبتغون من بطحنا على الأرض ؟! وما هى خطواتُهم التالية ؟! 


وقد انقسموا إلى فريقين : فريق من أمامنا، وفريق من خلفنا، وأخذوا ينتهروننا، مُحذّريننا من رَفْعِ وجوهنا عن الرّمل، أو الإتيان بأىّ حركة مهما صغرت، حتّى السّعال أو النّحنحة، منعونا إيّاهما، صارخين فى كلّ واحد يجرّب تسليك حنجرته، راكلينه فى خاصرته، كما يركلون حشية ليّنة، ليقذفوا بها أبعد ما يستطيعون، ثمّ إنّهم لم يكتفوا بِهذا، فقد شرعوا يمشون، بأحذيتهم العسكريّة ذات النّعال المُسنّنة، على ظهورنا، وكأنّنا جسر مشاة يعبرونه من ضفّة إلى أخرى، وحين عبرَنا آخرهم بدا قياساً إلى من سبقوه، خفيفاً جدّاً، حتّى أنّنا لم نكد نشعر بمروره من فوقنا، فلم نتوجّع، ولم نتأوّه، ولعلّ هذا ما أغاظه منّا، فما إن فرغ من عبورنا، حتّى عاد ثانية، وأخذ ينطّ فوق ظهورنا، قافزاً فى الهواء، ساقطاً علينا بكلّ قوّته، وكأنّه يريد أن يدكّنا فى الأرض دكّاً، فرحنا نصرخ ونصيح، ونحن نتلوّى فى أماكننا، ولكنّه لم يكترث، ولم يَهتزّ، بل واصل قفزه وسقوطه علينا، حتّى هدّه التّعب ، ولم يعد قادراً على حفظ توازنه فوق أجسادنا، فتوقّف وهو يلهث، وصرخ فينا : 


 (( يا الله .. قوموا ، وقفوا فى أماكنكم ! )) 
فقمنا ونحن نلملم أنفسنا، وعظامنا تُطقطق كعيدان تتكسّر، فأَمَرَنا أن نقف معتدلين، ونعقد أيدينا وراء ظهورنا، وينظر كلُّ واحد منّا أمامه مباشرة، فى خطّ مستقيم، لا ينحرف يميناً أو شمالاً، كما أمرنا أن نكفّ عن تأوّهاتنا وطقطقة عظامنا، لأنّها تُغيظه وتُثيرُ أعصابه ! ..


ثمّ إنّه التقط من أحد زملائه كشّافاً كهربائيّاً كبيراً، وأخذ يُسلّط نوره على وجوهنا، وجهاً فوجهاً، ويسأل مكرّراً السّؤال : من منكم يحمل سكّيناً ؟! ..
وراح يتأمّل صمتنا وجمودنا مدّة من الزّمن، ويَهزّ رأسه، كأنّه يتوعّدنا، ثمّ انتفض فجأة، كمن خطرت له فكرة، وصاح، رافعاً سبّابته، فى وجوهنا : آ.. أيّها الملاعين، أنتم لا
 تريدون الاعتراف. لا بدّ وأنّكم تُخبّئون السّكاكين فى ملابسكم !! 


وطاف علينا بنور كشّافه مرّتين أو ثلاثاً، قبل أن يأمرنا بخلع ملابسنا لتفتيشها . أحدنا همس: (( بَرْد !!))، فسمعه، وجرّه من بيننا، وقذف به إلى زملائه، الذين تلقّفوه سريعاً، وانْهالوا عليه بأيديِهم وأرجلهم، فما كان من سبيل أمامنا إلاّ أن نمتثل للأمر، ونخلع ملابسنا التى أوشكت على الجفاف، فعدنا نرتجف من جديد فى مهب الرّيح ..
ولكنّه انتهرنا، وزعق فينا : هُسْ .. ولا حركة !! ..


وأخذ يمرّ من قدّامنا كأنّه يستعرضنا ،ولا أدرى لماذا توقّف أمامي، وجعل يتأمّلني، مُسلّطاً نور كشّافه على وجهى !! ..
لعلّه اكتشف ذلك الاختلاف الطّفيف فى شكلى عن سائر زملائي، شكلى الـذى اكتسبته خلال سنوات دراستى الطّويلة، التى انتهت بتخرّجى فى الجامعة، والذى عدتُ فخسرته من جديد، خلال سنوات عملى فى البناء، ولم يتبقّ منه سوى هذا الأثر الهزيل، الذى قد يكون لفت انتباهه، وجعله يتوقّف أمامى .


