يوميات الأخبار

حنين المحرومين!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

أنتبه لطبيعة المعروضات المتباهية بدلالها خلف الفتارين، أدرك سبب نظرات العابرين التى تستنكر تأمّلى لها بهذا التركيز. يحمرّ وجهى خجلا وأشعر بالارتباك، فأبتعد مُسرعا! 


كُتب وكراكيب!


الأربعاء:


حركة تنقلات جديدة تتطلب تصنيف الكُتب المتراكمة.

أشعر بالبهجة كلما تزايدتْ أعدادها بفعل الشراء والإهداءات، بينما تتعامل زوجتى مع مقتنياتى بضيق. الكُتب من وجهة نظرها تجعل البيت مليئا بالكراكيب!

تكتفى بالتعليقات المُتقطّعة كل فترة، متوقّعة صمتى غالبا، أو ردودى بهمهمات غير مفهومة أحيانا.

لكنّها لا تقترب من مقتنياتى بترتيبها أو تسريب بعضها. إنه اتفاق غير مُعلن أصبح قانونا مُلزما بحُكم الاعتياد. لم أفاجأ برأيها الذى يتطابق حرفيا مع شكوى أمى المُزمنة.

امرأتان من جيلين مُختلفين يجمعهما توافق غير معتاد بين الزوجة وحماتها دائمة الشكوى من أخي.

الاثنتان أهداهما القدر رجُلين يملآن البيوت فوضى، بمطبوعات لا تُسمن ولا تُغنى من جوع! غير أن أمى تُذيّل شكواها عادة بسؤالين وجودييْن، عن قراءتنا لكل ما نقتنيه، والمنفعة التى تعود علينا من ذلك.


 فى الماضى فرضتْ سطوتها على كتب أبي، وألزمتْها بالإقامة الجبرية فى شرفة منزلنا. لم يملك الوالد حق الاعتراض، ربما لأنه اعتبر البيت مملكتها، أو لضمان استقرار السلم والأمن، لكنه- رحمه الله- انتقم بطريقة أخرى، فقد نقل عدوى القراءة لى ولأخوتي، وهكذا أصبحت الغُرف كلها مكتظة بالكتب، وفاض الكيل بوالدتى التى لم تعد تملك إلا الشكوى، فالتعامل مع الزوج مُمكن، غير أن مواجهة أربعة أبناء دفعة واحدة أمر بالغ الصعوبة.

تابع أبى قبل رحيله احتجاجاتها بابتسامة انتصار، فقد استطاع أن يثأر لكتبه التى عانت البرد والحر فى رحلتى الشتاء والصيف، دون أن تجد من ينتصر لها إلا بعد أعوام، عندما بدأنا نتسلل بها إلى الداخل كى نقرأها.

أمى وزوجتى ليستا نموذجين منفردين، بل تُعبّران عن حالة شبه عامة، لأمهات مُتعلّمات تمتلكن قدرا جيدا من الثقافة، لكن كلا منهن ترى أن الكُتب تُهدّد النظام العام.. للبيوت.

مجرد «كركبة» تنتقص من جماليات الغُرف، رغم حرص غالبية النساء على الاحتفاظ بأغراض أخرى متنوعة على أمل الاستفادة منها مُستقبلا، وفى النهاية تضيع وسط زحام التراكمات الجديدة.

فقط من يعرف قيمتها يشعر بالألفة مع الأوراق المطبوعة، رائحتها تفوح بعبق لا يستنشقه إلا من وقع فى عشقها، ومضمونها ينقل الإنسان بين عوالم أكثر جذبا من الواقع. 


كل ما أخشاه هو تأثير الزمان عليها.

كثير من مكتبات المشاهير «بيعت بالكيلو» عقب رحيلهم، أشعر بالإشفاق على زوجتى لأنها لن تستطيع التخلص من مكتبتى بعد عمر طويل لي، فقد تغيّر الزمن وبدأ تجار  «الروبابيكيا» بدورهم يعتبرون الكُتب سلعة راكدة!


عودة إلى وسط البلد


السبت:


أخرج من باب الجريدة ليلا. قرار مفاجئ يقودنى إلى وسط المدينة. أمضى بلا هدف ولا موعد يضطرنى لذلك.

أكتشف أن سنوات من القطيعة أبعدتنى عن مكان لا تفصلنى عنه سوى دقائق. قديما كان لقاؤنا شبه يومي، مُغرم أنا بتفاصيل الشوارع، أنسى الزحام وتتسلل الهموم إلى الفضاء مؤقتا، ثم تعود لاحتلالى بعد انتهاء الجولات المُتكررة.

