وزير الثقافة الجزائري الأسبق يكتب لـ«بوابة أخبار اليوم».. كيف نفكّ شفرة المستقبل؟

عزالدين ميهوبي
عزالدين ميهوبي

بقلم: عزالدين ميهوبي

أراد أحدهم أن يختزل الطريق إلى المعرفة فجاء بقاموس من ألف صفحة، وقام بطبخه وزاد عليه من التوابل، ثم شرع في أكله كأي وجبة دسمة.. إلا أنها سدت أنفاسه، فلا هو ابتلعها كاملة ولا أفلح في تقيؤها.. وأدرك أنه لن يصير عالمًا بالتهام كتاب، فمات ولم ينجح حتى في كتابة وصيته.. 

هذا ما حفظته من قراءتي لميخائيل نُعيمة أيام الشباب. وأمّا الشاهد في القصة، فهو مكانة العلم لدى الشعوب.. ولأن صديقًا دعاني إلى كتابة شيء في ذكرى يوم العلم التي نحييها نحن الجزائريين كل سنة تكريما لرائد النهضة الإصلاحية الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكذالأن من إفرازات أزمة كورونا أنها جعلت كل الحُكام يفكرون في ضرورة إيلاء العلم والبحث اهتمامًا جوهريا، لأنّ الوباء لن يرحل إذا لم نستثمر في الألف والباء.. ورأيت أن أدلو بدلوي في المقام.

استحضرُ فكرة العلم والعلماء دائما لأنني أنتمي لأمة "إقرأ"، ومعها أروي ما سمعته من كاتب ليبي عن مشهد للعقيد القذافي الذي فكر ودبّر في الثمانينيات، وأقدم على جلب أبرز العلماء العرب المقيمين في أمريكا والغرب، في مختلف التخصصات، وأغراهم بكثير من المال، وقال لهم "اجعلوا من هذا البلد قوّة في العلم والتكنولوجيا.." وانصرف إلى خيمته، فظلوا ينظرون إلى بعضهم البعض لا يعرفون كيف يكون الخروج من المأزق، إذْ لا بنْيَة تحتية جاهزة، ولا جامعات بمعايير عالمية، ولا مختبرات.. ولا بيئة موائمة، ولا مناخ نفسي يساعد على التفكير بحرية. مرّت أشهر، ولم يتحقق شيء.. وفي كل يوم يختفي عالم أو يهرب باحث.. إلى أن سقط المشروع في الماء.. فاكتفى القائد بابتكار نظريته الثالثة.

إن آلاف العقول العربية، حققت التفوق في مجالات تخصصها، بأوروبا وأمريكا وكندا.. من أبحاث الذرة والفضاء والتكنولوجيا الدقيقة والطب والهندسة، لأنهم وجدوا البيئة الحاضنة، في "سيليكون فالي" وغيرها من مراكز ومختبرات البحث العالية الدقة.. هم يعرفون أنهم لن يجدوا ذلك في بلدانهم حتى لو أرادوا خدمتها.. هل كان أحمد زويل سيحصل على نوبل في الكيمياء لو بقي في بلده، وهل كان بلقاسم حبة سيتجاوز الألف اختراع في الإلكترونيات لو بقي في وطنه، وهل كانت عالمة الفيزياء مها عاشور، والمختص في الطب الوراثي أحمد سعيد الطيبي، وعالم الفضاء مصطفى شاهين، وجراح القلب مجدي يعقوب، وجراح الأعصاب عليم بن عبيد.. هل كانوا سيكونون خُداما للإنسانية بهذه الدرجة العالية من التفوق العلمي.. لا أعتقد، لأنهم سيصطدمون بمناخ بيروقراطي مقوض لروح المبادرة والإبداع، ويجدون أنفسهم في مواجهة متاعب لا تنتهي. تنتهي عندما تتبنى الحكومات العربية مناهج صارمة ودقيقة، أساسها التعليم وتكافؤ الفرص.. ومعرفة إلى أين تتجه.

