بشير مفتى صراع الثقافة مع الرقيب

بشير مفتى صراع الثقافة مع الرقيب
بشير مفتى صراع الثقافة مع الرقيب

تطرح مسألة الرقابة سؤالاً مهماً على الكاتب العربى فى الوقت الراهن: إلى أى مدى يتمتع هذا الكاتب بحرية كاملة عندما يكتب؟ فبعيداً عن الرقيب الخارجى الذى تعودنا عليه ويشبه السيف المسلط على رقاب الكتاب منذ زمن بعيد توجد كذلك الرقابة الداخلية - الذاتية- التى تجعل الكاتب العربى حتى هو يمارس تلك الرقابة الذميمة على نفسه، قبل أن يراقبه غيره،  خشية عواقب كثيرة يمكن أن يتعرض لها عندما يمارس حقه الكامل فى الحرية داخل مجتمعات عربية مقموعة وتمارس بدورها القمع على من يكتبون

الأمر الذى يجعله يقتنع  فى النهاية أن حريته جد محدودة، وأن دوره فى الكتابة كان دائما مرتبطا بالحرية ومهمته الأساسية هى توسيع مساحة الحرية إلى أبعد حد، وقد يظن البعض أننا نعيش عصر العولمة والعوالم الافتراضية والرقمية التى من شأنها أن تجعل الناس أحراراً وهم يكتبون ما يخطر على بالهم على صفحات الفايسبوك أو التويتر، فما بالك بالكتاب، لكن الحقيقة غير ذلك، إن فضاءات التواصل الاجتماعى نفسها أصبحت وسيلة مراقبة هائلة ضد حرية التفكير والرأى الحر، ويصبح بالتالى من الصعب على الكتاب قول ما يجول فى خواطرهم من أفكار نقدية غالب الوقت خشية المواقف العدائية التى تتبناها جماعات دينية أو سياسية أو من فئات مجتمعية أخرى تجعل الحرية مطلبا بعيد المنال، وترغم حتى الكتاب على عدم التصريح بمعتقداتهم الفكرية والسياسية خشية العواقب..

منذ نيل الجزائر استقلالها عام 1962 وتوجه النظام إلى حكم الحزب الواحد خلال تلك الفترة نشرت أغلب الكتب السياسية المعارضة للنظام فى الخارج، وبفرنسا بالتحديد، وهى مؤلفات كتبها مناضلون شاركوا فى الثورة التحريرية ولكن كانت لهم مواقف نقدية من الحكم البن بلى أو البومدينى.

وكانت كتبهم ممنوعة فى الجزائر، اما ما كان ينشر داخل البلاد فكان ينشر ضمن مؤسسات نشر حكومية حيث لم يكن يسمح بتأسيس دور نشر خاصة، والقلة القليلة التى سمح لها بذلك لم تكن لتنشر كتبا نقدية بل اكتفت هى الاخرى بنشر ما يسمح به جهاز الرقابة فى الحزب.

وكانت الدولة هى التى تقوم على شأن الكتاب والكتابة، وأغلب من كان يكتب فى الجزائر كان خطابه يتساوق مع الرؤية السياسية والأيديولوجية للنظام الحاكم، ولم يحدث تعارض فى الرؤية مع سيادة نزعة الواقعية الاشتراكية التى كانت تساير اشتراكية الحكم غير أن ذلك لم يمنع بعض الكتاب مثل الطاهر وطار من توجيه نقد للحكم بطريقة رمزية فى روايته «الحوات والقصر» أو كما فعل فى أول أعماله « اللاز» التى تطرق فيها لقتل الشيوعيين فى الثورة التحريرية، لكن مع ذلك نشرت تلك الأعمال الروائية فى الجزائر ولم يعترض عليها أحد.

مادام الطاهر وطار نفسه كان عضوا فى الحزب الحاكم، هذا الحزب الذى يجب أن نعترف أنه كان يضم كل التيارات السياسية المختلفة من تقدميين ومحافظين وليبراليين..إلخ ورغم التحسس من حرية الكتابة الأدبية فى تناول قضايا غير مرغوب الحديث فيها، إلا أن الأدب لم يكن مؤثراً بالشكل الذى يجعل السلطة تتخوف منه أو تمارس عليه المنع، صحيح أن الأعمال التى كتبت بالفرنسية ونشرت بباريس فى فرنسا كانت أكثر نقدية بعض الشىء، مثل بعض روايات نبيل فارس.

