سيظل القلب يبكيك

محمد درويش
محمد درويش

محمد درويش

أمس أعددت عدتى؛ كعادتى كل ظهيرة سبت؛ لأستقبل ورقه وقلمه «مقاله كل أحد»، لا أنتظره بحكم تكليفى فقط بمتابعة مقالات الجريدة، ولكننى أنتظره بعين قارئ يُحاول أن يكون محايدًا وهو يُطالع أفكارًا تكتب بمداد يسرى فى دماء محب للوطن غيور عليه يستشرف من ماضيه وحاضره ما يضعه خريطة عمل واستراتيجية للمستقبل.
كثيرًا ما كنت أتوقف عند كلمة ربما أطالعها لأول مرة فى قاموس لغتنا العربية التى تملك ناصيتها باقتدار، وأسأله على استحياء كالتلميذ الذى يسأل الأستاذ وقد بلغت من العمر أرذله، تجىء الإجابة شارحًا باستفاضة معنى الكلمة، وأقترح عليه استبدالها بمرادف يستسيغه القارئ، أحيانًا كان يرضخ للاقتراح، وكثيرًا ما يقنعنى بأنها مناسبة جدًا للمعنى، حتى إنه كان يعتبرنى «ترمومتر»، القراءة، ولكنه قادر ببساطة أن يستميلنى فى صفه، وأرضخ أنا لما قصده من تعبير أسلوبيًا أو مصطلحًا نادرًا استخدمه فى جملة لا تستطيع استبدالها.
كان يُخاطبنى منذ زمن بـ»الكبير» وعندما أداعبه قائلًا لما أنا الكبير يبقى حضرتك الكبير قوى قوى.
نعم كان كبيرًا بترفعه عن الصغائر، كان كبيرًا بزهده عن أى متع من متاع الدنيا غير ورقته وقلمه، لا أذكر أنه حصل على إجازة مصيف مثلًا، كل ما أذكره أنه منذ سنوات بعيدة عاد من مطروح تاركًا أسرته بعد يوم واحد من سفره ليلقى بنفسه فى أتون صاحبة الجلالة التى لو عصرت كيانه كله لخرجت منه أحبار الطباعة بدلًا من دمه ولتراصت حروف الفكر الخلاق فى سطور هى السهل الممتنع الذى يستعصى على غيره سواء من جيله أو جيل سابق أو جيل لاحق، كان عبقريًا يجمع الكثير من معارف الدنيا بين دفتى عبقريته، فى التاريخ يُحادثك، وفى العسكرية والسينما والفن والأدب والاقتصاد والرياضة، ليس هناك مجال يغيب عنه ولا شاردة ولا واردة فى دنيا الصحافة لا يدركها.
كتبت عنه «عرفناه قبل أن نعرف جوجل» ببساطة شديدة، وفى ذروة انشغاله بكتابة موضوع أو مقال ونحن بعيدًا عنه فى صالة التحرير نتحاور فى موضوع ما، يتدخل مصححًا أو معدلًا لدفة الحوار أو مضيفًا لمعلومة غائبة عن أطراف المتحاورين.. يبكيك القلب، وبكاء القلب لا يتوقف مثلما قد تتوقف العيون عن أن تذرف الدموع.
لا أملك إلا الدعاء لك بأن يسبغ الله عليك غفرانه ورضوانه ويسبغ على أسرتك الكريمة الصبر والسلوان ويربط على قلب زوجتك العزيزة الزميلة أمانى ضرغام وأولادك ويسبغ عليهم الصبر والسلوان.