فالأمر لا يمكن اختزاله في تجميع مئات الأدمغة منباحثين ومفكرين في عديد المجالات داخل مبنى مكيّف ومرتّبات بحجم المرطّبات.. ولكن في وجود برنامج علمي وعملي واضح المعالم، وتأمين البيئة الصحية الكفيلة بإحداث الطفرة المطلوبة ضمن مشروع تنموي يمتد لسنوات، بدءًا من الاهتمام بالتعليم لأنه أساس المعرفة والتطور، وكذا مراعاة قدرة المجتمع في استيعاب هذا التحول بكثير من الحرية والتحفيز، فضلا عن حُسن التفاعل مع الأوضاع الجيوستراتيجية.. لأن حروب المعرفة يكثرُ فيها الضربُ تحت الحزام.
إن تجربة "الحكومة المستنيرة"أو ما يُطلق عليه حقبة "ميجي"، التي وضعها الامبراطور ميتسو هيتو (1852/1942) الذي حكم اليابان أربعين عامًا. أخرجها من عزلتها، وخلصها من النمط الاقطاعي الذي كانت عليه، ثم جعل لمرحلته شعار "الروح يابانية والمناهج غربية"، حيث تمّتسرقةُ المعارف والتكنولوجيا والعلوم من أوروبا في عزّ الثورة الصناعية، وشرع علماء ميجي "المستأربون" في بناء يابان مختلفة.. يُقدّس فيها العلمُ والعملُ والعلماء المبدعون.. لدرجة أنّ اليابانيين استيقظوا في الثمانينيات على عملات ورقية جديدة، لا وجود فيها لصورة الإمبراطور هيرو هيتو.. ولكن لشخصيات كثيرة وُضعت مكان الميكادو.. هي لعلماء وكتاب متميزين. 

هكذا يُحتفى بالعقول التي وصلت باليابان إلى هذا المستوى من التطور.. هم الذين يشكلون صفوة المجتمع، المكرسين لسيادة العلم وسلطته على السياسة. تجربة ميجي فتحت أعين كثير من الأمم على كيفية الحصول على المعرفة، ولعل شعوب آسيا، وما حققته النمور من تطوّر كبير، لهو دليل على أن الأمر يتعلق بالتعليم أولا وثانيا وأخيرًا. وما تجربة سنغافورة التي تحوّلت إلى مضرب للمثل، إلا دليلا على ذلك، فهي دولة تأسست على التعليم في مطلع الستينيات، إذ وجدت هذه الجزيرة الصغيرة التي تم طردها من الاتحاد الماليزي نفسها في العراء، فقام آباؤها المؤسسون بقيادة العبقري "لي كوان يو" بإنشاء دولة أساسها التعليم والتجارة.. وهي اليوم قوة اقتصادية مشهود لها بالإبداع والتفوق، إذ يكفي أنها تخصص سنويا ما يقارب 8 مليارات دولار لتحسين مناهج التعليم، وخاصة المواد التطبيقية كالرياضيات، بينما عدد سكانها يتجاوز الخمسة ملايين نسمة بقليل.. وعندما سئل لي كوان يو عن السر في تطور بلده قال: "الدول تبدأ بالتعليم، وهذا مابدأت فيه عندما استلمت الحكم في دولة فقيرة جدا فاهتممت بالاقتصاد أكثر من السياسة وبالتعليم أكثر من نظام الحكم وبنيت المدارس والجامعات وأرسلت الشباب إلى الخارج للتعلم ومن ثم الاستفادرة من دراساتهم لتطوير الداخل السنغافوري.

وقال أيضًا عندما سئل عن الفرق بينه وبين بعض بلدان آسيا "الفرق هو أننا نبني المكتبات ومراكز البحث العلمي وهم يبنون المعابد، نحن نصرف موارد الدولة على التعليم وهم يصرفونه على السلاح، نحن نحارب الفساد من أعلى الهرم، وهم يمسكون اللصوص الصغار ولا يقتربون من المفسدين الكبار".. وأعتقد أن الأمم التواقة إلى بناء مجتمعات منتجة ومؤثرة، يشعر فيها المواطن بدوره ومكانته، عليها بقراءة تجربة سنغافورة وبأسلوب لي كوان يو في الحكم.. أي الأخذ بمعادلة القسوة مع اللين، قوة القانون وجاذبية العمل.

