مريم السعدي تكتب : شجاعة الوقوف أمام الخلل

مريم السعدي تكتب : شجاعة الوقوف أمام الخلل
مريم السعدي تكتب : شجاعة الوقوف أمام الخلل

لا أعرف إن كنت أنا الشخص المناسب للإدلاء بشهادة فى هذا الموضوع، لكن عموماً سأتحدث عما أعرفه واختبرته شخصياً وليس فى العموم حتى أكون دقيقة فى شهادتي، فربما يكون فى الصورة العامة أفق أكثر رحابة من اطلاعى الشخصي. فأنا شخص محدد أحب قول الأشياء كما هى ولا أفكر كثيراً فيمن يمكن أن يغضب أو يتحسس أو يُستفز، لا يعنينى الأمر، لأنه ساعة أحس بذلك لن أكتب، وفى الواقع هذا ما حصل. هذا أول مقال أكتبه بعد فترة انقطاع دامت لأكثر من عام، وأرجو ألا يكون الأخير! 
 ليست لدى معاركى الكثيرة، فضلت كثيراً اتخاذ قرار الانسحاب حين أجد الأبواب مغلقة أو حتى مواربة، لا أجاهد كى أفرض رأيي، آمنت دوماً أن من لا يريد أن يسمع رأيى لن أكرمه بالإلحاح.

كنت أكتب بعفوية وحرية فى مواقع الانترنت، واعتقدت دوماً أن حريتى كانت مسئولة، فأنا بطبعى لست شخص صدام (اكتشف لاحقاُ أن الآخر لا يرانى كذلك وكلّ حسب سقف وعيه وحريته) ثم حين انتقلت للكتابة فى الصحف الرسمية والتزمت بكتابة عمود أسبوعى ثابت فى جريدة رسمية أصبحت أقصقص من انطلاق أفكارى وأحد من اندفاع مشاعري، بعد تلقى الملاحظات من التحرير كل مرة حتى نما بداخلى الرقيب الذاتي.

لم أرد عموماً أن أغضب أحداً ولكن لم أعرف ماذا يغضبهم بالضبط. كان يُطلب منى حذف كلمة «قبيلة» مثلاً من أحد المقالات لاعتبارات لم أستوعبها، ومرة حذف اسم «أبوظبي» من مقال عن فيلم اجنبى يتم تمثيله فيها واستبدالها بكلمة «المدينة»! ولم تكن هذه الملاحظات تزعجنى فربما يرى المحرر فعلاً ما لا أراه ولست شخصاً متعنتاً فيما يخص مصطلحاتى اللغوية. ثم حين كتبت عن الفعاليات الثقافية العالمية التى تقام على أرضنا دون دعايات مناسبة وحضور جماهيرى أو حتى نخبوى من أفراد المجتمع المحلى لم يجد المحرر أن من اللائق نشر هذا الكلام، أقول له لكن هذه فعاليات مهمة تستقطب شخصيات مؤثرة من مختلف أنحاء العالم فى الأدب والثقافة والإعلام، لماذا لا يتم على الأقل إلقاء الضوء عليها بشكل مكثف ودعوة المهتمين فيستفيد المجتمع ويحدث تلاقح إيجابى فكرياً وكذلك نفسياً؛ ففى الالتقاء بالناس المتبحرين فى المجالات الفكرية من أراض مختلفة بهجة للروح وانتعاش للعقل وإغناء للنفس.

وهذه الفعاليات مكلفة جدا مادياً وعلينا لذلك استغلالها لأقصى حد ممكن للاستفادة منها ولفت الجهات المنظمة لذلك، ثم إنى قد التقيت بعض ضيوف هذا الفعاليات وعبروا عن رغبتهم فى التعرف أكثر على ثقافة البلد الحقيقية واستيائهم من عدم الالتقاء بالسكان الاصليين.