لكن فى المجمل كانت الرقابة تشمل فقط ما يصدر فى الجزائر وضمن منشورات المؤسسة الوطنية للكتاب التابعة للحكومة والتى ستفلس فى نهاية الثمانينيات مع ثورة أكتوبر الشبانية 1988 التى غيرت خط سير البلاد من حكم الحزب الواحد إلى التعددية السياسية وفتحت بذلك الطريق لتأسيس دور نشر جديدة وصحافة جديدة كان شعارها الحرية والحقيقة..

لكن تلك الفترة الذهبية للحريات لم تستمر لفترة طويلة إذ تزامنت مع صعود موجة الاسلام السياسى القوى الذى استولى على كل المساحات، وبدأ يفرض رقابته هو الآخر منتصراً لخطاب «قال الله قال الرسول» و«لا ميثاق لا دستور» بل بدأت عمليات تهديد وتخويف لكل الفئات المثقفة ونالت قاعات السينما عقابها هى الأولى حيث لم يعد يقبل أن تبث فيها الأفلام أو تقام الحفلات الغنائية، لقد شاهدنا فى تلك الفترة عنفا رمزيا من طرف الإسلاميين وتهجمات على الكتاب المتهمين بالشيوعية واليسارية والمعاداة للدين وهذا ما كلف النخبة عندما فشلت تلك التجربة الأولى للديمقراطية  ودخلنا دوامة العنف والاقتتال الوحشى الكثير، فقتل من قتل، وهجر من هجر، ومرت حقبة كاملة فى جو من العنف والكوابيس  وتحولت الكتابة يومها إلى معركة مفتوحة  ضد ما سمى بالإرهاب الأعمى.


 جاءت مرحلة ما بعد التسعينيات بآمال وأحلام جديدة، لكن الأفق السياسى لم يكن واضحا وجلياً، ورغم هزيمة الارهاب إلا أن التحول السياسى نحو مجتمع الديمقراطية والحريات لم يحدث بعد، ولم تكن الثقافة بشكل عام أولوية الأولويات عند السلطة، أما النخب الثقافية فلقد كانت مبتهجة بعودة الأمل فى الحياة واندحار الارهاب الذى بقى مع ذلك مستمرا فى ذاكرة الكتاب والمثقفين وحتى الناس البسطاء.

وذهبت أغلب الروايات التى صدرت فى تلك الفترة للحديث عن عشرية الدم والسواد لكن النبرة اختلفت عن كتابة المرحلة التسعينية التى كانت تعتبر الكتابة مقاومة إلى  كتابة تريد أن تكشف آثار الارهاب وفداحة وقعه على الأرواح والأجساد، صحيح أن قانون المصالحة الوطنية الذى أوقف سيلان الدم منع  الحديث عن الاسلاميين كإرهابيين، لكن عند قراءة الاعمال الروائية التى صدرت نجد أنها بقيت تسمى الإرهاب باسمه الحقيقى.

ولم نسمع عن  محاكمة روائى عن ذلك، وحتى سينمائيا نجد أفلاما كثيرة  اقتربت من موضوع الارهاب مثل أفلام مرزاق بقطاش المخرج الذى يعتبر أكثر واقعية والتصاقا بمختلف فترات تاريخ الجزائر المعاصرة ففى التسعينيات أخرج فيلم «باب الواد سيتى» كما فيلم « عالم آخر» قبل أن ينتج فيلمه عن نهاية تلك الفترة وقانون المصالحة الوطنية «التائب» صحيح أن علواش يعتمد على نفسه فى الانتاج والدعم أو على شركات أجنبية وليس على دعم الدولة هربا من الرقابة وهو حل يجد الكثير من المخرجين الجزائريين انفسهم مجبرين عليه فهم يجدون دعما ماليا كبير من الشركات الفرنسية أو غيرها لإخراج أفلامهم ويعرفون أن أى دعم حكومى يعنى التقيد بشروط اكراهية كثيرة، لكن هذا لم يكن حال الجميع فهنالك من يعتمد على الدعم ويتفادى بالتأكيد التطرق للمسائل الشائكة وهذا ما نجده فى فيلم «المنارة» لبلقاسم حجاج، أو «رشيدة» لأمينة شيخ، أو «مُوريتُورى» المقتبس من روايات ياسمينة خضرا البوليسية الأولى والتى كانت سبب شهرته ونجاحه الأدبى قبل أن يتحول إلى مسار روائى آخر ويطلق الرواية البوليسية ومفتشه الشهير لوب.