 ويمكن أيضا قراءة تجارب كوريا والهند وتركيا وفنلندا ورواندا وغيرها من البلدان التي فهمت أن إعمال العقل والمعرفة والتفكير هو الذي يقود إلى الصفوف الأولى، فالأمر معقود بالعمل أولا وأخيرًا، ولم يخطئ ذلك المستشار الألماني الذي قال له محدثه "نحن معجبون بالمعجزة الألمانية.." فردّ عليه "إنك تهينني بكلامك هذا.. إن ما تراه هو نتاج جهد وعرق الشعب الألماني. نحن لا ننتظر معجزة لنكون على ما نحن فيه. الذين ينتظرون معجزة، كسالى، متخاذلون، لا يعملون..".

إن ما حققته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، لم يأت من فراغ، ولكنها أحسنت استغلال ظروف الحرب، ففتحت الأبواب أمام العلماء والباحثين، ومنحتهم كل ما يساعد على تطوير بحوثهم وابتكاراتهم، وأنشأت الشركات التي تشكل حاضنات للأفكار الجديدة والمشاريع السباقة، فانتهت إلى ما هي عليه بتكريس نفسها قوة عالمية سياسيا واقتصاديا وعلميا، رغم التنافس الذي فُرض عليها من الصين واليابان وكوريا ومجموعة البريكس، كونها استنزفت كثيرا من مواردها في حروب خاسرة، بينما استفاد الآسيويون خاصة من سياسة النأي بالنفس إلى بناء اقتصادات قوية وفاعلة هم يحصدون ثمارها اليوم..

ويحضرني هنا كتاب للأكاديمي الفرنسي دومينيك مويسي "جيو بوليتيكا العواطف" الذي قسّم العالم إلى ثلاث مناطق لعواطف وانفعالات، هي منطقة مشاعر الأمل بقيادة الصين و كوريا واليابان والهند التي تمنح البشرية السعادة بما تقدمه من منتجات تسيل اللعاب وتسلبُ الألباب، ومنطقة مشاعر الخوف بقيادة أمريكا والغرب الذي يعيش حالة قلق وفوبيا، ويتأهّب لعدوّ افتراضي قد يكون الإسلام وما أُلحق به، ظلمًا، من إرهاب وتطرّف أو عودة الأنظمة الشمولية، ومنطقة مشاعر الإذلال التي يمثلها، للأسف وبمرارة، العربُ والمسلمون الذين لم يعرفوا طريقهم إلى النهضة منذسقوط غرناطة 1492، فلم يقدروا على فك شفرة المستقبل، لا هم نجحوا في بلوغ منطقة الأمل ولا أفلحوا في التخلص من تأثير منطقة الخوف.

فالغرب خائف جدّا،بينما يستثمر الآسيويون في هذه الحالة لتوسيع نفوذهم الإقتصادي،حتى صاروا على مسامع القارات الخمس.. وعندما نتساءل عن السر، يكون الجواب جاهزا هو الاهتمام بالتعليم وتجديد مناهجه، وزيادة نسب الإنفاق على البحث العلمي، حتى أنّ كثيرًا من الدول قاربت نسبة 4% من ناتج الدخل القومي مثل السويد وكوريا الجنوبية. 

بينما تسقط النسبة تماما في بعض دول العالم الثالث، وإذا اجتهدت أكثر فإنها تبلغ أقل من 1%.. وربما لا يُطلبُ منها أكثر من ذلك، قدرَ دفعها إلى ضرورة أن تهتم أكثر بمنظومة التعليم، من لغة فاعلة ومناهج حديثة معزّزة بتحسين ظروف الإطار البشري.. أرضيتها مخططات استشرافية وزمنية. ولا يختلف اثنان في أنّ المعرفة اليوم صارت متاحة، وليست في عُلب مغلقة، في ظل ما هو متاح من معرفة تتضاعف كلّ دقيقة، بفعل تكنولوجيا الاتصال العابرة للحدود وللعقول، إذ أنّ اختزال المسافة ممكن اليوم، ولسنا بحاجة إلى أن نبدأ من الصفر.. يكفي عقلٌ يفكروينتج ويوجّهُ بوصّلتَهُ نحو المستقبل.