سألَنى بالعبريّة : أنت .. ماذا تعمل هنا ؟!
تظاهرتُ بعدم الفهم، وقلت إنّنى لا أفهم العبريّة، فلطمنى ، وزمجر فى وجهى: أنت لا تفهم  العبريّة؟! فماذا تفهم  إذن ؟! ..
قلت بالعبريّة، وقد اشتعل صدرى : إنّنى أفهم العربيّة والإنجليزيّة  أيضاً .
فرمقني، للحظة، بنظرة حمراء متوحّشة، ثمّ انفجر باصقاً فى وجهى :


((  كلب . عربى كلب )) 
وانفتل من أمامى سريعاً، دون أن ينتظر ردّة فعلي، كأنّما أحسّ بغلياني، وخشى ممّا يمكن أن يصدر عنّي، ولعلّه لمح فى عينىّ طيوف الطّيش وهى تتصارع، فآثر أن يُسرع من أمامي، ومضى مُخلياً السّاحة لواحد من زملائه، كان ومنذ البداية، قد مكث بعيداً عنّا، مُكتفياً بمراقبة ما يجرى بصمت وعبوس، وكأنّه غير راض عمّا يفعله زملاؤه بنا، حتّى أنّنى توقّعت أن يُشفق علينا، ويسمح لنا بارتداء ملابسنا، التى داسوها، فى ذهابِهم وإيابِهم، مرّاتٍ ومرّات، من دون أن يُفتّشوها أو يلتفتوا إليها أيّ التفات، .. ولكنّه اقترب كما لو كان يبدأ فصلاً جديداً من ملهاتِهم الليليّة المُطوّلة، وأخذ ينتقي، ويسأل كلّ واحد منّا ذلك السّؤال الذى بدا متأخّراً جدّاً : ألا تعرف أنّ النّوم ممنوع  هنا ؟!


 وكان كلّ واحد منّا يُجيبه : لا،  لا أعرف يا خواجا !! 
فيلطمه، ويركله بركبته بين ساقيه، صائحاً فى وجهه : أنت كذّاب . كذّاب كبير !! ..
وعندما جرّب أحدنا، وأجاب مغمغماً كولد مهذّب يعترف بزلّته الكبيرة : (( نعم . أعرف هذا يا خواجا )) ، لطمه أيضاً، وركله كما ركل كلّ واحد منّا، وزعق فى وجهه : ولماذا إذن لم تذهب لتنام فى بيت أمّك يا حمار ؟!! ..


ولقد ابتسمت، وشعرت بابتسامات الآخرين ترفّ بأجنحتها من حولي، وبصدى ضحكاتِهم يتردّد فى صدري، ضحكاتِهم الكبيرة، التى كان من الممكن لها أن تنفجر فى أيّة لحظة، برغم أنف الليل، القابض، بعصبته وزمهريره، على كلّ شيء، لولا أنّنا انشغلنا بالسيّارة الكبيرة، التى برزت من منعطف الشّارع الموازى لمكاننا، وهجمت علينا بعيونها الحمراء المرعبة كعيون السّعالى،  وزمجرت نافثة دخانَها كذيل طويل، ثمّ توقّفت أخيراً قرب سيّارة ( الجيب ) الخاصّة بمعذّبينا الذين تعبوا، وفتحت أبوابَها كأنّما لتفترسنا، وقذفت ثلاثة متحمّسين، تراكضوا نحونا، ووقفوا على بعد خطوات منّا، وهم يتطوّحون مقهقهين، يُشيرون إلى أجسادنا العارية المنكمشة، ويلوّحون بأيديِهم فى الهواء بحركات عشوائيّة خرقاء، ضاربين أكتاف بعضهم بعضاً، دون أدنى سيطرة على أطرافهم، فبدا لنا أنّهم لن يكفّوا، ولن يتوقّفوا، وأنّ سهرة جديدة قد بدأت ..


ولكنّ الليل كان قد أدبر وولّى لاهثاً من التّعب، فأمرونا بارتداء ملابسنا، التى هجمنا عليها غير مصدّقين، ورحنا نلبسها على عجل، دون أن نبالى بتنظيفها، أو نفضها ممّا علق بِها من رمال وأوساخ .


وأخيراً، أخيراً جدّاً، ساقونا للسيّارة الكبيرة، التى ابتلعتنا سريعاً، وانطلقت بنا تشقّ طريقها عبر الشّوارع الصّامتة المقفرة، ونحن نرمّم أجسادنا، ونتمتم لبعضنا بعضاً، مُتظاهرين بعدم الاكتراث : (( سجن سجن )) ، ونرنو عبر غبش الزّجاج إلى الفجر المُنهك الذى كان يطلع.

ولد خالد الجبور فى يطا، فى محافظة الخليل، فلسطين، عام 1959. عمل مدرسًا لعشرين عاما فى دولة الإمارات العربية المتحدة، ويعمل منذ عام 2008 فى رعاية أشجار الزيتون التى زرعها فى أرضه. صدر له 14 كتاباً موزعة بين السرد والشعر للكبار والصغار، كما فاز بعدة جوائز عربية خصوصًا فى أدب الأطفال، وهذه القصة هى من كتابة «24 قصة قصيرة» الصادر عام 2017.

اقرأ ايضا | محمود شقير| مذكّرة إلى كوفى أنان