حين ألقت العمارة الإسلامية بظلالها على القارة العجوز l مبانى أوروبا.. بملامح عربية!

الجذور العربية واضحة فى العمارة القوطية
الجذور العربية واضحة فى العمارة القوطية

رشيد غمرى

أثار كتاب "السرقة من العرب.. كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا" ضجة فى الغرب، لتبنيه فكرة أن العمارة الأوروبية من كاتدرائيات وقلاع وقصور مدينة بالفضل للعمارة العربية الإسلامية، وأخذت منها أشكالا وتقنيات، وطمست جذورها، لتنسب إلى العمارة الرومانية، قفزا على حقيقة أن الأوروبيين تعلموا خلال العصور الوسطى من العرب أصول البناء، ضمن ما نقلوه من علوم وأفكار ازدهر بها العالم الإسلامى وقتها.

 

الكتاب من تأليف المختصة بتاريخ الحضارات دايانا دارك، والتى تباينت المواقف حول عملها، واتهمها البعض بالمبالغة، ولأول وهلة فإن الدراسة تبدو مفاجأة عندما تريد إقناعنا بوجود علاقة معمارية بين كاتدرائية "نوترادم" فى باريس على سبيل المثال والجامعين الأموى فى دمشق وابن طولون فى القاهرة، وأن طراز القوطى برمته يقوم على أسس العمارة العربية، فهل تعلم المهندسون الأوروبيون حقا على أيدى العرب؟ وكيف انتقلت التقنيات المفترضة وسط أجواء الصراع والشد والجذب على الحواف المحتدمة بين العالمين؟

والإشارة للجذور العربية لبعض الأنماط المعمارية الغربية ليست جديدة تماما، لكنها ذكرت على استحياء من وقت إلى آخر، العالم والمعمارى الإنجليزى كريستوفر رين، وخلال القرن السابع عشر، كان أول من لفت الانتباه إلى الجذور العربية للعمارة القوطية، وذكر أن التأثير كان متبادلا، وقبل ذلك كان الشائع فى كتابات الأوروبيين أنها تطور للعمارة الرومانية، فى وقت احتدم فيه النزاع حول قيمتها من الأساس، فالظاهرة المبهرة التى تفشت فى ربوع أوروبا بأبنيتها المهيبة بين القرنين الثانى عشر وحتى السادس عشر، كانت محل ازدراء لدى مثقفى عصر النهضة، والذين رأوا أنها نتاج القبائل القوطية الجيرمانية الهمجية، التى غزت عدة مناطق فى أوروبا، وفرضت نمطها على حساب الطابع الرومانى بعد تخريبه.

 

 وفى كتابه "العمارة القوطية" أشار المؤرخ الفنى "لويس جروديكي" إلى أن تحديد ما هو قوطى يعتبر من الأمور الشاقة، والمصطلح نفسه لم يظهر إلا أواخر القرن السادس عشر، وقبل ذلك أسماه "جورجيو فاسارى" "النمط الألمانى البربرى". أما الإيطالى "جيانوزو مانينى" فوصفه بأنه مقدمة بربرية لعصر النهضة، كما ورد لفظ قوطى بمعنى "مخرب" فى قصيدة لموليير بعنوان "لاجلورا" وهو المعنى نفسه الذى تبنته اللغة الإنجليزية خلال القرن السابع عشر، لكن أعيد الاعتبار له أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وبدأ التباهى بالقوطية، بل والتنازع حول ما إذا كانت نتاج العبقرية الألمانية أم العظمة الفرنسية، قبل أن تتفجر المفاجآت حول دور العمارة العربية فى نشأتها.

 

ولأول وهلة، قد يبدو الأمر غريبا، لأن الأشكال المعمارية القوطية من حيث الظاهر تبدو بعيدة عن قرينتها العربية المبكرة، فالعمارة القوطية تتميز بحوافها المدببة، والتى تشبه النصال، كما أنها تبعث على الرهبة، وليس على الخشوع، خصوصا ما يحمل منها تماثيل مخيفة، كانت محرمة بالأساس ضمن عناصر الأبنية الإسلامية، وقد تعمد المسلمون الابتعاد عن التصوير التجسيدى إلى التجريد الزخرفى القائم على التكرار، تعبيرا عن ذوبان الكل فى الواحدية اللانهائية، كما احتفت بالحرف المقدس حامل التنزيل.

 

ووسط الأفكار المسبقة والنظرة السطحية، جاء كتاب "دارك" ليحدد عناصر التشابه بين العمارتين القوطية، والعربية. ومنها القوس المدبب، والذى استخدم فى الأبواب وحوامل الأسقف، ومحيط الأروقة، وكان قد ظهر مبكرا فى أبنية مهمة بالشام والعراق كقصر سامراء والمسجد الأقصى عند إعادة بنائه فى العصر العباسى، وجامع ابن طولون فى القاهرة، وجامع القيروان عند إعادة بنائه، حتى أنه صار أحد العناصر المميزة للعمارة الإسلامية. كذلك اعتمدت "القوطية" على الأقبية ذات الضلوع، والقباب المضلعة، والنوافذ المزدوجة أو التوأمية، والقباب القائمة على أقواس متقاطعة، ودعابات القباب الطائرة، وكلها مأخوذة من العمارة العربية.