تطرح الرقابة فى السينما  نفسها بقوة مادامت السينما تحتاج إلى مال كثير لإنجاز فيلم وهذا ما يجعلها  خاضعة لشروط المؤسسة الممولة سواء أكانت وطنية- حكومية-  أو أجنبية، وحتى لو ادعت الشركات الأجنبية أنها لا تتدخل فى أعمال الفنانين لكن الواقع يقول غير ذلك، وشاهدنا العديد من الافلام الجزائرية التى تنتج صورة استشراقية مزيفة عن الواقع الجزائرى، صحيح أن  الدولة تفطنت إلى ذلك وفى مرحلة معينة قدمت دعما إلى السينمائيين خاصة عندما عاشت الجزائر فترة البحبوحة المالية حيث انتجت هذه الفترة عشرات الافلام الهزيلة التى بلا روح ولا فن.

لكن على مستوى الإنتاج الأدبى الذى يهرب من الرقابة وجدنا العديد من الأعمال الروائية النقدية التى تتحدث عن الفساد  مثلا وحتى عن الاستبداد ففى عز حكم الرئيس بوتفليقة  ظهرت روايات مثل «الأعظم» لإبراهيم سعدى أو رواية «زعيم الأقلية الساحقة» لعبدالعزيز غرمول وهى روايات بارودى ساخرة عن الحاكم المستبد الذى لا يقبل التنازل عن عرشه.

ومع ذلك ظهور مثل هذه الروايات لم يكن له صدى كبير أو تأثير على الناس، فليس للأدب حتى الآن تأثير واسع على القراء مادامت أغلب الروايات يسحب منها فى أحسن الأحوال ألاف نسخة فقط، من هنا لا تهتم السلطات الرقابية على الأدب كما تفعل مع السينما أو الإعلام المكتوب أو المرئى المسموع،.

يعانى الثقافى من نفس ما عرف بالثالوث المحرم فإذا كانت السلطة تتحسس من المواضيع السياسية وحتى التاريخية فتراقب الاعمال التى تنبش فى ذاكرة الماضى أو سدة العرش نجد المؤسسة الدينية ومعها المجتمع يتحسس من المواضيع التى تتطرق للأمور المتعلقة بالدين  أو الجنس.. إلخ، أتذكره مرة بالصدفة كنت ماراً بقرب مسجد وسمعت الخطيب يتحدث عن عناوين روايات يراها تنشر الرذيلة وذكر «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمى.

و«اكتشاف الشهوة» لفضيلة الفاروق وذكر عنوان إحدى رواياتى «خرائط لشهوة الليل» وأزعم أنه لم يطلع على روايتى لأن شهوة الليل كنت أتحدث فيها عن شهوة السلطة وليس الجنس كما حدث نفس الشىء مع رواية كمال داوود الأولى «معارضة الغريب» التى انتقد فيها الدين فرفع أحد شيوخ الدين صوته عالياً داعياً حتى إلى إعدامه، وهى أمور تحدث من حين لآخر، صحيح أن المجتمع تغير بعض الشىء، ولم يعد لشيوخ الدين الكلمة الأخيرة فى أمور الدين.

لكن بقيت موضوعات كالجنس والدين والسياسة تجلب لمن يقترب منها الكثير من المشاكل والتهم والتكفير الأمر الذى يعرض الكتابة إلى أن تراقب نفسها أحياناً حتى لا تخدش أى تابو من تلك التابوهات.

اقرأ ايضا | تطرح مسألة الرقابة سؤالاً مهماً على الكاتب العربى فى الوقت الراهن: إلى أى مدى يتمتع هذا الكاتب بحرية كاملة عندما يكتب؟