وأنهم لم يأتوا فقط للإقامة فى فنادق الخمس نجوم بوجبات مطاعمها الشهية، « نحن لسنا هنا لنأكل حتى التخمة» هكذا قالوا لى وكتبت ذلك. ربما وجد المحرر هذا الكلام جارحا، بالنسبة لى أنا هذا كلام عادي. أنا اقول فقط الحقائق كما هي، لا امتلك مهارة التجميل، حتى لو شاركت صورتى لا أحب استخدام الفلاتر التى تجعلنى قطعاً أجمل ولكن ليس أنا ( أضيف بعض الرتوش لتصفية البشرة فقط من باب الأمانة).  

فى أحد المقالات كتبت عن سبب عدم اهتمام الشباب بالقراءة ولماذا إذا ذهبوا لمعارض الكتب يُقبلون على الكتب عديمة القيمة فقط مثل تلك القصص المضحكة التى يكتبها البعض ممن لا علاقة له بالكتابة وإنما اتخذها كموضة رائجة وسبباً للشهرة، تلك الروايات التى تكون كلها حوارات من قبيل « كيف حالك يا أحمد هل نذهب لمشاهدة الفيلم» وهناك يقبض على يدها ويتناولان بعد ذلك الآيس كريم والكنافة وهذر مستمر حول المطاعم والطعام ومشاعر أفلام تجارية.

ولا اعتراض لدى على ذلك لو كانت الكتابة جميلة فيها حس أدبى ما أو لو كان هذا مجرد جزء ضئيل من كل أكبر. لكنها فعلاً مجرد هذر وهو كل ما يقرؤه هؤلاء الشباب، وفى هذا هدر لأوراق الشجر، وأنا أحب الشجر، أستظل بظلها فى الهجير وأستند على جذوعها حين تميل الأرض.

ولن أسمح لأحد أن يصل على جثتها لمجده الزائف. المهم أن المقال لم يتم نشره لأن رئيس القسم الثقافى رأى أنه غير عادل فشبابنا يقرأون ومثقفون، هو أخذ الأمر بمنحى شوفينى إذ كيف «أنتقد «شباب الوطن»، أنا لم أكن أنتقد شباب الوطن، لم أفكر هكذا أصلاً، كنت أنقل فقط انطباعى عن ظاهرة حقيقية وغير صحية. كنت أتحدث عن حقيقة موجودة فى كل العالم ولكنى أنا كاتبة من «هنا» فمن الأجدر أن أكتب عن «هنا» وأترك كتاب العالم يكتبون عن مناطقهم، هكذا المنطق، لكن قال هذا غير ممكن يجب أن نقدم صورة ايجابية طوال الوقت.

وهذا طبعا مضحك جداً ولا منطقى وغير بشرى ولن يصدقنا أحد. طبيعة المجتمعات البشرية أن تكون مليئة بالأخطاء والنقص والمناطق الهشة مهما أبهرت وتألقت، وحال تصبح كاملة متكاملة تصبح الفردوس الأعلى، والواقع أننا مازلنا على قيد الحياة على كوكب الأرض ولم ننتقل بعد إلى الحياة الأخرى، حين ننتقل ولو ظلت هناك صحافة وكتابة حتما سأكتب عن الجمال اللامتناهى والكمال الخالص والأفق اللازوردي، لكن حتى ذلك الحين سأظل أكتب الأشياء كما هي.

لكن أعتقد الرقابة فى المجلات الثقافية أقل حدة، إذ كتبت فى المجلات الثقافية بأريحية ولم أتلق أى ملاحظات ( بعض هذه المجلات توقف عن الصدور، وأحب أن أتصور أن ذلك لأسباب مادية أو لوجستية فقط).  


أنا لا أعرف إن كان هؤلاء الأشخاص المتحكمين فى منافذ النشر الصحفية والإعلامية يتصرفون هكذا بناء على تعليمات عليا أو هى فقط اجتهاداتهم الشخصية حرصاً على الكرسى الذى يجلسون عليه. لكن الحقيقة أن الوطن العربى برمّته لا تتمتع فيه حرية التعبير بأفضل فرصها.