 

 ويظهر بوضوح أن الحوامل البارزة ذات التقاطيع، قد انتقلت من مسجد قرطبة الكبير، ليستخدمها الفرنسيون، ثم حوروها لتبتعد عن أصلها العربي، كذلك انتقلت الأقبية ذات النتوءات من قرطبة إلى كاتدرائيات شمال أسبانيا مثل كنيسة "طوريس دل ريو" وكنيسة "سان ميان" وكلها ترجع إلى الطابع الأندلسى الأموى، كذلك الوضع بالنسبة للشبكات المخرمة، والعقد المتعدد الفصوص، وفى القرن التاسع أرسل الإمبراطور "تيوفيلوس" سفيره إلى بغداد لتقصى عمارتها، وعاد ليبنى له قصرا يحاكى قصورها عند مدخل القسطنطينية، وتأثرت قصور فرنسا القرن الرابع عشر بالقصور العربية فيما يتعلق بالبرجين عند المدخل ومزاغل السهام الدفاعية، وفتحات المراقبة والأبراج الصغيرة، واستخدمت المقرنصات والزخارف العربية فى الكنيسة الأرمينية فى مدينة "لوبوق" البولندية التى شيدت فى القرن الرابع عشر، ويبدو التأثير الإسلامى واضحا فى الكثير من العمارة الإيطالية، ومنها برج قبة "سوليتو" فى مدينة بيزا، والتى تشبه مئذنة جامع سنجر الجاولى بالقاهرة.

 

أما تأثير الخط الكوفى فى زخرفة العمارة الأوروبية، فهو مدعاة للعجب، حيث وصل الأمر إلى حد الافتتان، فنقل الأوروبيون أحيانا عبارات إسلامية مكتوبة به، ووضعوها ضمن الكنائس دون فهم معانيها على الأغلب، وظهرت الكتابات الكوفية على الأبواب الخشبية والواجهات الحجرية، وقطع الأثاث، كما فى باب كنيسة "بوى" التى كانت عاصمة مقاطعة "فيليه" غرب فرنسا، وشاع الأمر فى غيرها من كنائس المنطقة نفسها والقريبة من أسبانيا، وفى بعض الأحيان كان يتم استبدال الحروف، لتتحول إلى كلمات بلا معنى، لأن المهم كان طابعها الجمالى، وبلغ الأمر مداه عندما قام الأوروبيون بتطوير شكل الحروف اللاتينية نفسها لتحاكى زخرفة الحرف الكوفى. كما ظهر فى رسوم الفنان "جوتو دى بوندونى".

 

ويبدو أن تأثير العمارة العربية على أوروبا لم يتوقف عند العصور الوسطى كما يشير كتاب "دارك"، حيث ظهر فى أبراج الأجراس بكنائس عصر النهضة، التى استلهمت المآذن المغربية، كما أن قبة كاتدرائية فلورنسا المشيدة مطلع عصر النهضة على يد المعمارى "برونليسكي" تستند إلى العمارة العربية، وإلى أعمال ابن الهيثم تحديدا. وفى "باليرمو" الإيطالية أنشئ قصر "العزيزة" على الطراز العربى، حيث تدور غرفه العالية حول باحة مفتوحة كما فى الرياض المغربى والبيوت الشامية. واستلهمت العمارة الشامية أيضا فى حصون مدينة صقلية. كما استلهم الإنجليز المشربيات العربية فى صنع أسيجة معدنية.

 

واستمر استلهام العمارة العربية فى بلغاريا حيث ظهرت العقود نصف الدائرية والواجهات ذات السقيفة فى دير القديس يوحنا فى مدينة "ديلا" فى القرن التاسع عشر، وفى نهايات القرن نفسه بنى رجل أعمال من أصول مشرقية مصنعه على هيئة مسجد، ليمنحه التميز وسط العمارة الباروكية فى مدينة "دريسدن" الألمانية، وهناك بناء آخر على شكل مسجد تونسى على بحيرة فى مدينة "بوتسدام" الألمانية، كما يوجد بناء ثالث فى أحد أحياء فيينا الراقية له مآذن وقباب الجوامع الإسلامية، وفى منطقة "برايتون" الإنجليزية عدة أبنية مستوحاة من المعمار الإسلامى الهندى، كما يوجد مبنى على شكل مئذنة يرجع للقرن الثامن عشر فى إحدى الحدائق التاريخية بجمهورية التشيك. كذلك تأثر المعمارى "أنتونى جاودى" بعمارة الأندلس عند تصميمه كاتدرائية "ساجرادا فاميليا" فى برشلونة.

 

وتبدو الظاهرة طبيعية فى إطار عملية التلاقح الحضارى، بين منطقتين متجاورتين، حيث شاهد الأوروبيون العمارة العربية خلال رحلات الحج إلى القدس، وعبر روائع العمارة الأندلسية، والتى انتقلت بسرعة إلى فرنسا، وقد وصل تأثير جامع قرطبة مداه فى كنائس "جليفيه" ومن أشهرها "كنيستا "سانتا جودى بنياليا" و"سان مارتينو دى باثيو" كما امتد التأثير إلى مناطق أبعد، وتشهد كنيسة مستشفى "سان بليز" فى فرنسا بالقرب من الحدود الإسبانية على عبور الطابع العربى والذى يظهر فى البناء الشرقى ورواقه الأوسط وقبته، وانتقلت أيضا عبر صقلية التى وقعت تحت الحكم العربى، وظل تأثير العمارة العربية واضحا فى عمارتها النورمانية فيما بعد، وامتد إلى مناطق عديدة جنوب إيطاليا.