«مي زيادة» .. مآساة إنسانية.. ومغامرات إبداعية خارج التصنيفات الجاهزة

مي زيادة
مي زيادة

مى زيادة (1886 ـ 1941) صاحبة تجربة إبداعية وثقافية وفكرية كبيرة، ومستشرفة، سابقة لزمنها، ومأساوية أيضا، إسهاماتها فى الإبداع والثقافة والصحافة والحياة الأدبية والاجتماعية، خلال العقود الأولى من القرن الماضي.

إسهامات مشهودة وباقية، لم تحظْ ربما، فى جانبها الأدبى بوجه خاص، بما تستحق من اهتمام كاف يصل بينها وبين السياقات التى أحاطت بها، والسياقات التى أعقبتها وتلتها.

وعلى الرغم من وفرة الكتابات الصحفية والنقدية عن هذه الإسهامات؛ فقد ركز جزء كبير منها على جوانب بعينها فى تجربة «ميّ»، مثل رسائلها، وعلاقتها بجبران خليل جبران، أو حبّ بعض الأدباء لها، أو المأساة التى أحاطت بمرضها والنكران الذى لقيته من بعض المحيطين بها، ولعل هذا التركيز قد تحقق على حساب تأمل نصوصها نفسها، وما انطوت عليه من قيم.

وما استكشفته من مساحات جديدة للكتابة، طبعت كتابات مى زيادة طبعات عدة، وشملت مؤلفاتها الشهيرة المعروفة، كما كانت هناك محاولات لجمع نتاج لها لم يكن منشورًا فى كتب: (ومن ذلك ما جمعه د. جوزيف زيدان وقام بتحقيقه ونشره تحت عنوان: «المؤلفات المجهولة لمى زيادة»، وما جمعته وحققته أنتيا زيجلر ونشر تحت عنوان «مى زيادة.. كتابات منسيّة»).

ومع إمكان توزيع كتابات «ميّ» الغزيرة على مجالات التصنيف الشائعة للأنواع الأدبية، مثل الشعر والقصة والنقد، وأيضا على مجالات المعرفة المتنوعة، مثل الحضارة والاجتماع والعمران والتاريخ والفن والسياسة، فإن قطاعًا كبيرًا من كتابات «ميّ» خاض مغامرات متنوعة فى مساحات جديدة، أو كانت جديدة فى زمنها، خارج الحدود التى كانت شائعة فى التصنيفات الأدبية، ومى زيادة، من هذه الوجهة، تلتقى وبعض تجارب المبدعين الذين فاضت كتاباتهم خارج كل محاولة لاتباع القواعد الراسخة، أو استنت لنفسها قواعد فنية جديدة.

داخل التصنيفات المتعارف عليها أسهمت «مى زيادة» بكتابة أعمال واضحة الحدود مثل (أزاهير حلم)، وهو ديوان شعر بالفرنسية، و(سوانح فتاة) وهو مذكرات لها، وكتاب (الصحائف)، وبعض نصوصه مختارات من مقالاتها، و(رسالة الأديب) و(غاية الحق)، وقد تضمّنا بعض محاضراتها.. إلخ. ولكن مع هذه الإسهامات كتبت «مى زيادة» وألقت نصوصًا عديدة تتأبى على كل تصنيف جاهز.

وفى هذه النصوص يمكن بسهولة ملاحظة روح إبداعية متحررة،مبثوثة ومتناثرة هنا وهناك، بخفاء أو بوضوح، مثلا، فى كتابها (سوانح فتاة) «حواريات»عديدة مع شخصيات ومع أصوات ومع رسائل، فضلًا عن «نص درامي» معنون بـ»ساعة مع عيلة غريبة»، وفى هذا الاتجاه نفسه نجد نصًا آخر لها فى كتابها (كلمات وإشارات) تحت عنوان:»مساجلة الرمال».

والنصان معا يجاوزان التقاليد الشائعة فى كتابة الفن المسرحى (ولعلهما يلتقيان معا، أو تلتقى معهما، تجربة النصوص الدرامية التى كتبها نجيب محفوظ فى فترة الستينيات، ونشرها فى بعض مجموعاته القصصية)، وأيضا فى كتابيها: (ظلمات وأشعة) نجد مقاطع كثيرة أقرب إلى قصائد النثر، وبجانب هذا، هناك مقالات لمى ذات طابع خاص تتصل بما يمكن تسميته «المقالات الوجدانية».

وكثير منها حاضر فى كتابها (كلمات وإشارات)، ومن ذلك نصها «هو ذا الربيع»، كما أن لها مقالات تنحو منحى قصصيًا، ومن ذلك نصها «السر الموزع»، ومقالات أخرى تنهض على النزوع للتأملات المحلّقة التى تجاوز حدود الزمن والمكان، ومنها «نشيد إلى ينابيع روما».. ومثل هذه المقالات عديدة فى كتابها (كلمات وإشارات).

ولميّ أيضا كتابات قريبة من شكل «اللوحات القلمية»، فى كتابها (الصحائف)،ولكنها تتجه وجهة أخرى مختلفة عن تلك التى نلاحظها فى كتابات «يحيى حقي»، وفى هذه الكتابات توقفت «ميّ» عند شخصيات مثل «شبلى شميل»، و«وليّ الدين يكن»، و«إسماعيل صبري»، كذلك تستلهم «مي» ملامح أدب الرحلة استلهامًا خاصًا فى نصها «رحلات السندباد البحرى الثاني»، الذى يستدعى ويستعيد السندباد الأول، فى الحكاية الشعبية القديمة.

ولكنه ينأى عن تجربته واهتماماته ليرتبط بعالم مى زيادة وانشغالاتها، كذلك يفتتح بعض نصوص «مي» مسارًا جديدًا فى وجهة «المراثي» التى اقترنت فى بعض ما كتبت بوداع الراحلين الذين عرفتهم وعرفوها، واقتربت منهم واقتربوا منها، وأشهرهم «يعقوب صروف» و«داود بركات»، وغيرهما.

وفى (النصوص المجهولة لمى زيادة) تمثيلات أخرى على خوضها مغامرات إبداعية خارج التصنيفات الجاهزة، أو التى كانت جاهزة فى زمنها، ومن هذه النصوص المغامرة نصها «ثقلاء الشارع» الذى يستن صيغة أدبية يمكن تسميتها «أدب المشاهدات».

وفيه تبدأ «مي» برصد قصصى لمشاهد استوقفتها، ثم تنتقل إلى طرح قضايا عديدة حول هذه المشاهد، ومن هذه النصوص المغامرة أيضا نصها «خواطر متناثرة» الذى ينبنى على نوع من «الارتحالات الثقافية».

وفيه تتجاور الوقائع والحقائق والتأملات والتخيلات التى تنطلق بحريّة فى مسارات مفتوحة.
هذه التمثيلات جميعًا، وغيرها كثير فى كتابات «مى زيادة»، تجسّد سعيها الدائب لاستكشاف أشكال جديدة للكتابة.

والمُضيّ بعيدًا فى مسارات غير مطروقة، وكلها تؤكد أن تجربة مى زيادة، الكبيرة والغنية والمتنوعة، تحتفى بذلك التصور الصائب، القديم المتجدد: أن الإبداع الحقيقى يصعب حصره فى قواعد جاهزة، وهو يتحرر دومًا من أطر التصنيفات الضيقة المحدودة.

اقرأ أيضا |  مى زيادة (1886 ـ 1941) صاحبة تجربة إبداعية وثقافية وفكرية كبيرة