ولكن إن بدا ذلك منطقياً فى بلدان مازالت تكافح كى تحقق أساسيات الكرامة لشعوبها فالإمارات بلد يقدم نفسه خارج هذا السياق انتماء للعالم الغربى الأكثر تمدناً وإن احتفظ بصبغته الشرقية.

ولكن حضارة الغرب ما كانت لتكون لولا الاحتفاء المطلق بالحريات الفردية وحرية التعبير جوهرة هذه الحريات المقدسة. وفى ديننا «لا ضرر ولا ضرار» ومن يحدد الضرر مثلاً من لقاح قد ينفع وقد يضر لكن رغم ذلك علينا أخذه وهكذا «الكلمة» نقولها بحسن نية ومحبة قد تنفع ولكن حتما لن تضر إلا من له مصلحة تخصه وحده.

نكون مطبلين مدلسين لو قلنا غير ذلك. بالطبع ليس كل كاتب ينطلق من منطلقات حرص ومحبة ولكن انفتاح الأجواء كفيل بتنقيح الاطروحات المختلفة.

ودور الكاتب الطبيعى هو أن يشير إلى الخلل ليتم اصلاحه، هو ينبه أن هناك خطأ ما فى منطقة ما وعليه يجب التنبه واتخاذ التدابير اللازمة لتداركه قبل أن يتفاقم، الكاتب يحب الناس والأوطان ويريد لها الاستمرار والبقاء بصحة وعافية وهذا لا يتأتى بالمدح فقط طوال الوقت.

وعموما إن لم أشعر أنى أستطيع انتقادك حين تخطىء حسب وجهة نظرى فقطعاً لن أشعر أنه من اللائق أخلاقياً أن أمدحك حين تصيب. والايجابية لا تعنى الانكار والتغاضى عن المشكلات بل هى شجاعة الوقوف أمام الخلل والاعتراف به لتعديله.

أنا أحب الامارات، بغض النظر عن كونها بلدي، الكثير من الناس يحبونها وتهفو قلوبهم نحوها، والحق يقال هى تقدم نموذجا خاصا جداً وجريئا فى منطقة مغايرة يحتاج الكثير من التمهل والتمعن والتفكر قبل إطلاق الأحكام (إلا لمن له مآرب أخرى).

وهذه التجربة الخاصة جدا تولّد لدينا ككتاب الكثير من الأفكار والتساؤلات والاقتراحات والرغبة فى الإدلاء بدلائنا الفكرية دون توجس من المساءلة والتشكيك والتخوين، نحن لدينا «رؤية» ،أقصد ككتاب.

وليس تفاخراً، لكن فقط عندما تسكنك الكتابة فأنت تصبح شخصاً «يرى» حتى لو كان نظرك ضعيف أو كنت أعمى. عين البصيرة ما يهم،  فأصغ لمن يرى، لن يضرك لا تقلق.

أُدرك ان التحديات كبيرة جداً، والوضع الاقليمى يحتم اتخاذ إجراءات وتدابير احترازية معينة لفرض الأمن وضمان الأمان.

ولكن هذا اختبار حقيقى للقوة، أن تفتح ذراعيك لتيارات الأفكار دون خوف. تنهض الأمم وتبقى بنهوض الوعى فى شعوبها وعمقه واتساعه، والشعب الواعى الذى يجيد التفكر والتفكير هو الرقابة الحقيقية لسلامة أى وطن. 

اقرأ ايضا | لا أعرف إن كنت أنا الشخص المناسب للإدلاء بشهادة فى هذا الموضوع، لكن عموماً سأتحدث عما أعرفه واختبرته شخصياً وليس فى العموم حتى أكون دقيقة فى شهادتي، فربما يكون فى الصورة العامة أفق أكثر رحابة من اطلاعى الشخصي