اليوم فقط قرّرتُ أن أصل رحم المكان. معالم كثيرة تغيرّت، والبشر يحملون ملامح غير التى اعتدتُها قديما. أنطلق من شارع 26 يوليو إلى طلعت حرب.

لا تستوقفنى الفتارين ذات الأضواء الصاخبة والمُحاصرة بموسيقى تحمل نكهة الضجيج. أستكمل السير إلى الميدان الذى يحمل اسم الشارع. بزاوية انحراف بسيطة أجد نفسى فى شارع قصر النيل، أمضى حتى أشعر بالملل.

للمرة الأولى ينهزم الحنين فى مواجهة الواقع وأقرر العودة إلى نقطة البداية. فجأة، يأسرنى صوت وردة، ينبعث من محل تجارى تمرّد على الضوضاء بالانحياز إلى العذوبة، تشدو: «شايلاك فى ننّ عينى واللى بينك وبينى أشواق كل الأحبة.. وحنين المحرومين آه ياعيني.. آه يانا م الحنين».

أتوقف عن السير، أتظاهر بمشاهدة معروضات لا أنتبه لطبيعتها. ها هو الحنين يرفض الاستسلام للهزيمة، ويحاصرنى بأسلحة يُدرك تماما أنها تُدمّر كل أشكال مقاومتي، تتآمر الكلمات مع نزعة فطرية تميل لكل ما هو قديم. أطيل الوقوف لأستمع للأغنية وهى تفض بكارة ذكرياتي، متجاهلا نظرات دهشة من عابرين يمرّون بى سريعا.

« أنا دايبة فيك حنين..

والغربة توّهتْنى لكن ما غربتْنى عنك طول السنين»، أكتشف أننى اغتربتُ دون سفر.

لا أذكر سبب القطيعة مع شوارع وسط البلد، تلك التى التهمت جانبا كبيرا من شبابنا، نقتنص فيها ساعات راحة بعيدا عن عمل أحببناه وسرق منا الزمن. فى البداية عرفتُ مع زملائى كيف نوازن بين الجد والهزل، وتدريجيا تراجعتْ المتعة أمام دوامات اللهاث.

أستحضر أماكن كانت تحتضننا ثم هجرناها، هل تشعر بالحنين لنا أم انتقلتْ لها عدوى التجاهل؟ أعتقد أن الحجر أكثر إخلاصا من البشر، وأن ذاكرته تحتفظ بآثارنا رغم البعاد.

وحده الإنسان يُتقن الهجر ثم يبكى بعده من الألم.

قد يكون ذلك مُبررا فى حال الاضطرار، لكننا نمارس الفعل نفسه باختيارنا. يتوقف انسياب الأفكار مع انتهاء الأغنية.

أنتبه لطبيعة المعروضات المتباهية بدلالها خلف الفتارين، أدرك سبب نظرات العابرين التى تستنكر تأمّلى لها بهذا التركيز رغم تقدّمى فى السنّ. يحمرّ وجهى خجلا وأشعر بالارتباك، فأبتعد مُسرعا وأكاد أقسم لهم أنه ليس «حنين المحرومين»!


الحمّى.. والبرغوثّ!


لماذا ينتصر الحنين دائما؟ غالبا يخسر الحاضر فى أية مقارنة مع الماضي، وتمتلك الذكريات قوة استثنائية فى مواجهة أحداثنا اليومية. قد يبدو ذلك مُبررا فى مجال السياسة، فالبشر يميلون للمعارضة تلقائيا، لكن الغريب أن يحدث ذلك على المستوى الشخصي.

هل هى صدفة أن تكون عبارة «ياااه.. كانت أيام» هى العامل المشترك بين غالبيتنا؟

فى البداية اعتقدتُ أنها ظاهرة حديثة نسبيا، ابتدعها أجدادنا الأقربون ثم تناقلنا ما وجدْنا عليه آباؤنا، غير أن المفاجأة أدهشتْنى وأنا أطالع أحد كتب المؤرخ الكبير تقى الدين المقريزي، فقد أكد قبل قرون أن الإنسان يميل بطبعه للمبالغة عند التعامل مع مشكلة راهنة.

وضرب مثالا مُستوحى من عصره، لرجل فوجىء ذات ليلة بلدغات البراغيث تمنعه من النوم، قاده التداعى الحر لذكرياته إلى الحمّى التى أصابته قبل سنوات، ورغم أن المرض المؤلم كاد يسلبه حياته، إلا أنه فى اللحظة الحاضرة سيعتقد أن تأثير الحمّى أمر بالغ الضآلة مقارنة بمعاناته مع البراغيث!

هذه ترجمة مُبسّطة لما ذكره المقريزى، وهكذا نتعامل مع الماضى دائما بوصفه الفردوس المفقود، بعد أن يمنحه الحنين تأثير الخمر، فتتداعى الذاكرة وتلفظ لحظات اعتبرها كل منا نهاية الدنيا، لكن النسيان يفقد مفعوله للأسف عندما تكون المعاناة فى ذروتها.


عوامل تعرية.. الزمن


الأحد:


تُطالعنى صورتها على «فيس بوك».

لا أشعر بالدهشة من تغيّرات ضربتْ ملامحها، فالزمن فنان بارع يُتقن فن تشويه التفاصيل، لا نلمس مجهوده إلا إذا كان البُعد طرفا ثالثا فى المعادلة.

هى فنانة اكتسبت شهرتها من دور وحيد مع فنان كوميدى شهير، واختفتْ بعدها وسط تساؤلات عن مصيرها مع كل عرض للفيلم.

ظهرتْ أخيرا واحتفظتْ تفاصيلها ببعض من سحرها، لكن المقارنة ظالمة بين شكْلين يفصل بينهما سنوات. فى الروايات يكون الوصف السهل هو: «امرأة يحتفظ وجهها ببقايا جمال قديم».

وصف مناسب لأشخاص لا يربطهم بنا سوى خيال يتآكل تدريجيا، بحكم عوامل تعرية الزمن. قد نشعر بالشفقة تجاه من لا نعرفهم، لكنه شعور مؤقت سرعان ما يتراجع أمام انشغالات أخرى أكثر حضورا.


يهاجمنى «فيس بوك» بمدفعيته الثقيلة القادمة من الماضى.

صور لأصدقاء ومعارف تتوالى احتفالا بمناسبات مختلفة: أديبة متميزة سعيدة بتكريمها، شاعر يبتسم سعيدا فى حفل توقيع كتاب له، وآخرون يقتنصون مساحة من البهجة، عبر نقرات إعجاب بصور ينشرونها ليُثبتوا لأنفسهم أن الحياة لا تزال فى متناول أيديهم. إنهم أصدقاء مُزمنون على مواقع التواصل فقط، فرّقتنا الدنيا رغم قُرب المسافات نسبيا، حتى أن ملامحهم فى الذاكرة تحتفظ بمواصفات اللقاءات الأولى.

تبدأ الصدمة عندما تلتهم عيناى صورهم الحديثة، ليست صدمة ناتجة عن تغيّرات تبدو جوهرية، بل لأن الزمن يسرق أعمارنا بالبُعد، لدرجة تعبث بالملامح. أتجه لأقرب مرآة وأتأملنى، أعرفنى بحُكم الاعتياد فقط، أو لأننى اعتدتُ النظر إلى ملامحى مرة واحدة على الأقل يوميا.

لو أننى قضيتُ سنوات فى جزيرة مجهولة لا تعرف المرايا، ثم استعدتُ القدرة على تأمل ملامحى من جديد، فغالبا سأصاب بالفزع، لأن المرآة سوف تُصدّر لى صورة شخص لا أعرفه، يختلف كثيرا عما كنته قبل أعوام، المساحات المزروعة شعرا تتراجع.

التجاعيد تفرض سطوتها على وجه يفقد نضارته، والهيكل يتصدع تدريجيا لدرجة التلاشى. حقائق لا ننتبه لها بفعل التفاعل اليومي، لكن لقاءات الفجأة على «فيس بوك» تصفعنا بما نتجاهله. إنها باختصار حكايتنا جميعا مع الزمان!


إرجع إلىّ


الثلاثاء:


«إرجع إلىّ.. فإن الأرض واقفة كأنما الأرض فرّتْ من ثوانيها.. إرجع فبعْدك لا عقد أعلّقه..

ولا لمستُ عطورى فى أوانيها».

كلمات أبدعها الشاعر الكبير نزار قبانى عن امرأة تشعر بالحنين لحبيب فقدتْه، لكنها تصلح أيضا للتعبير عن أزمان نفتقدها!